يُهيمن التصوّف بطرقه السنّية المختلفة على الفضاء الجزائريّ منذ قرون، حتّى أنّ الجزائر باتت تحتضن المقرّات العالمية لبعضها، مثل الطّريقة التيجانية، التّي يقول الباحثون إنها تحصي من الأتباع ربع عدد المسلمين في العالم.
يُهيمن التصوّف السني بطرقه المختلفة على الفضاء الجزائريّ منذ قرون، حتّى أنّ الجزائر باتت تحتضن المقرّات العالمية لبعضها
وسبغ هذا الإرث في التديّن، الهوّية الدّينية في البلاد، بملامح خاصّة تُلخّص في الثلاثية المعروفة: "عقيدة الأشعري ومذهب الإمام مالك وطريقة الجنيد السّالك".
اقرأ/ي أيضًا: الهوية الجزائرية.. من الاحتلال إلى الإهمال
أضحت هذه الهوّية الدّينيّة، بالتّراكم والممارسة، نظرة إلى الحياة والموت والوجود، وترتّبت عنها عادات وتقاليد وطقوس اجتماعيّة وثقافية وفنّية وإنسانية، حفظت للمجتمع الجزائري تماسكه على مدار القرون، بما مكّنه من تجاوز جميع الفخاخ التي اعترضت كينونته، في مقدّمتها فخاخ الاحتلالات الأجنبية، كان آخرَها وأشرسَها الاحتلال الاستعماري الفرنسي ما بين عامي 1830 و1962.
إذ لم تراهن النّظرة الاستعمارية الفرنسية في احتلالها للجزائر على القوّة العسكرية، بقدر مراهنتها على الطّمس الثقافي والحضاري واللّغوي للمجتمع الجزائري، فعمدت إلى تسخير إمكانياتها لتذويبه في ثقافتها وحضارتها ولغتها وهوّيتها، والتعامل معها بصفتها مقاطعة فرنسية.
غير أنها منيت بفشل صارخ في هذا الباب، بالنّظر إلى المقاومة الرّوحية والثقافية، التي واجه بها الجزائريّ المدّ الفرنسيّ معتمدًا على هوّيته الحضارية المذكورة.
ومن بين تجلّيات هذه الهوّية، ارتباط الفضاء الجزائريّ بالمولد النبوي ارتباطًا روحيًا، منذ القرن الخامس الهجري، في زمن الدّولة الفاطمية، قبل أن تنتقل عاصمتها إلى مصر.
ثمّ تكرّس هذا الارتباط مع الدّويلات التي خلفتها، منها الدّولة الزّيانيّة الأمازيغية، حيث ظهر ما يعرف بـ"الأسبوع"، وهو تقليد لا يزال ساري المفعول والتّفاعل حتّى اليوم في معظم الجنوب الصّحراويّ، خاصّة في منطقة توات.
واستقرّ في الأذهان والوجدان، على مدار تسعة قرون على الأقلّ، أنّ النّسيج الجزائريّ يظل هامدًا حتّى إذا حلّ المولد انتعش ودَبّ وغرق في طقوس تتعلّق بمأكله ومشربه وملبسه وعلاقاته الاجتماعية وعباداته، بما دفع منظمة "اليونيسكو" إلى تصنيف تظاهرة "الأسبوع" في الجزائر تراثًا إنسانيًّا.
بالموازاة مع هذا الاحتفاء لأكبر منظمة راعية للثقافة والفنون والعلوم في العالم بهذه التّظاهرة التي باتت من صميم الهوّية الثقافية للجزائريين، انطلقت الآلة السّلفية السّعودية، من خلال أتباعها في الشّارع الجزائري، في اعتبار الاحتفال بالمولد النّبويّ بدعة خارجة عن الدّين، وسخّرت جهودًا كبيرة في إقناع الجزائريين بذلك، بما خلق اختراقًا للهوّية الوطنية بمنطق التّشويش لا النّقاش.
وكان الأمر سيكون مقبولًا لو أنّ السّلفيين الذين يستقون أفكارهم ورؤاهم وأحكامهم من المخبر السّعودي، تناولوا القضية بروح النّقاش والحوار والمناظرة، ذلك أنّنا في زمن مفتوح على مختلف الوسائط، أمّا أن يتناولوها بروح الفرض والإجبار، ويعملوا على إطلاق أحكام جاهزة ومعلّبة على شعب مرتبط بها منذ قرون بتزكية من علمائه وصلحائه ومشايخه، وكأنّ العلم والصّلاح والمشيخة حكر على آل الشّيخ ومن لفّ لفّهم في السّعودية، فإنّ الأمر لا يمكن أن يُفهم خارج كونه تعسّفًا، حتّى لا نقول إنّه اختراق سعودي للأمن الاجتماعي والفقهي الجزائري.
انطلفت الآلة السلفية السعودية في الجزائر، في اعتبار الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، بل وخرّجت الصوفية من الملة المحمدية!
هنا، تنبغي الإشارة إلى أنّ النظام السّياسيّ في الجزائر، في السّنوات الأخيرة التي طغى فيها إحساسه بعدم شرعيته في الأوساط الشّعبية؛ منح للسّلفيين الذين يُحرّمون الخروج على الحاكم وتناوله بمجرّد النّقد، من المنابر والإمكانيات وغضّ البصر ما نقلهم من مقام كانوا فيه شركاء في الفضاء والتّواجد، وهذا من حقّهم، فهم في النّهاية شطر من الاجتماع العام، وينبغي أن تمنعنا روحنا الدّيمقراطية من العمل على استئصالهم. إلى مقام التغوّل وإلغاء المذاهب والرّؤى الأخرى، بما فيها تلك المتأصّلة في الإنسان والمكان الجزائريين.
لقد تجرّأ عميد القوم في الجزائر، الشّيخ محمّد علي فركوس، قبل شهور قليلة، على إصدار فتوى أخرج فيها المتصوّفة من الملّة المحمّدية. ولم يجد من النّظام القائم من يقول له إنّ هذا لا ينبغي لك، إن لم يكن من باب أنّ ذلك يخلق فتنة شعبية قد تؤدّي إلى تفكيك المجتمع، بحكم أن غالبية الجزائريين ينتمون إلى طرق صوفية، فمن باب أنّ رئيس الجمهورية نفسه صوفيّ ومشجّع للطرق الصّوفية.
لكنّ حاجة هذا الأخير إلى فتوى تحريم الشيخ للخروج عن الحاكم وللإضرابات الاحتجاجية، تغلّبت على مسؤوليته في الحفاظ على الأمن الاجتماعيّ العام.
هنا، نطرح هذا السّؤال احترامًا للعقل: ألا يرجع السلفية في الجزائر في أحكامهم إلى مرجعياتهم في السّعودية؟ فما معنى أن يأخذوا موقفًا من الجزائريين المتصوّفة والإباضية، في الوقت الذي لا تهمهم فيه أحوال المجتمع المعيشية والمصيرية؟
اقرأ/ي أيضًا: