الفكرة التي تستحق أن توضع مقابل كلّ ما تقوله خطب الدكتاتور وصحافته وأبواقه، وتغني له إذاعاته وتلفزيوناته، ويُنظّر لها أساتذة وباحثون بلغوا ذروة المناصب في الحزب القائد.. أنّ هذا الوطن الذي تتحدثون عنه هو بالذات الذي لا نريد أن نعيش فيه. فأي أحمق ذاك الذي يقبل أن يكون الوطن أهم من مواطنيه، لا بل من عيالهم ومالهم؟ فما الجدوى من حياةٍ دون حياة؟
محمود درويش: "ما هو الوطن؟ الخريطة ليست إجابة، وشهادة الميلاد صارت تختلف، لم يواجه أحد هذا السؤال كما تواجهه أنت منذ الآن والى أن تموت، أو تتوب، أو تخون"
مكتوب على هذا الوطن، وأمثاله، أن يظل يخوض التحديات، مع أن جيل الآباء بذلوا ما بوسعهم من دم وعرق، وعاشوا في فقر وتهميش، وفي آخر المطاف لم تتحقق وعود الخطب والشعارات، بل حدث الأسوأ، فقدنا الأهل والأطفال والمنازل والغالي والنفيس، وفوقها الوطن، ولم يبق إلا الدكتاتور وشعاراته وأغانيه.
يسأل محمود درويش في كتابه "يوميات الحزن العادي" هذا السؤال ويفرد حيرته أمامنا: "ما هو الوطن؟ الخريطة ليست إجابة، وشهادة الميلاد صارت تختلف، لم يواجه أحد هذا السؤال كما تواجهه أنت منذ الآن والى أن تموت، أو تتوب، أو تخون. قناعتك لا تكفي، لأنها لا تغير ولا تفجّر ولأن التيه كبير.. ليست الصحراء أكبر من الزنزانة دائمًا. وما هو الوطن؟ ليس سؤالًا تجيب عنه وتمضي. حياتك وقضيتك معًا. وقبل وبعد ذلك هو هويتك، ومن أبسط الأمور أن تقول: وطني.. حيث ولدت. وقد عدت إلى مكان ولادتك لم تجد شيئًا فماذا يعني ذلك؟ ومن أبسط الأمور أن تقول أيضًا: وطني حيث أموت.. ولكنك قد تموت في أي مكان، وقد تموت على حدود مكانين فماذا يعني ذلك؟ وبعد قليل سيصبح السؤال أصعب".
تبقى قوة أسئلة درويش تبحث عن معنى في ركام هائل من اللامعنى كي يفهم المعنى النهائي لوطنه، وبالتالي كي يجد السبيل الأمثل للدفاع عنه. وبوصفها أسئلةً صادرةً عن منفيّ مقتلع من وطن مهدّد بالزوال ستمثّل تجربة خاصّة للغاية، عرفنا منها واحدة في عالمنا العربي، أما في حالة الأوطان التي يهدّد وجودها أبناؤها فذلك سيناريو دائم الحدوث والتكرار عندنا. ولو جئنا نبحث عن أول علاماته لوجدناها في الأغاني الفارغة التي تُمجدها. والمفارقة أن كل البلاد التي ظهرت فيها أغان من هذا النوع سقطت في الهاوية. وجاءت اللحظة التي بدت فيها الأغاني والمغنون مجرد شهود زور أمام الجميع. فما الذي يعنيه أن تغني الأغنية العراقية الصدامية "يا قاع ترابك كافور"، أو ينشد دريد لحام "بكتب اسمك يا بلادي على الشمس الما بتغيب"؟ هل يسكن العراقيون في العراق لأن ترابه من كافور؟ هل يحبونه لهذا السبب الأقرب إلى المرض منه حتى إلى المجاز الشعري؟ وأين هي تلك الشمس التي لا تغيب يا دريد لحام؟
تلعب الأغاني الوطنية دورًا محوريًّا في تلخيص مقولات النظام الشمولي. ويمكن تلخيصها بأنها تعدنا بالوقت الجميل المقبل الذي لن يأخذنا إليه إلا هذا الرئيس، وهو طبعًا شخص نبيل جاء لأجل خلاصنا. لكن هناك تهديدًا خارجيًا يجب إنهاؤه أولًا ومن ثم التفرغ لشؤون الخلاص.
تقول هذه الأغاني ما تقوله بيانات الخطط والبرامج الوطنية، وما يقوله الإعلام والأفلام والمسلسلات. وعلى الأذكياء التنبه إلى أن النظام يتصرف وكأن التاريخ مكتوب سلفًا، وليس علينا سوى الوصول إلى المكان المحدد، مكان النصر. إنها يوتوبيا وطنية. نهاية عادلة للتاريخ. أما ماذا سيصبح مجتمعنا بعد ذلك فالأمر متروك لفهم من يفهمون، مثله مثل قصة الحب في فيلم رومانسي إذ تنتهي بزواج الأبطال. والسؤال الدائم ماذا بعد ذلك؟ والجواب الوحيد: لا شيء إلا السعادة الأبدية.
يريد الطاغية إعادة اختراع الواقع، كي تأتي اللحظة التي يتطابق فيها العالم المكتوب في خططه وإحصائياته مع العالم الواقعي
عندما يخترع الدكتاتور أرقامًا وإحصائيات كاذبة، وعندما يبني خططًا ناجحة على الورق فقط، وعندما يؤكد أن قوته العسكرية فولاذية، قوامها ملايين المقاتلين وأفضل المعدات والأسلحة؛ لن نحتاج إلى مؤرخين كي يثبتوا لنا أنه كاذب، بل علينا رؤية المشهد في منحى آخر، إنه يريد إعادة اختراع الواقع، كي تأتي اللحظة التي يتطابق فيها العالم المكتوب في خططه وإحصائياته مع العالم الواقعي.
ومثلما تأخذنا الدكتاتورية من حضن أمكنتنا إلى الأمكنة التي تخترعها لنا، بما أن كل الأوطان التي نعرفها مُخترَعة، فالأغاني الوطنية (التي تندرج ضمن رؤية الدولة)، بائسةً كانت أو عظيمةً، ليست سوى صورة عن حلم عظيم يحمله دكتاتور تافه.
