تقف كلّ يوم عند عتبة الباب، حانيةَ الرأس. تضعُ طوقًا قطنيًا يحرس رقبتها الطويلة ويرفع تجاعيدها إلى أسفل الذقن. ذقنها حاد، وكتفاها كأنهما تحملان هذا البيانو الذي ضاع فاستعاضت عنه بمكنسة قشّ طويلة، عند عتبة باب. وكنا نحن كأحجار الدومينو.
لا يتركها مئزرها، كما لو أن له موعدًا يوميًا ليمزّق يومًا آخر من الرزنامة ويضع الورقة والتاريخ في جيبه. هذا المئزر المزركش يبحث في الرزنامة الورقية عن اقتراحٍ لطبخة اليوم. يداها متمسّكتان دومًا بمكنسة القش، وجزمة النايلون تحدّ الباب: "ماذا لو عادت ماري ولم تكن عتبة الباب هنا؟ البيانو لم يعد هنا. كان قريبًا جدًا من الباب. بيتنا صغير، نعم. غرفتان وردهة صغيرة وبيانو يسترقُ النظرَ إليه، هؤلاء الشياطينُ... عند عتبة باب".
وكنا نحن كأحجار الدومينو. لا ندري إن كانت هي الأكبر سنًا أم زوجها. لا فرق. مجرد عجوزين أضاعا البيانو على حافة الباب وينتظران ماري لتعود. عرفنا أن ماري أتت متأخرة بعد سنوات كثيرة من الزواج وكانت فرحتهما كبيرة بمجيء الطفلة إلى حدّ أنهما لم يصدقا أن الطفلة لم تعد طفلة. بلغت سن المراهقة، وما زالا يرافقانها إلى باص المدرسة ليودعانها، هو بطقمه السكّري البيج وربطة العنق ذات القطع الصغيرة البنية والزهرية، وهي بجزمتها النايلون وطوقها القطني. يلوّحان بأيديهما حتى يختفي الباص الذي يحمل طفلتهما التي باتت مراهقة رغم كل "تلاويح اليدين"، ظنّا أن تلويح اليدين كفيلٌ بإيقاف الزمن... وكنا نحن كأحجار الدومينو، ننمو تباعًا.
وكانت طفلتهما ماري، التي لم تعد مراهقة، قد وصلت إلى مرحلة لا تحتاج فيها إلى باص ولا إلى مدرسة، فاكتفت بتوديعهما عند عتبة الباب، وباتا ينصتان إلى وقع كعب حذائها العالي وهي تنزل وتصعد درجات ستّا... ثم درجات سبعا، وهما يقفان أمام الباب... الباب ذاته الذي أصبح بعضنا لاحقًا يسترق النظر منه إلى البيانو الذي اختفى...
وكنا، نحن، أحجارَ الدومينو. لم نتحول بعدُ إلى شياطين.
في الواقع، كان كلّ منا في ركنٍ ما، في مبنى ما، في حيٍّ ما من أحياء بيروت، إلى أن اندلعت حرب أخرى، فبات المبنى الذي نسكنه ملعبًا فسيحًا لترتيب أحجار الدومينو ولإخراج الشياطين من ثقوبها البِيض؛ ثقوب التهجير، التهجير المضاعف. بعضنا تهجّر من الجنوب إلى هنا، وبعضنا تهجّر من هنا إلى بيروت الشرقية، وبعضنا تهجّر من تل الزعتر إلى هنا، وبعضنا كان قد تهجّر من منصورية بحمدون إلى الرملة البيضاء في بيروت، وبعضنا ترك بتاتر ليسكن في شارع الحمرا، وبعضنا هُجِّر في إحدى المعارك من الصفير في الشياح إلى الرملة البيضاء، وعاد إلى هنا.
هنا... هذا المبنى الفسيح حيث يتحول الأطفال إلى أحجار دومينو تُخرج شياطين من ثقوبها البيض، وكانت العجوز تصرخ في الصباح وفي المساء. ترصد عتبة الباب صباحًا وتخرج رأسها من نافذة الحمام مساءً احتجاجًا على أصوات موتورات المياه.
لم نرها يومًا إلا بصحبة مكنستها الخشبية الطويلة مرفقةً بمجرودٍ حديدي، وفي يديها قفازَان من المطاط الأصفر يمتدان حتى الكوع، ويغطيان بشرتها المجعدة، وطوقها القطني يحرس هشاشة عنقها من آلام الديسك.
حين لا يجدها المرء عند عتبة الباب، كانت تتوسط حبل الغسيل بقفازيها الصفراوين، وتنقذ ما تبقى من المناشف والثياب الداخلية في يومٍ ممطر.
كانت تسكن في الطابق الثاني، هي وزوجها وابنتهما ماري التي لم تعد طفلة منذ زمن. وكنا نحن أحجار الدومينو، نخرج شياطيننا من الثقوب البيض كراقصي الباليه الذين يرقصون على ألحان بيانو قد اختفى.
باع الزوج البيانو. كان ملحنًا موسيقيًا. رأيناه يخرج يومًا من منزله الصغير مع مايز البياع ويومًا آخر مع وليد توفيق. كان دائم التأنق. يرتدي بزّاتٍ وبناطيل واسعة مع ربطات عنق منقّشة. وكنا نحن شياطين الدومينو - أعني أولادَ عمّي الكبير وأولاد عمّاتي، ابنةَ ابنِ عمّة أبي "بنت ابن عمّة بيي" وأخاها، ابنة ابن عمة أبي الآخر، نفس العمّة ولكن من أب ثانٍ، أحفاد جارتنا - نهيّئ الأجواء للموعد؛ موعد "هابي دراي"، Happy dry.
كانت نقطة التجمع عند الدرج السفلي للطبقة الثالثة. كان الصمت سيد الموقف، وكان كلٌّ منا حريصًا على الحفاظ على قمّة الهدوء، ونحن متكئون على الحائط. الحجر الأول يتحضر للتدحرج.... يسبقه الحجر الثاني الذي ما إن تراه حتى تلتبس الأمور عليك: حجر دومينو يمارس رقص الباليه.يمشي متنقلًا بين زوايا الكوريدور على أصابع قدميه ووراءه المجموعة. هناك لحنٌ يقترب. هناك عودٌ يغوص في حضن رجل. خلف الباب. نمشي على رؤوس أصابعنا... وصلنا إلى الطابق الثاني.
حجر الدومينو الأخير في المجموعة يتسلّل بين راقصي الباليه ويتدحرج محدثًا فوضى عارمة... تتدحرج الأرجل. اللحن يقترب أكثر فأكثر. إنه قابعٌ خلف هذا الباب. اختفى راقصو الباليه. لم يعد هناك إلا أحجار دومينو يتحضرون لإخراج شياطينهم... بوجوهٍ ذات قسماتٍ هائجة في هرج ومرجٍ، وعشرونَ يدا تطرق الباب.
إنه باب الرجل؛ الملّحن. زوجته نجلا؛ نجلا التي تنتظرنا أمام الباب كل يوم وبيدها مكنسة القش لتصرخ بنا ونحن ننزل الدرج.
كانت الوجوه ذات القسمات الهائجة تردد كلمتين فقط. كلمتان رددناهما بسرعةٍ فائقة ونحن نصرخ "نخبِّط" على الباب بعنف قبل الهروب. عشرون ثانية كنا نردّد فيها عشرين مرّة Happy Dry، ونختفي.
Happy dry happy dry
Happy dry happy dry
Happy dry happy dry
اختفى لحن الرجل الملحن.
في الثانية الحادية والعشرين تفتح نجلا الباب بكفّيها البلاستيكيّتين، وتركض وراء آخر حجر دومينو دون أن تحظى بفرصة التقاطه. تقف وحدها في الكوريدور، وتبادر بأعلى صوتها إلى شتمنا معبرة عن قمة غضبها من طقسنا اليومي هذا. تخرج بعض النساء إلى المنوَر لمتابعة آخر فصول المشهد، تبادر نساءٌ أخريات إلى تهدئة نجلا. تعود الحركة الطبيعية من جديد إلى الكوريدور. اختفى أثرنا في المبنى ومحيطه.
وهناك خلف باب الطابق الثاني وراء الدرج، يقبع رجل. يبدو على وجهه شيءٌ من الهدوء "المنغَّص" باستسلام غير مرغوب فيه، وفي حضنه عود.كان اسمه سعيد الناشف.
القصة الأولى من المجموعة القصصيّة المعنونة "شياطين الدّومينو" الصّادرة حديثًا في بيروت عن "دار النهضة العربيّة".