انتقلنا، نحن البشر، إلى حيز المشاهدة، المشاهدة وحسب، فالمنصات الإلكترونية أفقدت الجسد وظائفه وألغت أدواره، وغدا عمله مركّزًا على العين التي باتت محدقةً طوال الوقت بالشاشة، وكأنّها الحياة والمصير معًا.
إلى جانب ذلك تخلى البيت عن مفهومه القديم بوصفه مكان الطمأنينة ومحلّ الألفة، منذ أطاحت تلك المنصات بخصوصيته، وأكاد أقول: سريته! لهذا سيدخل كلّ ما أراد دون أن نقوى نحن سكّان المكان على صدّ أحد، أو منع شيء، لأنّ المنصة حطّمت الجدران من حولنا، ودمّرت مخطّطات حياتنا المنزليّة الوادعة. محت الحدود وجعلت الخارجيّ داخليًّا، وبتنا بعد هذه الاستباحة ننسى رعاية شؤون داخلنا إلا بالكيفية التي تُرضي الخارج وتحظى بقبوله.
صرنا غرباء أمام أنفسنا. وغرباء أمام من نقاسمهم سقفًا واحدًا. كلنا على الدرجة ذاتها من الاغتراب، نتقطّع بين شاشات تتفاوت أحجامها، متخففين من أعباء الجسد والمكان والتفكير والخيال
صرنا غرباء أمام أنفسنا. وغرباء أمام من نقاسمهم سقفًا واحدًا. كلنا على الدرجة ذاتها من الاغتراب، نتقطّع بين شاشات تتفاوت أحجامها، متخففين من أعباء الجسد والمكان والتفكير والخيال، ماضين صوب التخلي عن كامل المعنى الذي يميّزنا، لأجل أن تستمر الفرجة، التي تزداد تفاهةً وانحطاطًا مع الوقت.
إننا في ما هو أكثر من منفى، لكننا لا نعرف له اسمًا محدّدًا، وهو يأتي بعد منفانا الواقعيّ الأوّل الذي اتفقنا على تسميته بالعالم. نعرف أن المنفى مكان. نفقد مكانًا نعرفه فنذهب نحو مكان لا نعرفه ونسميه منفى. لكنه رغم ذلك يمتاز بما تمتاز به الأمكنة من تضاريس وجهات. أما هنا فإننا بفقدان المكان نفقد القدرة على اختلاق اسم أيضًا.
حالة التّمزّق بين الشاشات تتفاقم يومًا وراء يوم، بل هي تمعن في تمريغنا بمزيد من الضياع في جغرافيا لا مرئيّة. لو ظهرت أية دلائل تشير إلى أن هذه ليست حياة بديلة، لاستطعنا أن نراها في إطار يشبه السفر مثلًا، كأنْ يمضي المسافر في رحلة ليعود منها وهو مهيأ لفهم عالمه بشكل أفضل. ضمير الجماعة المتكلم هش إلا أنه يجد مسربًا صغيرًا يتسلّل منه ليقولنا باستعارة من أحد الشعراء: "نكون حيث لا نوجد".
نعم نحن حيث لا نوجد. حيث لسنا نحن ولا شيئًا آخر.
تعنون المحللة النفسية شيري توركل أحد أبرز كتبها بـ"وحدنا معًا". وهي عبارة مفعمة برثاء شفيف لحالنا في الزمن الذي ظلت فيه التكنولوجيا تهندس علاقاتنا الحميمة، إلى أن أوقعتنا فريسةً لوهم الرفقة عبر الإنترنت، وراحت حياتنا العاطفية تتدهور، إلى الحد الذي لم يعد لها أي معنى.
هل ستبقى هذه المنصات أمكنة عيش ومحلات إقامة؟ أم أنها سترمينا لمنافٍ أخرى سوف ترمينا بدورها لمناف لأخرى بعد ذلك؟ وإذا كنا معدين لكي نفقد معنى الـ"هنا" والـ"آن" فهل نحن حقًا نحن؟