بزغ يوم الثلاثاء دافئًا بلا أمطار. حملت حقيبتي الصغيرة ودلفت إلى قلب الخرطوم، حيث "موقف أبوجنزير"، المكان الافتراضي لتجمع المهنيين السودانيين من أجل تسليم مذكرة تطالب بتنحي الرئيس عمر البشير من السُلطة. كانت مهمتي تغطية الأحداث، مثل أي صحفي يحق له أن يقوم بذلك، وكان ثمة شيء يتربص بي أيضًا في المقابل.
أنا الآن في معتقلات الأمن السياسي وهي منطقة معقدة من يدخلها لا يخرج بسهولة وبانتظاره قائمة من الاتهامات تكفي لشنقه!
المكان الذي هو سوق وسط البلد، تحول إلى ثكنة عسكرية بالكلية؛ كل أنواع الأسلحة وأزياء الحروب، ربما لأن القصر الجمهوري، ذلك العرين الرحب للسلطة، على مرمى حجر من الموكب.
اقرأ/ي أيضًا: "إلى الحرية يا زول".. #مدن_السودان_تنتفض لليوم الثامن على التوالي
فجأة أدركت أنني في منتصف الخطر، لكن واجبي المهني يحتم عليّ التواجد والمغامرة لأجل تعرية الحقائق، إذ يكفي أنني أحمل بطاقة صحفية تخول لي التغطية والمتابعة وفقًا للقانون والأعراف الصحفية- وهو تقدير خاطئ كما أيقنت لاحقًا. وهنا في هذه الساعة تحديدًا، تصبح خيارات الهروب هي خيارات الحماية.
حاولت الخروج بالفعل، لكن المداخل كلها سُدت في وجهي، بمعنى أن دائرة الحصار أحكمت عليّ، واقتسمت مع الذين أوجدهم حظهم العاثر هنا، أخطارًا مُحدقة.
قريباً من حظي العاثر بعيداً عنه، كان "موقف أبوجنزير" بمثابة خارطة غير سليمة للتواجد في ذلك اليوم، رغم أنه منطقة خدمات مأهولة بالناس والحياة، وهو بالمقاربة مثل حظ "حنا يعقوب" في الجبل البيروتي، الرجل القصير الحنطي اللون، بائع البيض في المكان الخطأ في الساعة الخطأ، حكاية حنا يعقوب في رواية دروز بلغراد لربيع جابر، تسرد قدر مسيحي لبناني يعمل بائعاً للبيض في أزقة بيروت وأسواقها، الصدفة وحدها هى التي جعلته متوجداً في المرفأ عندما اقتيد مع مجموعة من المتقاتلين الدروز بالخطأ، وتم نفيه إلى قلعة بلغراد عند تخوم الإمبراطورية العثمانية، بدلاً من شخص آخر أطلق سراحه بعدما دفع والده رشوة للضابط العثماني. وتدور الرواية حول معاناة حنا وبقية السجناء على امتداد 12 سنة من السجن في بلغراد وغيرها من بلاد البلقان. المهم، وبعد عمليات تحر متواصلة أدركت أن المظاهرات هي كعب أخيل النظام الحاكم، والتي يمكن أن يؤتى من قبلها أكثر من الحروب والإدانات الدولية، وهذا يفسره عامل الخوف الهستيري منها لدرجة إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، أي تنحية الخيارات السياسية جانباً والاعتماد على الحلول الأمنية لقمع التظاهر والمطالب معاً، والاشتباه في كل شخص، حتى ولو كان مثل "حنا يعقوب" أوجده حظه الخاطئ في المكان الخاطئ.
اندلعت الهتافات ومعها أصوات الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع. اختنق الجميع؛ من كان يهتف ومن كان يهاتف. أغلقت عينيّ من الغاز، وفتحتها وأنا محاط بمجموعة من الجنود الذين يرتدون أزياء مدنية. رموني في ظهر السيارة كما لو أنهم يرمون جوالًا من الذُرة، بشكل حط من إنسانيتي، حاولت أن أحمي رأسي من الضرب، وأفسحت مكانًا ضيقًا لي بين المعتقلين، وتمسكت بالعبارة السودانية الدارجة "الموت مع الجماعة عرس".
لسوء الحظ فأنا معتقل سياسي تقريبًا، هذا ما أدركته من همهمات صغيرة. ولسوء الحظ أيضًا فإن الذي يقود السيارة في سباق مع الزمن، يخب مسرعًا إلى إشارة المرور ليقطعها حمراء في رحلة انتحارية. يا إلهي! كانت السيارات تسَبُ بعضها في الزحام المتعجل.
أنا الآن في معتقلات الأمن السياسي، وهي منطقة معقدة، من يدخلها لا يخرج بسهولة، بانتظاره قائمة من الاتهامات تكفي كل واحدة منها لتعلقه على حبل المشنقة. كان ثمة حفل استقبال، وهو طابور عنف تقليدي تَعبُره زحفًا، ويعرفه كل من شهد الوقيعة.
كنت محظوظًا وأحببت سائق السيارة جدًا رغم الدروب الوعرة التي سلكها بنا، إذ اختار أن يدخل من باب منسي بحيث لم يصادفنا الحفل المعد لنا، دون رغبة منّا. كان عددنا تقريبًا نحو تسعة أشخاص، جميعهم أقل من الـ40 بكثير. الأول مهندس كهربائي عاطل عن العمل، والثاني طبيب يشتكي الفاقة، والثالث مدرس ثانوي يفكر في الهجرة، والرابع مُحاصر بالضياع. وعلى هذا المنوال، جميعهم بلا عمل وتحت أفق مسدود، وذلك ما كان ينطوي بالضبط على عنوان اللحظة السياسية الراهنة.
الطفل ابن العشر سنوات قابع بجواري في المعتقل لا حول له ولا قوة. منظره يمزق القلب. وكانت زميلتي الصحفية أيضًا تبكي أثناء ضرب زميل آخر، كأن الضرب وقع عليها، وأدمى روحها، بصورة درامية لا يمكن تخيلها، ماذا أفعل وأنا الأعزل فوق ظهري البنادق ووجهي مصلوب على الحائط؟
يمُرّ الوقت داخل المعتقل بطيئًا، قاومت ساعتي البيولوجية لتتوافق مع الظرف الجديد، حين يلتبس الليل والنهار. استغرقت عملية الفرز نحو ست ساعات ما بين الطلاب وتجمع المهنيين ومن لا حظ لهم في التعليم.
قال لي جاري وهو مزروع في الأرض حتى كاد يتيبس: "تفتكر حيعملوا لينا شنو؟". قلت له: وفقًا للدعاية الرسمية نحن مخربون وعملاء وموساد وأعداء للوطن والدين ومقوضون للنظام. فبدأ يشعر بالهلع، لكنني استدركت، فحاولت التخفيف عنه، قلت له كذلك: لا تخف عندما يتولى الضباط الكبار التحقيق سوف يدركون أننا أبرياء، ثمة ضوء في آخر النفق.. ضوء في آخر النفق، رددتها أكثر من مرة، قبل أن أطرد سخرية سلافوي جيجك: "إنه نور قطار آخر يتجه نحونا".
السخرية في هذا المقام بمثابة إلقاء نكتة عن الموت، وأي تصرف يتناقض مع جوهره. كنت أجلس القرفصاء ووجهي على الحائط بصورة مهينة. منتهى الإذلال لصحفي محايد رغم أنف نقش مارتن لوثر العظيم: "أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد، في أوقات المعارك الأخلاقية الكبرى". تلك مرافعتي ولا أملك سواها في ليلة التحقيق، فأنا لا أنتمي لأي حزب سياسي، فقط لصاحبة الجلالة، إن كانت تعبأ فقط لانتهاك شرف جلالتها.
الساعة تقترب من الثامنة ليلًا، تقريبًا على ما تقول مآذن العشاء في ضاحية كوبر، وكنت مررت بأكثر من لجنة تحقيق، وأجبت على كل الأسئلة حتى التي لا أعرفها ولم أفكر بها من قبل. توقفت تمامًا عن التفكير في المآلات الشخصية لصالح الهم العام، فكل ما يمكن أن يلهمني النجأة يضيق ليتسع الطريق نحو الحرية، كما أنه لا فكاك من قدري.
لقد بدت صورة الرئيس البشير بالزي العسكري تحتل مكانًا أكبر مما هو متاح لها، مكان يتسع لثلاثة عقود من القهر، وطالما أن الأزمة الاقتصادية والسياسية لن تحل بصورة نهائية، وهي أزمة معقدة جدًا، فإن الاحتجاجات أيضًا لن تتوقف بصورة نهائية.
طالما أن الأزمة الاقتصادية والسياسية لن تحل بصورة نهائية، وهي أزمة معقدة جدًا، فإن الاحتجاجات أيضًا لن تتوقف بصورة نهائية
إنها أزمة النخبة والساسة في المجمل، لفرط أنانيتهم، ضيقوا على الشعب لتتسع حظوظهم، أو كما أوجز سيدي الطيب صالح في حكاية "بندر شاه"، وهو يرمز بالبندر إلى المدينة، والشاه إلى السُلطة، لأن قضية السودان في تقديره هي السعي للمدينة وركوب موجة الحُكم بأي ثمن، حيث قال الطيب باذلًا لنا الحكمة: "المكان يتسع للدومة والباخرة وطلمبة المياه". هنالك مساحة للجميع، لكن حتى الذين يأخذون السُلطة باسم العدالة والعمال والفلاحين، لم يفوضهم أحد بذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
البشير يقمع سلمية تظاهرات السودان بالرصاص والتخوين
الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"