لا أتقن اللغة الإنجليزية، لذا لا أتابع استجوابات الرئيس الأمريكي، أو الوزير الأول البريطاني. وعلى عكس ذلك، فقد كنت دائمًا مولعًا بمتابعة استجوابات رؤساء فرنسا، وهذا منذ رئاسة الجنرال. لا يمكن للمرء أن ينكر متعة الإصغاء إلى ردودهم، ومهارة بعض السابقين منهم في إدارة الحوار، واطّلاعهم الواسع على الآداب الفرنسية على وجه الخصوص. وقد استمرّ ذلك حتى عهد فرانسوا ميتران. ويمكننا أن نقول إن ما اتسمت به حوارات هذا الأخير، ومن تقدموه، هو الهيبة التي كان الصحفيون يحسبون لها ألف حساب. ومع تتابع الرؤساء الأخيرين أصبحنا نفتقد هذه الهيبة، كما نفتقد سعة الاطلاع ورقيّ اللغة اللذين كنا نجدهما عند السابقين، الذين كان بعضهم يرقى إلى توظيف الأشعار في ردوده، شأن جورج بومبيدو.
سعى المتأخرون من رؤساء فرنسا إلى تعويض الهيبة المفقودة بمحاولات خلق شيء من الحميمية مع رجال الصحافة. وهكذا أخذنا نلحظ أن الرئيس، عند كل مقابلة، يبالغ في ذكر الاسم الشخصي للصحافي
سعى المتأخرون من رؤساء فرنسا إلى تعويض تلك الهيبة بمحاولات خلق شيء من الحميمية مع رجال الصحافة. وهكذا أخذنا نلحظ، على سبيل المثال، أن الرئيس، عند كل مقابلة يعقدها مع أحد الصحافيين، يبالغ في ذكر الاسم الشخصي للصحافي. ومثال ساركوزي خير دليل على ذلك. فقد كان لا يفتأ بين السؤال والسؤال، وأحيانًا بين العبارة والأخرى، يردّد الاسم الشخصي لمستجوبه بالكامل. وبطبيعة الحال، نحن نعرف هذا الاسم الذي لا يفتأ سيادة الرئيس يذكّرنا به، فلا نكون في حاجة إلى هذا التذكير. وكثيرًا ما نتبين أن ذلك يخلق لدى الصحافي نوعًا من الارتباك، أو على الأقل، فهو يوحي للمشاهد أنه يفضّل أن يعامله الرئيس باعتباره صحافيًّا من بين صحافيين، وليس فلانًا بن فلان. كثير من الصحافيين لا يخفون أنهم على وعي بأن وراء هذا التّقريب الذي يحرق المسافات مرامي أخرى، إلا أنّهم لا يملكون إلا أن يواصلوا الحوار كما لو لم يكن في الأمر ما يدعو إلى الارتياب.
والحقيقة أنّ تبرير المسألة ليس بالأمر الهيّن. إذ ما المقصود بهذا الإصرار على أن يشعرنا الرئيس، نحن قبل الصحافي، أنه يخاطب الرجل خارج البروتوكول، بل وباسمه هو بالذات. قد يرى البعض في ذلك تعويضًا عن أمور أخرى، أو تصيّدًا لتقارب مفتعل، وتواطؤ مع الصحافي، إلا أن هذا التبرير لا يبدو كافيًا، وعلى أيّ حال فالرئيس ليس في حاجة إلى تواطؤ أحد الصحافيين لتوجيه الأسئلة، وبالأحرى لابتكار الأجوبة. والظاهر أن الصحافي المسمّى ذاته ليس هو المقصود في العملية، وإنّما نحن المشاهدين الذين نرى الرئيس وهو يحاور صحافيًّا يخاطبه باسمه الشخصي. وربما ما يزعج الصحافي ويربكه هو أنه حتى هو نفسه يدرك أن المقصود في العملية ليس هو بالضبط، وأنه وسيلة لمرمى آخر يستخدم آلية كثيرًا ما يلجأ اليها أصحاب الهيمنة والنفوذ، وبالضبط لإثبات هيمنتهم وبسط نفوذهم، والتمكن من مكانة لائقة، وافتعال هيبة ظاهرية على الأقل. هذه الآلية هي ما كان رولان بارت قد عبّر عنه بعبارة بسيطة: "إن هؤلاء، لكي لا يكونوا مثل الجميع، فإنهم يسعون أن يبدوا مثل الجميع".
يستعمل بيير بورديو كعادته، وربما لتحليل أكثر عمقًا، عبارة أكثر تعقيدًا. فهو يرى أن صاحب الهيمنة يتنازل ويتنحى عن موقعه ومكانته "في سبيل أن يضع نفسه في مستوى محادثه، وهو يستفيد بذلك مرّة أخرى من علاقته القائمة على الهيمنة التي تستمرّ في الوجود حتّى وإن أنكرها". هذا الإنكار الرّمزيّ الذي يضع علاقة الهيمنة بين قوسين ويعلّقها إلى حين، لا يعمل في الحقيقة إلا على استثمار علاقات القوة بهدف خلق الاعتراف بعلاقة الهيمنة الّتي يستدعيها هذا الإنكار، من أجل توظيفها في خلق هيبة حتى وإن كانت ظاهرية.
وما يزيد المسألة تشابكًا وتعقيدًا، وربما ما يفسر ارتباك الصحافي، بل انزعاجه في بعض الأحيان، هو تبيّنه أن المعنيّ بهذا الاعتراف ليس هو الصحافي المخاطب باسمه، وإنما جمهرة المشاهدين الذين لا أسماء لهم، والذين يتابعون حوار رئيس يصرّ على أن يكون "مهيبًا".