ليس من السهل أبدًا الغوص في تجربة ممثلٍ تمتد مسيرته المهنية لحوالي 70 عامًا، وتتنوع بين المسرح والسينما والدراما المتسلسلة. وقد يُخيَّل إلينا ونحن نجري مراجعة لمسيرته الحافلة أننا أمام ظاهرة في الأداء تتخذ لنفسها الانفتاح والتجريب والتحديث الدائم أسلوبًا لمواكبة التطورات المتسارعة، التي تطرأ بشكل مستمر على عالم صناعة السينما، وتؤثر على مدارس الأداء التمثيلي الأكثر إدرارًا للربح، لبلوغ الأهداف المرجوة في الترفيه، والابتعاد قدر الإمكان عن السينما المشاكسة بوصفها مجالًا للنقاش السياسي والاجتماعي العام.
لا شك أن آل باتشينو، نجم السبعينيات في هوليوود، يتمتع بالمرونة المطلوبة والذكاء والمهارة ليُبقي حضوره متدفقًا، وليجد لنفسه مكانًا لا يزال يزخر بالحميمية والبحث والتجريب في هذه الصناعة القاسية التي لا ترحم، وفي هذا الفضاء المهني المشغول بالغرائبية والقسوة والطرافة.
لكن باتشينو، الذئب العجوز، لا يزال يحتفظ بأدواته القديمة كأدوات سحرية يُظهرها في أدواره الحديثة، مذكِّرًا بتكنيكات منهجية كلاسيكية تبحث في الأداء عن الصواب والعمق، ويمنح من خلالها هوليوود مجددًا تلك النبرة المرتفعة في الأداء، وذلك الشطط الانفعالي الذي يذهب بالشخصية إلى حدودها القصوى. ما زال آل باتشينو ملتزمًا، وإن بحدود الآن، بتلك النبرة المرتفعة في الأداء، على الرغم من أن مدارس التمثيل الحديثة صارت تستهجن ذلك التكنيك، وتدفع نحو أداء مقنن انفعاليًا.
ظل آل باتشينو على اتصال وثيق بالمسرح، وكأنه يُعيد شحذ أدواته كل مرة خلال غياباته عن الشاشة الكبيرة. ظل شغوفًا بعوالم شكسبير، ومفتونًا بسحر الخطابية اللغوية المتداخلة مع التحليل العميق والشاعري للنفس البشرية، وبقي يقيس شخصياته السينمائية من حيث العمق بمزايا وملامح الشخصيات الشكسبيرية، وظل يسجل حضورًا متوقدًا بروح مسرحية بأداءاته الكبرى.
ومنذ بزوغ نجمه في سبعينات القرن العشرين في المسرح وفي الأفلام ذات الميزانيات المحدودة، أبدى باتشينو رغبة دائمة في تحرير الشخصية السينمائية من قيودها التعبيرية، التي تفرضها الشروط التقنية أحيانًا، ومتاهات الشباك في أحيانٍ أخرى كثيرة. ربما لم يقوَ على إظهار هذه الرغبة بشكل جدي ومتبلور إلا في بعض الأدوار التي أظهرت المساحات الواسعة غير المشغولة في إمكانياته كممثل سينمائي.
وقد ساعده في ذلك الإصرار والحظ، فلو لم يراهن عليه فرانسيس فورد كوبلا، في رائعته "العراب" لكان ربما احتاج وقتًا وجهدًا أكبر في إيضاح ذلك الانحياز لعمل الممثل، وإيلائه الاهتمام الأكبر. فلم يكن ذلك الشاب القصير الصقلي، ذو العينين الواسعتين الجاحظتين، ليلفت انتباه أحد من منتجي هوليوود كي يسندوا له دور عاشق أو رجل عصابات. لكن الرهان كان على حصان رابح سوف يكسب معظم سباقاته، ويبقى محتفظًا بمزاج البرية، وحرية الانطلاق في المدى الشاسع.
في هذه المقالة، نستعرض 5 من أهم أفلام آل باتشينو، ونحاول الإضاءة على أشكال متنوعة من الأدوار التي جسّدها وقدّم من خلالها أداءً تمثيليًا مميزًا ذو نبرة عالية.
1- Dog Day Afternoon
الفيلم من إخراج الكبير سيدني لوميت. أُنتج عام 1975، وهو من أهم الأفلام في مسيرة آل باتشينو بعد أن ذاع صيته سينمائيًا وعالميًا عقب تقديمه شخصية مايكل كوروليوني في فيلم "العراب"، إذ أبرز الفيلم قدرات مغايرة لآل، وشكل تحديًا شخصيًا له لناحية إظهار إمكانياته كممثل قادر على لعب مختلف أنواع الشخصيات. كما شكل له حالة من التحرر، ومنحه مساحة أكبر للعب من تلك التي مُنحت له في "العراب". وكان آل باتشينو على مستوى التحدي، إذ حصل عن دوره في الفيلم على ترشيحه الثاني لجائزة الأوسكار.
تدور أحداث الفيلم الذي ولدت فكرته لدى صنّاعه من مقالة عن عملية سطو مسلح على بنك في بروكلين عام 1972، حول ثلاثة شبان بلا أي خبرة سابقة في عالم الجريمة يقررون، بخطة ارتجالية، السطو على أحد البنوك. وبعد دخولهم وإشهار السلاح، يُجبن أحدهم ويغادر هاربًا، فيبقى كل من "سوني" الذي جسده آل باتشينو، و"سال" الذي لعب دوره ببراعة جون كازال.
وخلال وقت قصير، تصبح عملية السطو حدثًا اجتماعيًا، إذ يتجمهر الناس ويقدمون الدعم للسارقين، ليُصبح تعاطفهم دافعًا لإتمام عملية السطو بنجاح داخل البنك. ويعود هذا التعاطف إلى الجوانب الإنسانية للسارقين التي أظهرها انعدام خبرتهما، ودفعت الرهائن إلى مساعدتهما على إتمام العملية والفرار.
لكن الأحوال تتبدّل فجأة، وبتسارع غريب، بعد اكتشاف الشرطة أن سبب السطو هو رغبة سوني بإجراء علمية تحول جنسي لصديقه، فيعرف الجميع حينها ميوله المثلية، ويخسر تعاطف الخارج، فتضغط الشرطة أكثر، من خلال استخدام حياته الشخصية على الملأ لجره إلى الإستسلام، ويبدأ التعاطف من قبل الرهائن بالزوال أيضًا، لينتهي الفيلم بمقتل سال، والقبض على سوني.
يُعتبر الفيلم واحدًا من أهم المراجع في علم التمثيل لناحية قدرة الممثل على إحداث تحولات بطيئة وغير محسوسة للتحولات العميقة في مصيرها.
2- Carlito's Way
يذهب آل باتشينو في هذا الفيلم بعيدًا في أداء ساحر غير مسبوق في مسيرته، يدمج فيه القوة بالضعف والحرص بالاندفاع، ليقدّم واحدة من أعذب وأجمل الشخصيات السينمائية التي تحوم فوقها روح الميلودرامية الشكسبيرية، ما منح الشخصية زخمًا عاطفيًا وتعاطفيًا. ناهيك عن الرتم التصاعدي في الأداء والأحداث الذي كشف من خلاله آل باتشينو الشخصية وماضيها بالتدريج. فالشخصية تعيش لحظتها الراهنة، وتغلق السبل نحو ماضيها، وهذا ما دفعه نحو أداء مركب متحفز يخفي فيه الممثل الكبير الماضي، ويبدأ بالشخصية من لحظة التحول. لكنه، في لحظة غاية في البراعة، يكشف لنا كيف كانت تلك الشخصية في ماضيها، ثم يعود ويخفيها.
تدور الأحداث حول رجل العصابات كاريلتو الذي ينهي فترة سجنه، ويخرج إنسانًا مختلفًا يحاول الابتعاد عن عالم العصابات والجريمة. يبدأ حياته بإصلاح أخطاء الماضي، ويستعيد حبيبته، ويقرر جمع مبلغ من المال والسفر معها إلى ولاية أخرى بعيدًا عن صخب نيويورك ورتمها المعقد. لكن مغادرته لعالم الجريمة، لم يدرأ عنه التورط بسلسلة من الأفعال التي تعيده إليه، وكأن هذا النمط من الحياة هو قدره الذي لافرار منه. فبعد نجاحه في الفرار مع حبيبته، وعند باب القطار، يعاجله شاب صاعد من العصابات لم يكن ضمن حساباته، ويرديه قتيلًا بين ذراعي حبيبته.
3- Scent of a Woman
ينفرد آل باتشينو في هذا الفيلم بأداء منهجي ساحر منحه أوسكاره الأول. وكأن آل باتشينو قد نجح أخيرًا في تلقين هوليوود درسًا قاسيًا، لينتصر لأداء النبرة المرتفعة، وينمذجه، ويبث فيه الروح مرة أخرى، بعد أن صار في المقاييس الحديثة شكلًا مستهجنًا من الأداء.
تدور أحداث الفيلم حول الكولونيل المتقاعد الذي فقد بصره خلال خدمته في جيش الولايات المتحدة، مما زاد طباعه الحادة حدة، وعزز جسارته وحسه الساخر ونظرته العدمية للحياة. ويروي قصة التحول الذي طرأ على حياة الكولونيل الذي اقترب من قرار الانتحار، والذي يحدث عندما يحتاج إلى مرافق في عطلة الصيف يأخذه إلى أقاربه. يتقدّم إلى الوظيفة طالب في مدرسة مرموقة يحتاج إلى المال. وتنشأ علاقة بينه وبين الكولونيل تجعله يعيد النظر في قيمة الحياة، وقيمة مواجهة الظلم، والقسوة والخوف.
فيلم أيقوني يُعتبر واحدًا من أجمل أفلام القرن العشرين.
4- The Devil's Advocate
يستند هذا الفيلم إلى أساطير أدبية مثل "الجحيم" لدانتي وأسطورة "فاوست". إذ الفيلم في العوالم المظلمة، ويُبرز وجود الحياة الموازية للحياة العصرية، ويناقش فلسفة الخير والشر بلغة سينمائية لا تخلو من روحية أدبية أسطورية، عززها الأداء المدعم بروحية مسرحية لآل باتشينو. فلكما استغرقنا في تفاصيل الحكاية العصرية، ظهر آل باتشينو ليمنح الفيلم مسحة مأسطرة ورتمًا مسرحيًا.
تدور أحداث الفيلم حول محامٍ شاب واعد اشتُهر ببراعته، فهو لم يخسر قضية واحدة أوكلت إليه. وفي أحد الأيام، يتلقى دعوة من شركة محاماة ضخمة في نيويورك. وهناك، يقابل مدير الشركة الذي يمنحه العديد من الامتيازات، ويلازمه في القضايا الكبرى ليحقق نجاحات متتالية.
ولكن، بالتوازي مع صعوده المهني، تبدأ زوجته بالانهيار بسبب رؤيتها خيالاتٍ تجعل من حياة الشاب جحيمًا، خاصةً بعد أن بدأت الشكوك تتسرب إليه، وبدأ هو الآخر يشعر بأن هناك شيئًا ما غير طبيعي. ثم، في ذروة الفيلم، يكتشف أن مدير الشركة هو الشيطان نفسه، وأنه وقّع معه صفقة، وصار من أتباعه.
يُصنف الفيلم على أنه فيلم رعب، لكنه في الحقيقة يُعد من الأفلام الفلسفية التي حققت توازنًا ملفتًا بين الأسطورة والمسرحية والسينما.
5- Heat
استُخدم موضوع جمع ممثلين عملاقين هما آل باتشينو وروبرت دي نيرو في الحملة الترويجية للفيلم. وبالفعل، ساهم هذا الترويج في انتشاره بسرعة بين عشاق هذين النجمين والمهتمين بهما وغير المهتمين حتى. وعلى الرغم من أن الممثلين الكبيرين لا يلتقيان سوى في مشهد واحد، لكن هذا المشهد هو درس حقيقي في منهجية التمثيل التي ينتمي إليها كلاهما.
تدور أحداث الفيلم حول لص مشهور بذكائه متخصص في السطو على البنوك والعربات المصفحة التي تنقل الأموال. ينجح هذا اللص مع عصابته في الاستيلاء على سندات بقيمة 1،6 مليون دولار، لكن يحدث أمر غير متوقع، إذ يقوم أحد أفراد العصابة بقتل شرطي، فيُستدعى الضابط هانا لحل القضية، وهنا يبدأ بتتبع خيوط الجريمة وتكوين تصور عن قائد هذه المجموعة، ولا يخفي إعجابه بذكائه.
في المقابل، يشعر اللص "روبرت دي نيرو" أنه محط إعجاب الضابط، ويبدأ الاثنان سلسة من المراسلات والإشارات المتبادلة مكانها مسرح الجريمة حتى يلتقيان في مقهى، حيث يدور بينهما حديث فلسفي عميق محوره الحدود الفاصلة بين الشخصي والمهني، وبأنهما يتشاركان العالم نفسه، وأن الضابط هو مجرم بسلاح مرخص. وقد عُدّ هذا المشهد واحدًا من أهم وأعظم المشاهد في تاريخ السينما حتى الآن.