لا شك أن السمات الاحتجاجية التي تميّز سينما "السود" تأخذ شكل علاجٍ جماعي، بأثر رجعي، لقضية العنصرية ضد السود، وأنظمة الفصل العنصري التي سادت زمنًا طويلًا في الولايات المتحدة. وهي سينما مصاغة بعقدة الذنب، وبمسؤولية مواجهة ذلك الإرث الدموي الذي خلّفته أحلام "الرجل الأبيض"، قبطان سفينة الحلم نحو الأرض الجديدة.
ومع أن هذه المعالجة السينمائية تُعد حديثة العهد، نسبيًا، في خلق وعي جمعي تجاه قضايا العنصرية والتمييز على أساس اللون، لكنها شهدت تواترًا متصاعدًا ابتداءً من تسعينيات القرن العشرين، واتخذت سبلًا متعرجة في طرح هذه المعالجة تراوحت ما بين الاشتغال على الحقيقة التاريخية وتفكيك رموز مرحلة العبودية، وبين تجليات مرحلة النضال الاجتماعي للسود، ومواجهة نظام الفصل العنصري، إضافةً إلى الفيلم السياسي الذي يعالج قضايا السود بوصفها رواسب انهيار نظام الفصل العنصري، وعدم شفاء المجتمع الأمريكي منها بسبب التوظيف السياسي للقضية.
يبقى العمل على إنتاج فيلم يتناول قضية العنصرية ضد السود مأخوذًا بفتح نقاش تصالحي على أرضية الاعتراف بالخطأ والشعور بالمسؤولية
وقد شكّلت هذه الحوامل الثلاثة جوهر العمل على صناعة سينما تعالج قضايا السود بشكل رئيسي. لكن الأمر لم يخلو، بالطبع، من تجارب سينمائية فذة حاولت معالجة موضوعة السود من خلال الدراما والسياسة، مع انحياز كبير للخيال والمعالجة السحرية، كما اقترح المخرج الكبير كوينتن تارانتينو في تحفته السينمائية "Django Unchained"، أو عبر معالجتها من خلال الكوميديا كما في فيلم "Do the Right Thing" لسبايك لي.
لكن كيفما كانت المعالجة، يبقى العمل على إنتاج فيلم من هذا النوع مأخوذًا بشدة بفتح نقاش تصالحي على أرضية الاعتراف بالخطأ، والشعور بالمسؤولية تجاه الحقيقة التاريخية المرة التي ما زالت ترخي بظلالها على جوهر الكيان الاجتماعي، الذي صنعته سنوات العبودية، ثم التحرر، ثم العنصرية.
ويمكننا القول إن قضية السود في السينما، على الرغم من حداثة عهدها، قد نجحت نسبيًا في تقليل منسوب الشعور العار الذي كان يغمر التاريخ الأمريكي، عبر جعل الفيلم وسيلة للنقاش الاجتماعي العام تتجاوز قضية السود في بعديها التاريخي والاجتماعي، وتنتقل إلى محاربة الصور النمطية المتمترسة في عقول حتى صانعي السينما أنفسهم، إلى جانب إعادة التفكير في الصناعة ذاتها، وطريقة تصوريها الثقافي وحتى الخيالي للسود.
لذلك أصبحنا نرى أن "عالم مارفل" أخذ يوسّع دائرة أبطاله الخارقين، ولم يعد كما كان أصله القادم من المجلات المصورة يحصرها بـ"البيض" فقط، بل صار يضع وجوه البشرة السمراء في المقدمة، ويحتفي بالثقافة الأفريقية كجزء ملحمي وأسطوري من أفلامه الخيالية كما في فيلم "Black Panther"، ناهيك عن تضمينه أبطالًا سود في نسخه المحدثة من أفلام الأبطال الخارقين الكلاسيكية.
وفي مقالتنا هذه، نستعرض 4 أفلام عن العنصرية ضد السود في أمريكا نرى أنها من أهم الأفلام التي تناولت هذه القضية في السينما. وسنحاول إظهار التنوع الذي أحاط بالتجربة، ما بين المعالجة التاريخية، والسياسية الاجتماعية، والخيالية والكوميدية.
1- Amistad
يشكّل الفيلم الذي أُطلق عام 1997، جزءًا من مجموعة أفلام اشتغل فيها ستيفن سبيلبرغ على معالجة الموضوع التاريخي سينمائيًا. فالتاريخ كان وسيلته في تقديم قراءة تاريخية، تتضمن نقاشًا وبُعدًا تحليليًا، عبر السينما.
وتبعًا لطبيعته الاستثنائية وسماته المتميزة، يختار سبيلبرغ لقصته السينمائية أكثر المواضيع التاريخية استتارًا وربما أكثرها إهمالًا في التاريخ، مثل فيلمه الأيقوني "Saving Private Ryan" الذي أنجزه بعد سنوات من فيلم "Amistad".
يستند الفيلم إلى وقائع محاكمة تاريخية جرت أحداثها في القرن التاسع عشر لمجموعة من تجار الرقيق الأوروبيين الذين اتُّهموا باختطاف مجموعة من الأفارقة من قراهم في "سيراليون"، وتحميلهم على متن السفينة "Amistad"، التي تعني في الإسبانية "سفينة الصداقة"، بهدف استرقاقهم وزجهم داخل نظام العبودية المظلم، ليصبحوا وقودًا لقطار "النهضة" الغربية.
يتمرد الأفارقة داخل السفينة وينجحون في قتل عدد من العمال/ الجنود وإجبار الربّان على العودة بهم إلى وطنهم. لكن الربّان يخدعهم ويقودهم إلى أمريكا، حيث تجري هناك وقائع المحاكمة التي يترافع فيها رئيس أمريكي سابق ينجح في النهاية، وعبر القضاء، في إدانة تجّار الرقيق، وإطلاق سراح الأفارقة وإعادتهم إلى وطنهم على نفقة الدولة.
رُشّح الفيلم الذي يُعد من أهم الأفلام عن العنصرية ضد السود، لأربع جوائز أوسكار. لكن أكثر ما يهم فيه أنه أشار تاريخيًا إلى أن هذه الحادثة وأهمية دور القضاء، هما ما خلقا المناخ السياسي والاجتماعي الملائم لإلغاء نظام الرق الذي بني عليه الرئيس أبراهام لينكون، والذي سوف يكون مشروع سبيلبيرغ القادم في استكمال مأساة "Amistad". الفيلم من بطولة أنتوني هوبكنز، ومورغان فريمان، وماثيو ماكونهي، وغيرهم.
2- The Help
فيلم قوي مفعم بالمشاعر، وربما يكون من أوائل الأفلام التي تخلّصت من الجدية، والميلودرامية أحيانًا، التي تتسم بها الأفلام التي تتناول قضية العنصرية وحياة السود في أمريكا.
ميزة الفيلم أنه زامن أحداث حكايته، أي تصاعد نبرة حركة الحقوق المدنية، وبزوغ نجم مارتن لوثر كينغ. لكن ذلك كان جانبيًا، وواحدة من أهم مميزاته أنه كان جانبيًا، إذ أفسح المخرج وكاتب السيناريو، تيت تايلور، المجال لفهم القضية السياسية المحقة للسود من خلال إلقاء الضوء على تجلياتها الاجتماعية، خاصة وأن أحداث حكايته تجري في ولاية المسيسبي.
عنوان الفيلم مأخوذ من الأدوار الاجتماعية التي كانت سائدة حينها، والتي تظهر فيها النساء السوداوات كخادمات في بيوت البيض من الطبقة الوسطة والثرية. ومن خلال هؤلاء الخادمات، يكشف لنا الفيلم طبيعة عالم البيض.
يبدأ كل ذلك مع فتاة تدعى "يوجينا" تحلم بأن تصبح صحافية. وبسبب غرابة التخصص بالنسبة لامرأة في ذلك الوقت، قررت أن تكتب روايتها التي تدور حول الأثر التربوي للخادمات السود على بناء شخصيات الأطفال البيض، والتي تحاول أن تقول من خلالها إن العنصرية لابد أن تنتهي، فالخادمات السوداوات كن حاضرات في أكثر لحظاتنا أهمية.
ثم يأخذ الموضوع أبعادًا أكبر حينما تكشف الخادمات عن الممارسات العنصرية التي كن يتعرضن لها من قبل أصحاب البيوت. تمتنع النساء عن الحديث في البداية، ثم ما يلبث أن يتحول الأمر إلى جلسة علاج جماعي. تنشر الفتاة المجازفة كتابها ويحدث ضجة كبيرة في الولاية كلها.
نال الفيلم، وهو من أهم الأفلام عن العنصرية ضد السود، إشادات نقدية إيجابية واسعة، كما رُشّح لنيل جائزة "الأوسكار" عن فئة أفضل فيلم، فيما رُشّحت الممثلة أوكتافيا سبنسر لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة 2010، ونالتها.
3- Do the Right Thing
أُنتج الفيلم عام 1989، وهو من تأليف وإخراج وبطولة سبايك لي، الذي يرى في قضية العنصرية مشروعًا كبيرًا لا يمكن أن يختزل فقط في تثبيت الحقيقة التاريخية، ولا يجد أن دوره ينحصر في ذلك، بل دعا إلى فهم النسيج الاجتماعي الأمريكي، وتعزيز الثقافة الأمريكية من خلال إنتاج فهم مختلف ومغاير لطرح قضية العنصرية.
وقد أسست نظرته تلك لجعل الحقيقة التاريخية أرضية ثابتة يُبنى عليها فن خالص، متنوع، يُخرج السود من دور الضحية الأزلي ويحميها من التنميط، وهذا ما تلقفه مخرجون كُثر وبنوا عليه مشاريع قصصهم السينمائية، كما فعل تورانتيو في فيلمه "جانغو".
يروي الفيلم حكاية شاب أسود مثير للمتاعب يلاحظ في أحد الأيام، خلال تناوله البيتزا في مطعم إيطالي يقع في حي يسكنه السود واللاتينيون، ويُنظر إليه بوصفه جزيرة من التسامح وسط دوامة من العنف المتبادل بين السود واللاتينيين من جهة، وبينهم وبين الشرطة من جهة أخرى؛ يلاحظ أن الجدار مليئ بصور شخصيات إيطالية مثل آل باتشينو ودي نيرو، مقابل غياب أي صورة لشخصية سوداء. وهنا تبدأ المناوشات وتتسع لتتدخل الشرطة وتزيد الأمور سوءًا.
يُعد الفيلم واحدًا من أكثر التجارب السينمائية جرأةً وفرادة في تناول قضية العنصرية، خاصةً أنه استطاع تقديم قصة سينمائية تجمع بين الدراما والكوميديا، إلى جانب الاحتجاج السياسي الذي ينطوي على نقد لاذع. وقد حظي الفيلم بمراجعات نقدية مهمة، وبشعبية كبيرة وقت عرضه.
4- Crash
فيلم تأملي يقدمه المخرج بول هاغيس من خلال خلق شبكة من خطوط العنف المتعاكسة التي لا تلبث أن تقترب من بعضها بعضًا تمهيدًا لحدوث التصادم أو التحطم.
يقدّم الفيلم مجموعة من القصص غير المترابطة التي تدور أحداثها في مدينة لوس أنجلوس، ويتشارك بطولتها أشخاص من أعراق وثقافات مختلفة. كل مجموعة لديها تصوراتها المسبقة عن المجموعة الأخرى. وفي تقاطع مصائر شخصيات القصة السينمائية، بالتدريج، يتكشف أمامنا عالم مبني على الخوف من الآخر، وشبكة اجتماعية هائلة منسوجة بسوء الفهم وتنميط أدوار الخير والشر.
تختبر الحكاية أبطالها من خلال زجهم في وضعيات عنصرية، ثم منحهم الفرصة في مكان آخر ليظهروا كبشر تحركهم نزعة إنسانية بحتة، فلا خير مطلق ولا شر مطلق في سياق هذه القصة. لكن هنا لا بد من حدوث التصادم لكشف كل ذلك الوهم الذي يخيم على حياة الناس، ويحول دون أخذهم ما يكفي من الوقت للاستماع والفهم والتفهم.
الفيلم قوي وتأملي مصاغ ببراعة. وقد رُشّح لنيل 6 جوائز أوسكار فاز بثلاث منها، وهي أفضل فيلم، وأفضل مونتاج، وأفضل سيناريو أصلي.