"إلى زعماء وحكام أمتنا العربية نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشك ودباباتكم -لا سمح الله- ولا أن تدافعوا عن أقدس مقدساتكم التي تنتهك فيها الحرمات من قبل شذاذ الأفاق خريجي معازل الغيتو، ولا أن تغضبوا لشتم نبيكم في قلب مسراه ومعراجه إلى السماء، لا نطالبكم بذلك، فنحن أخذنا على عاتقنا كنس هذا الاحتلال وإساءة وجهه والقتال عن شرف أمتنا وديننا ومقدساتنا وأرضنا بما نمتلك من إمكانات بين أيدينا صنعناها من الصفر وبنيناها من المستحيل. ولكن هل وصل بكم الضعف والعجز أنكم لا تستطيعون تحريك سيارات الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى جزء من أرضكم العربية الإسلامية الخالصة رغمًا عن هذا العدو المهزوم المأزوم؟ فهذا ما لا نستطيع فهمه ولا تفسيره".
- أبو عبيدة، 28 تشرين الأول/أكتوبر 2023
انتشرت كلمات "أبو عبيدة"، الناطق العسكري باسم كتائب عز الدين القسّام، بسرعة ملفتة وصارت مثلًا في ساعات قليلة، وكأنها خطاب نصر، لا خطاب تأنيب ضمير الأمة العربية والإسلامية، وأمست جملة "لا سمح الله" الاعتراضية مثارًا للسخرية من العجز وقلة الحيلة الذي تظهر به الأنظمة العربية والإسلامية منذ بدء معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
صار "أبو عبيدة" بلغته العربية الفصيحة وخطابه الإسلامي المفعم بأعمق المعاني الإسلامية محببًا -ولا أقول مقبولًا وفقط- عند الجماهير العربية والإسلامية، وصار بكوفيته الحمراء رمزًا عند كثيرين من المغردين والناشطين ورموز الحركة المناوئة للسردية الصهيونية على مواقع التواصل الاجتماعي. صار خطاب حركات المقاومة ليس مقبولًا فقط، بل مطلوبًا عند كثيرين من العرب لما يعبر به عمّا يجول في نفوس وخواطر الشعوب العربية مما يحدث في فلسطين ولاسيما قطاع غزة.
وبين المقبولية والطلب برز إلى كثير من مربعات النقاشات المتعلقة بمرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت مسألة تغييب الإسلاميين وإرثهم المتعلق بدعم الفضية الفلسطينية في البلاد العربية، فقد الشارع العربي بغيابهم عاملًا اجتماعيًا وثقافيًا وتربويًا هامًا في سبيل دعم القضية الفلسطينية، ولاسيما في البلد الذي أنتمي إليه "مصر"، حيث أثار تغييب الإسلاميين إثر حملة إقليمية قمعية مروّعة بدأت منتصف عام 2013 إلى تغييب الإسلاميين عن الفاعلية السياسية والاجتماعية والثقافية، وبات الإسلاميون في بلاد عربية عدة -بفعل خطاب إعلامي- يعانون من التضييق السياسي، والوصم اجتماعي، والحصار اقتصادي، ناهيك عن الملاحقات الأمنية الانتقامية غير المسبوقة، وتلاشت أدوارهم التعبوية في حشد الشارع المصري والعربي بوجه عام نحو الاهتمام والوعي وتأييد قضية فلسطين من جوانب عدة.
صار "أبو عبيدة"، بلغته العربية الفصيحة وخطابه الإسلامي، رمزًا عند كثيرين من المغردين والناشطين ورموز الحركة المناوئة للسردية الصهيونية على مواقع التواصل الاجتماعي
بات استحضار أدوار الإسلاميين التاريخية، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في دعم القضية الفلسطينية واضحًا، فأبناء أجيال شهدت استشهاد محمد الدرة عام 2000، وإيمان حجو عام 2001، والشيخ ياسين عام 2004، وما تلاهم من تظاهرات غاضبة في الشارع المصري والعربي لا يغفل التذكير والحشد الدائم الذي مارسته الحركات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان باسم التعريف بقضية فلسطين في المدارس والجامعات والحواضن الاجتماعية الأخرى، مثّلت القضية بالنسبة إلى هذه الحركات مخزونًا للتعبئة والحشد الجماهيري، ظهر أثره المتراكم عبر الأجيال، وقادت عبر الحواضن التي تبسط فيها نفوذًا كبيرًا، كالجامعات والمدارس والنقابات المهنية، حملات واسعة للتذكير ودعم القضية الفلسطينية وإبقاءها في ذهن المواطن المصري، حتى في أوقات لم تكن فيها بنصف هذا الزخم التي هي فيه الآن.
أتت عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر بقيادة فصائل المقاومة الفلسطينية، وأبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، بآثار خارج حدود فلسطين التاريخية، أبرزها -وهو ما أحاول فهمه هنا- إعادة مقبولية الخطاب الإسلامي للواجهة، فعلاوة على التذكير بدورهم المحوري في دعم القضية الفلسطينية - إلى جانب حركات قومية ويسارية أخرى بالطبع- سلط السابع من تشرين الأول/أكتوبر الضوء على سلبية الأنظمة العربية في الدول المحيطة بفلسطين -يُشار إليها قديمًا بدول الطوق- وأبرز عدم تمكّن الموقف الشعبي من الوصول الانعكاس على تحرّك الحكومات، مما أوضح جليًا أن الأنظمة السياسية في جهة والموقف الشعبي -لاسيما في مصر والأردن- في جهة أخرى، ومما فاقم الوضع سوءًا، هو الموقف السلبي المستتر من المقاومة الفلسطينية، في مقابل خصوم الأنظمة السياسية من الإسلاميين الذين بنوا الكثير من خطابهم وحركتهم في الشارع العربي على دعم المقاومة الفلسطينية والتذكير بقضية فلسطين.
وعلى قدر ما كانت الاستجابة من وسائل الإعلام المدارة من قبل الأنظمة العربية المعادية للإسلاميين مفاجئة بُعيد 7 تشرين الأول/أكتوبر من ناحية تأييد المقاومة الفلسطينية، بل والثناء عليها، لئلا توضع في حرج أمام الرأي العام الطاغي في انبهاره بدقة العملية، وبراعتها، وانهيار فرق كبيرة في جيش الاحتلال في ساعات معدودات، إلا أن انتباه الأنظمة التي تأسست سردياتها على معاداة الخطاب الإسلامي واتهامه الدائم بالإرهاب، بل وقيام عدد من الأنظمة بالتأسيس لهذا الخطاب والقيام عليه، كان سببًا لخطوة للخلف اتخذتها عديد من وسائل الإعلام لترديد سردية مفادها خطأ حركتي حماس والجهاد في تقدير الموقف، بل والأدهى تحميلهما مسؤولية ما يقع من دمار غير مسبوق في قطاع غزة، ومسؤولية الحشد الغربي ضد الفلسطينيين وتبرير قتلهم لا انحطاط القيم الغربية التي لا تساوي بين البشر، بل وتطرف البعض في اعتبار أن عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر جرت بتواطؤ إسرائيلي مع حماس، وإلى ذلك من الخرافات، التي تخدم فكرة الأنظمة السياسية التي عادت إلى خطئها في معاداة المقاومة طالما أنها تنهل من نهل إسلامي.
انتبه صنّاع الإعلام النظامي في بلدان عاشت العقد الماضي على سحق الإسلاميين بكل ما أوتيت من قمع، وارتكاب جرائم بشعة في حقهم من أن تمازج خطاب إعلامها مع المزاج الشعبي المؤيد للمقاومة بالطبع ربما يتيح فرصة إلى الإسلاميين كي يعيدوا إنتاج نفسهم مرة أخرى من بوابة "طوفان الأقصى"، وأن يتم البناء على عاملين مهمين: مقبولية خطابهم، وإرثهم التاريخي في مساندة ودعم والحشد لتأييد القضية الفلسطينية والفراغ الذي حدث بعض إجلائهم عن الفاعلية بفعل قمع الأنظمة السياسية، مما حالها إلى سيرة غريبة في التفريق بين المقاومة والشعب ونقد المقاومة تحت النيران، رغم ذلك كان القطار قد فات إعلام الأنظمة أمام التأييد غير المسبوق الذي حازته المقاومة بفعل إنجازها الميداني وبراعة تسويق هذا الإنجاز الذي أعطب الآليات العسكرية الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، على الإسلاميين أن ينتبهوا إلى أهمية وجودهم الاجتماعي والتوعوي في المجتمعات العربية، وأن يعملوا في الفترة المقبلة على إعادة إنتاج أنفسهم مرة أخرى وفق منطق الفرص المتاحة، وبأجيال واعية لأهمية وجودهم، وعبر التيقّن أن المرحلة المقبلة لا تستلزم الوقوف أمام الأنظمة العربية الهشّة فقط، بل الوعي بأنها تقف أمام النظم الغربية التي تعي جيدًا أن عودة الإسلاميين بقوة وعبر مفاهيم جديدة تعي منطق الحكم وأهمية الديمقراطية كعامل لقوة الدولة، يعني تهديدًا حقيقيًا لأمن إسرائيل مرة أخرى.