في بدايات الألفية الجديدة، كان يمكنك بسهولة إذا تجوّلت في أي شارع عربي أن تلمح عبارات "فلسطين عربية" أو "تسقط إسرائيل" أو "الموت لأمريكا"، وغيرها من الشعارات المدهونة بألون فاقعة على الجدران، أو عند مداخل البنايات العالية، وعلى الستارات الحديدية للمحلات التجارية أحيانًا أو أسوار المدارس.
لا يهمّ ساعتها إذا كان المكان بغداد أم دمشق، غزة أم تونس ، فكلها كتابات عربية تتشابه في تحويل جدران المدينة إلى لافتات تظاهرية. أما ذلك الشاب المصري النحيف ذو النظارات الذي يندسّ في الليل حاملًا علبة "سبراي" أو دلوًا مليئًا بمادة الطلاء، ليعلن رأيه في النظام العالمي الجديد، مجازفًا بحريته في سبيل تسجيل موقف، فلعلّه يدرك أنه لا يفعل سوى مواصلة الطريق التي بدأها أجداده الفراعنة قبل آلاف السنين.
المصريون القدماء هم الذين اكتشفوا الجانب الدعائي للكتابة، فما إن صنعوا لغتهم الخاصة حتى نقشوا حكاياتهم على كل ما وجدوه من أحجار
ربما كان الفينيقيون مخترعي الأبجدية، إلا أن المصريين القدماء هم الذين اكتشفوا الجانب الدعائي للكتابة، وما إن صنعوا لغتهم الخاصة، حتى نقشوا حكاياتهم على كل ما وجدوه من جدران وأحجار . جدران المعابد المصرية تثقلها أخبار انتصارات فرعون، المسلّات تحكي للعابرين حتى اليوم تاريخ أناس عاشوا في عهود سحيقة، مداخل المقابر تحذِّر العابثين واللصوص مما ينتظرهم من لعنات الراقدين فيها، أطباق الطعام تمجِّد الإله "آمون" أو "رع" واهب الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: "إنها أجمل سنين حياتك" لماذا كذبوا علينا؟
وظلّ المصريون أوفياء لتراث أجدادهم، بعدما انحسرت عنهم الحضارة وأعطوها ظهرها، ولم تعد هناك انتصارات أو أمجاد يفتخرون بها، واستمروا في النقش على الجدران يحكون للقادمين ما يستحق الحكي وما لا يستحقه. فالمهم هو الكتابة.. تلك الأحرف المتضخمة المقاييس تطالع المارّة بأخبار لا تهمهم غالبًا، لكنها تستدعي الالتفات لثوانٍ قليلة، فربما وقعت عين العابر على ما يستدرجه -على الأقل- إلى الابتسام في يوم فاتر.
عرف مرتادو منطقة وسط القاهرة محمود عبد الرازق عفيفي، أو "أديب الشباب" كما يطلق على نفسه، الذي ملأ جدران البنايات القديمة وأسوار الكراجات بإعلاناته التي لا تكلّفه سوى ثمن الطلاء الذي يستخدمه، داعيًا الناس إلى قراءة كتبه "العظيمة".
لم يكن محمود عفيفي يكتفي بالإعلان عن عنوان الكتاب، إنما يدعو عباس محمود العقاد أو المازني وطه حسين إلى العودة من الموت ليشهدوا ميلاد عبقرية جديدة على ضفاف النيل. وهو إذ يدعوك لقراءة آخر كتبه "الألوهية والجنس"، يقتنص الفرصة أيضًا لمطالبة رئيس الجمهورية بأن يعاقب المسؤولين عن منع ومصادرة كتبه.
يدور الزمن وترحل وجوه وتأتي أخرى، وتقوم الثورة فتظهر كتابات جديدة على الجدران، ويتضاعف أعداد حاملي عبوات الإسبراي
حالة محمود عفيفي مثّلت لكثيرين "اشتغالة" من نوع ما يقوم بها شخص وهمي ولكن بإصرار لا يلين على مدار سنوات، وذلك لأن الحصول على أحد كتبه كان أمرًا صعبًا، كما أن السلطات لم تكن تكتفي بمنع كتبه، بل تطمس دعاياته الحائطية أيضًا، فيعاود كتابتها من جديد من دون أن ينجح أحد في رؤية محمود عفيفي وهو يخطّ مانشيتاته على جدران المدينة.
أما في الإسكندرية، فقد استطاعت السلطات في مطلع الألفية الجديدة القبض على جمال الدولي، أشهر مواطني المدينة في فترة التسعينات. وجمال الدولي، على عكس محمود عفيفي، كان يهوى الأضواء، إلا أنه ليس مؤلفًا مثله، وإنما مشجع رياضي متعصب لنادي "الاتحاد السكندري".
وفي إحدى سنوات التسعينات اللعينة، فاجأ مشاهدي التلفزيون باقتحامه الملعب عاريًا تمامًا في نهائي بطولة كأس مصر لكرة السلة. ومشكلة جمال الدولي، خريج كلية الآداب جامعة الإسكندرية، أنه ليس قانعًا بهواياته الرياضية، وإنما أصرّ على تحويل جدران الإسكندرية جميعًا إلى صفحة رأي خاصة به وحده، ليستعرض عليها آراءه النقدية في كرة القدم والفن والأدب والانتخابات الرئاسية، وتلك الأخيرة تحديدًا كان يصرّ على أنه سوف يكتسحها لو غاب التزوير.
اقرأ/ي أيضًا: عيش بالحدّ الأدنى من الذكريات
والأمر الآخر الذي يميّز جمال الدولي عن محمود عفيفي هو تمتعه بنشاط خرافي، وبكتابة شعاراته باللون الأخضر (لون تيشيرت نادي الاتحاد السكندري)، وبتعليقه السريع على الأحداث حتى ليسبق الجرائد الصباحية، ويتخطاها توزيعًا من شرق الإسكندرية إلى غربها في ظرف ليلة. وكان أن سارعت قوات الأمن مرة وأودعته مستشفى الأمراض العقلية، ثم أفرجت عنه بعد إقناعه بالاكتفاء بالنقد الرياضي والابتعاد عن السياسة.
من أقصى مصر لأقصاها يتنافس محترفو الكتابة على الجدران فضلًا عن التلاميذ الذين يسرقون طباشير المدرسة ليسبّوا بعضهم بعضًا على الجدران
ومن أقصى مصر إلى أقصاها، يتنافس محترفو الكتابة على الجدران فضلًا عن الهواة، من التلاميذ الذين يسرقون طباشير المدرسة ليسبّوا بعضهم بعضًا على الجدران، إلى العشاق الذين يكتفون بنقش الأحرف الأولى من أسمائهم، إلى السياسيين الذين يخوضون معاركهم أيضاً على الجدران. كل هؤلاء وغيرهم يتشاركون وسيلة واحدة لإعلان انحيازاتهم والتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم ورسائلهم. لست مصريًا إن لم تكتب على الجدران ولو مرة في حياتك. وفي كتابه "هتاف الصامتين"، يستعرض سيد عويس آلاف العبارات التي قرأها على واجهات البنايات وخلفيات السيارات وجدران دورات المياه (المخصصة للآراء الجنسية)، ويحاول استنباط دلالاتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
يدور الزمن وترحل وجوه وتأتي أخرى، وتقوم الثورة فتظهر كتابات جديدة على الجدران، ويتضاعف أعداد حاملي عبوات الإسبراي، يلطخون الجدران والبنايات بعبارات محشورة منذ زمن بدواخلهم، وينشط رجال السلطة في مطاردة هؤلاء "العابثين"، وتظهر عبارات من نوعية "شباب يناير الأنقياء" و"الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد"، لتدور عجلة الزمن مرة أخرى، وتظهر كتابات تندد بألاعيب السياسيين والعسكر من محترفي ركوب الثورات.
ومن "الحجاب عفة وطهارة" إلى "CC خائن"، مرورًا بـ"الأهلي حديد" و"محمد بيحب غادة"؛ يتأكد المارة كل يوم من أن المصري الأصيل يستفزه منظر الجدران ناصعة البياض، ولا يهدأ له بال إلا بعد أن يهب هذه الجدران شيئًا من ذاته وكثيرًا من مزاجه، لذا فإنه يسارع بملء ذلك الفراغ الموحش، واثقًا من أنه أدّى رسالته بحفنة كلمات، ربما لا يطلع عليها صبح وربما تبقى ليشاهدها الناس ويعرفون أن هناك مَن يشاركهم نفس الإحساس.
اقرأ/ي أيضًا:
نحن والحياة والأسئلة الدائمة
تداع حر في عالم يتهاوى