عن أربعة وثمانين عامًا رحل الناقد والمفكّر المصريّ صلاح فضل تاركًا إرثًا من المعارف العربيّة والعالميّة.
ولدَ صلاح فضل في قرية شباس الشهداء وسط الدلتا عام 1938، وكأنّ الريف شكّل حالة السكينة التّامة التي يحتاجها العظماء، حتّى وصل إلى كلية دار العلوم ليتخرج فيها ويعمل مُعيدًا، بعدها غادر إلى إسبانيا ليبدأ رحلة تجديد المثاقفة مع الغرب اللاتيني بعد أن استنشق التراث العربيّ وتطيّبَ منه، ليحملَ هذه الرائحة إلى الأندلس مستذكرًا تاريخ العرب فيها، مسترشدًا بعلمائها وفلاسفتها. من أبرز تحديات صلاح فضل كانت العشريّة المعرفيّة بين جامعة مدريد وجامعة المكسيك؛ فبعد أن عمل مدّرسًا في جامعة مدريد التي تخرج فيها حاملًا شهادة الدكتوراه، انتقل إلى المكسيك ليؤسس قسمًا للغة العربيّة وآدابها في جامعة المكسيك المستقلة.
بعد العشريّة المعرفية في التلقي المعرفي والمثاقفة مع الغرب، بدأ صلاح فضل يؤسس للخروج من منهجيّة السّياق إلى منهجيّة النّسق، كأنّه يهربُ من الواقعيّة المقلقة
شكّلت ساعات المعرفة التي قضاها صلاح فضل في مكتبة الإسكوريال موردًا حضاريّا وغطاءً معرفيًّا؛ ففي هذا المكتبة مئات من المخطوطات باللغة العربية لحضارة الأندلس العربيّ، وهنالك التقى بروح المستشرق الإسباني خوسيه كوندي (1765-1820) ليخبره أنّ العرب بنوا حضارة أسست للفكر الإسباني الحديث، وليس احتلالًا يهدمُ ما كان.
لعلّ قراءة الإسبانيّة وإجادتها لم تبعد صلاح فضل عن المدارسة النقديّة العربيةّ؛ لأن إرثه من الكتب النقدية وافر، ففي أكثر من عشرين مؤلّفًا في حقل الدراسات، نجده يجمع بين الدراسات النقديّة العربيّة، والدراسات الإسبانية. كذلك لا يمكن إخفاء حقل الترجمة فقد ترجم عن الإسبانية مجموعة أعمال في الحقل المسرحيّ أهمّها أعمال الكاتب المسرحيّ "أنطونيو بويرو باييخو": حلم العقل، ووصول الآلهة. ومن المتوقع أنّ الترجمة كانت داخل الإطار الأكاديميّ لكن من الواضح تأثّر صلاح فضل بكتابات باييخو المسرحيّة، ففي فترة الواقعيّة تشكّلت لدى صلاح فضل وغيره من الكتاب ما يسمّى قلق الثقافة فعلى حد تعبير المفكر فؤاد زكريا" الثقافة ليست أمانًا واطمئنانًا، وليست دعة وهدوءًا وإنّما العيش في خطر، وهي قلق وتوّثب دائم". جاء ترجمات صلاح فضل لتؤكد حتميّة العقل في صناعة الإبداع الكونيّ. وبالتالي شكّلت عمقًا معرفيًا في الإبداعات النقديّة التي قدّمها للمكتبة العالميّة.
بعد العشريّة المعرفية في التلقي المعرفي والمثاقفة مع الغرب، بدأ صلاح فضل يؤسس للخروج من منهجيّة السّياق إلى منهجيّة النّسق، كأنّه يهربُ من الواقعيّة المقلقة، وصولًا إلى منهج نقدي تحوّلي على مستوى النصّ في القراءة النقديّة العربيّة؛ فبدأ ذلك من خلال كتاب "نظرية البنائية في النقد الأدبي"، حيث شكّل هذا الكتاب فرشًا معرفيًّا للباحث عن القراءة البنيوية، خصوصًا في الحقل البنيوي العربيّ. وما يميّز هذا الكتاب وفق كثير من الدّارسين أنّه نتاج عملي عميق شملت دراسات من روّاد البنيويّة في الغرب. وفي ظل التحوّلات في المنهج نجد أنّ مقالات صلاح فضل كانت تأخذ الإطار الأسلوبيّ، فكانت الأسلوبية منهجًا دراسيًا لعديد من الدراسات التطبيقية جمعها الكاتب في كتاب مرجعيّ مهم للدارسين: شفرات النصّ بحوث سيميولوجيّة، وفي هذا العنوان نجد منهجًا جديدًا من المناهج السياقيّة أي المنهج السيميائي. إن هذا الانتقال في المناهج ليس فيه شبهة من تردد أو تذبذب، بل حبُّ الاستطلاع المُلح الذي يتسم به العقل النقديّ الأصيل وفق ما وصفه الأستاذ ماهر فريد.
ومن أبجديّات حفاظه على العربيّة نجد أن صلاح فضل كان عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة، وقد توفّاه الله رئيسًا للمجمع، قدّم من خلال عمله في المجمع رؤية حضارية للغتنا الأم في مواجهة تحديّات اللغات الدخيلة، وفي زمن أصبح الرقيّ الحضاري يرتبط بالمشابهة الغربيّة وفق مصطلحات نُدرِكُ تكوينها ونجهلُ استخدامها، منها تلك التي تأتي في ضرورة الفصل بين الدّين والثقافة كما كان ضروريا الفصل بين الدّين والسياسة، وفي ذلك نقتبس ما قاله صلاح فضل في حواره مع مجلّة ثقافات التي تصدر عن جامعة البحرين: "أنا رجلٌ معجونٌ بالثقافةِ العربيّة الإسلاميةٍ، زُرعتُ فيها لأنّ أجدادي السبع كما أتمثلهم من علماء الأزهر، وتعلّمتُ القراءة والكتابة في المخطوطات العربيّة القديمة، والمصاحف المذّهبة، وأزعمُ أنّ غيرتي الدينية لا تقبل أن أتصوّر أنّي محرومٌ منها".
لعلّ القارئ العربي يحزن لغياب صلاح فضل ذلك لأنه من المفكرين الذين أُرسلوا إلى إسبانيا، وشكّلوا تغييرًا معرفيًا في الثقافة العربيّة، وهو آخر مجاييله الذين خطفهم الموت سابقًا وحديثًا نذكر منهم: عبد العزيز الأهواني، أحمد هيكل، محمود علي مكي، الطاهر مكي، عبد اللطيف عبد الحليم، حامد أبو أحمد، عبد العظيم فتحي خليل سليمان العطار. رحمهم الله جميعًا.