منذُ أربع سنوات، رست بي كفّة الحكومة على الشاطئ الجنوبي لإنجلترا، مدينة بليموث، في تلك المدينة الباردة كوجوه أهلها القادمين من رحلة صيدٍ طويلة، درّبتُ نفسي جيدًا على الوِحدة، صرنا أصدقاء أنا وهي، من نوعِ أنْ نشتمَ بعضنا أمام العامة دونَ خجل. لا أخرجُ من البيت إلّا كلّ أربعةِ أيّام لكي أشتري الخبزَ والخضار، ولا أخرجُ من غرفتي إلّا وقت الطعام، أغلقتُ زجاج النوافذ بحيثُ يختلطُ الليل بالنهار، ويصبحُ الوقتُ ندمًا لا صاحبَ له إلّاي، هكذا بنيتُ عُزلتي وسوّرتها بالـ"هناك" ولم أستطع كسرَ السورِ الذي راحت تنمو فوقه العتمة، كما ينمو عشبُ المواسم على سطوحِ منازلنا الريفيّة.
في اليوم 529 من غيابي عن بيتنا، وبينما أجلسُ في عزلتي الهادئة، قرّرتُ فتحَ النافذة لشمسِ آذار، فالربيع يستحقُّ أنْ نعرّي نوافذنا أمامه لعلّها تورق. صنعتُ شايًا وجلستُ أستمع إلى مسلسلٍ إذاعيّ وأرسم. على مدى سنينِ الألفيّة الجديدة لم يتركني المذياع ولم أتركه. أصواتُ حياةٍ ما رافقَتْ الضوء من النافذة، بابُ الغرفة مفتوح، وفيما يتدفّق المشهدُ إلى رأسي كاملًا، سمعتُ صوتَ محرّك درّاجة ناريّة، فهرعتُ واقفًا وكلّ ظنّي أنّي في بيت أهلي وأنّ ضيفًا ما قد أتانا وعليّ أن أستقبله، عندَ الباب كانَ هنالكَ درجٌ عالٍ مفروشٌ بالسجّاد، أدركتُ حينها أنّ هذا ليسَ بيتنا، يا للخيبة، خجلتُ من نفسي، وضحكتُ حتّى سالَت دموع الفرح من عينيّ. حاولتُ أن أواسيني قليلًا بالأمل، بسيرة الغدِ المفتوحة على المعجزات، فنسيتُ الشايَ يبرد.
عند العصر، خرجتُ قاصدًا المتجرَ السودانيّ لأشتري ما يُبقيني حيّـًا، تموتُ هذهِ المدينة بعدَ غروبِ الشمس، فآكلُ لأوهم نفسي أنّني الحيّ الوحيد. لم أكنْ حينها قد سمعت بقول الكاتب إبراهيم الكوني: "ليس المهمّ المكان الذي نسكنه، المهمّ هو المكان الذي يسكننا"، لكنّني أدركتُ مدى كون أنّ المكان غريزة لا يمكنُ إغفالها، أو الهروبُ منها، وفي البلاد الباردة يزداد شعوركَ بالألم تباعًا لزيادة نقص فيتامين د، وارتفاع منسوب الاكتئاب.
في طريق العودة عبرَ شارع محطة القطار، التقطَ أنفي رائحة دخان مدفأة، ولأنّ الرائحة يمكنُ أن تودي بكِ بلمح البصر، راحت القرية تمشي أمامي على سكّة القطار، وراح يعلو دخان مدافئ الحطب فوقَ خطّ الشمس الآفلة، منذرًا بقدومِ ليلِ امرئ القيس الشتائيّ، وفجأة صرخَ بي عامل السكك الحديديّة، جاذبًا إليَّ وجوه المسافرينَ الملأى بالدهشة، لأبدو وكأنّني سأنتحر، رحتُ أضحكُ دونَ أن أتمالكَ نفسي، ولشدةِ ما ضحكت، راح الجميع يضحكُ مثلي دونَ أن يعرفوا لماذا، فالضحك لغةٌ مشتركة بينَ البشر، وكثير من المناطقة عرّفوا الإنسان بـ"حيوان ضاحك".
وصلتُ غرفتي، جلستُ تحتَ النافذة التي ما تزال مفتوحةً على أفقٍ مسدودة، والحنين يلبسُ كلّ شيء، أحتاجُ أنْ أسمعَ أذانَ المغرب، وحده أذان المغرب سيقفُ إلى جانبي، ذاك النداء الذي يجمعُ الأُسرة على العشاء، ذاك النداء الذي يُعلن فصلَ النهار عن الليل، ويُعلن بدايةً جديدة، أنا الذي أضاعَ البداية والنهاية، أحتاجُ أنْ أسمعَ الأذان.
منذُ أيام، تذكّرتُ يوميات بليموث هذه، بعد أن سمعتُ مقطعًا صوتيًّا من أختي تقول فيه: "توفّى خالي خالد وأمي راحت على الجرية". كانت الرابعة فجرًا، درجة الحرارة 2 تحت الصفر، وكنتُ مستيقظًا نتيجة لارتفاع نسبة فيتامين ب 12 في جسمي، حيث أفرطت في أخذ كبسولات منه وتوقّفتُ بعدَ أن أصابتني اضطرابات كثيرة، إحداها شفائي من عقدة الناجي. لم أضحك، فقد كبرتُ أربع سنواتٍ على ذلك، جلستُ قربَ النافذة أشربُ الشاي، وأراقب طرقَ الذهابِ والإيّاب، بعد خمسِ ساعاتٍ من الصمت، اتصلتُ بأختي وسألتها: لماذا لم تأتِ أمّي بعد، فقد بدأت تمطر؟ ردّتْ عليّ: "بس الدنيا شمس". يا للخيبة، بين نافذتي وطريق القرية أكثر من خمسة آلاف كيلومتر، وأنا أنتظرُ أمّي لأبكي في حضنها، ضحكتُ حتّى لم أعدْ أرى طرق الذهاب والإياب، أضحكُ وأضحكُ، لأنّ البكاء صارَ باهتًا لا فائدة تُرجى منه الآن، حملتُ مظلّتي وخرجتُ أخوضُ في سواقي المطر وأستحضرُ الماضي، خُلق الماضي للوحيدين، لسكانِ الشتاء وأسرى الغياب، خُلق للندامى وللمصابين بنقص الفيتامين د.
اقرأ/ي أيضًا: