اختارت الكاتبة الفرنسية آني إرنو (1944)، بقصدٍ أو بدونه، تقديم أعمالٍ روائية تحسب على أدب التجارب الفردية. ولكنها، عملًا بعد آخر، استطاعت نقل كتاباتها إلى مساراتٍ سردية مختلفة نسبيًا، أخذت عندها منحىً مختلفًا قدّمها باعتبارها أعمال أدبية تجاوزت الفردية باتجاه الذاتية الحميمية، بل الحميمية جدًا، لا سيما وأنها متعلقة بحياتها الشخصية، وقائمة على أحداث معينة مؤلمة وحَرِجة استعادتها أدبيًا لتحولها إلى شيءٍ شاملٍ وواضح يسهل إدراك معناه.
كما هو الحال في جميع روايات الكاتبة الفرنسية آني إرنو، تكون الفتاة التي تلعب دور البطولة داخل العمل هي إرنو نفسها وليست شخصية متخيلة
أخذت روايات إرنو بفعل هذه المسارات شكلًا أقرب إلى عملية نقلٍ لأشياء تبدو مبتذلة ومكررة مثل المشاعر والعواطف، بالإضافة إلى الانفعالات والانطباعات الحميمية، وهي أشياء شخصية داخلية شديدة الخصوصية، ولكنها في المقابل فائضة ومتوفرة بكثرة، إذ إن لكل فردٍ عواطفه وانفعالاته وانطباعاته ومشاعره، ولكل ما ذكر خصوصيته أيضًا، شرط أن يظل داخل الفرد ذاته، مما يعني أن عملية نقلها صوب الخارج قد تنزع عنها هذه الخصوصية وتجعلها مكررة ومبتذلة بحكم وفرتها، وهو ما تفادته الكاتبة الفرنسية أثناء نقلها لها بأسلوبٍ استطاعت عبره الحفاظ على جوهرها المتمثّل بخصوصيتها التي جنبتها الوقوع في فخ الابتذال.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "روساريو".. هل أنا فعلًا أنا أم ما صنعه الآخرون؟
الكتابة بهذا الشكل تبدأ معقدة قليلًا ثم تصل في النهاية إلى شيءٍ من الوضوح، والسبب أنها تبدأ من داخل الفرد باتجاه خارجه: محيطه ومكانه وزمانه وموقعه وموقفه منهما. إنها كتابة تجعل مما يحدث داخل الفرد نقطة الصفر أو خط البداية، بحيث تصول وتجول داخله ثم تخرج صوب عالمه الخارجي لتقدمه إليه، كما للقراء، انطلاقًا مما عاينته داخل عالمه الداخلي، تمامًا كما هو الحال في أغلب روايات إرنو، ومنها "الحدث".
الحكاية داخل "الحدث" (منشورات الجمل 2019، ترجمة سحر ستّالة) جاءت بسيطة وعادية، بل وقد تبدو مكررة، ولكن هذا الانطباع يدحضه اعتماد الكاتبة الفرنسية في سردها للحكاية على تجاربها النفسية غير المستهلكة سابقًا، ذلك أنها تخصها وحدها فقط. ولا نقول هنا إن هذه التجارب هي التي صنعت هذه الأهمية والخصوصية لإرنو، وإنما أسلوبها في نقلها إلى القارئ، وطريقتها في إقناعه بها فيما بعد.
وكما هو الحال في جميع روايات الكاتبة الفرنسية، تكون الفتاة التي تلعب دور البطولة داخل العمل هي إرنو نفسها وليست شخصية متخيلة، إذ إن العمل قائم برمته على استعادتها لحدثٍ "لم يكن إلا زمنًا داخل ذاتي وخارجها" (ص 21)، وهذا الحدث ليس إلا تجربتها مع الحمل والإجهاض، إذ تكتشف بعد علاقة جنسية عابرة أن هناك كائن ينمو في داخلها، لتبدأ البحث عن وسيلة للتخلص منه في بلدٍ يُجرّم فيه القانون الإجهاض، وهو ما ضاعف من مأساة البطلة التي تبدو كما الحكاية ككل، عادية جدًا.
الصفة التي التصقت بـ "الحدث"، وهي البساطة، يمكن أن نعيد أسبابها إلى كون مأساة البطلة ليست جديدة، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لفكرة الرواية أيضًا، إذ يمكن أن نقرأها عند كتّاب آخرين بظروف وأحداث وسياقات مختلفة.
ولكن، في المقابل، هناك ما ينفي هذه الصفة عن العمل، فإذا كانت فكرة الحكاية ليست جديدة بل وعادية أيضًا، فإن التفاصيل الصغيرة والدقيقة، بالإضافة إلى المشاعر والانفعالات والانطباعات الحميمية التي استطاعت صاحبة "امرأة" نقلها إلى القراء دون أن تفقد خصوصيتها؛ لا يمكن أن تكون عادية طالما أنها تعنيها هي فقط. وهذه القدرة على إقناع الآخر بما سبق وأن اختبرته، تعدّ نقطة القوة الرئيسية للعمل، والجزئية التي تنفي عنه عاديته، وهو ما يمكن للقراء ملاحظته إن قرأوه بذات الطريقة التي كُتب عبرها: انطلاقًا من الداخل.
بالنسبة إلى آني إرنو، يتمثل الحل في الكتابة من الداخل من جهة، ونقل كل ما يندرج تحت خانة العواطف أو المشاعر من الشخصية الرئيسية إلى القارئ بدقة شديدة من جهة أخرى
امتدت الحكاية على مدار ثلاثة شهور حاولت البطلة خلالها إسقاط ما ينمو داخلها سرًا، والتخفيف من حدة قلقها والخوف الذي رافقها إلى جانب تأزُم حالتها النفسية بسبب شعورها أحيانًا بأن حملها مجرد خيال، أو إدراكها أحيانًا أخرى بأن الجنين: "هنا، ولا سبيل للمزيد من الخيال" (ص 50)، فتبدأ حينها محاولات جديدة لإسقاطه، تصف للقارئ شكلها بالقول: "كنت أنهك نفسي لأقتله تحتي" (ص 56).
اقرأ/ي أيضًا: بول أوستر: أمل جديد للموتى
وبعد فشلها في العثور على طبيب يجري لها العملية سرًا، تستدل في النهاية إلى ممرضة تساعدها مقابل مبلغ مالي تستدينه من امرأة عاشت التجربة ذاتها، وما هي إلا أيام قليلة بعد زيارتها حتى تتمكن من إسقاط الجنين أخيرًا: "أمسكت به بإحدى يديّ، كان ذا ثقل غريب، وسر في الرواق حاضنة إياه بين فخذي. صرت شبيهة بوحش" (ص 77).
اكتسبت "الحدث" أهميتها إذًا من العوامل التالية: الذاتية الحميمية بل الحميمية جدًا، ونقل المشاعر والانطباعات والانفعالات وغيرها إلى القارئ دون أن تفقد خصوصيتها، والأهم قدرة المؤلفة على إقناعه بها دون استجداء عواطفهم. أما بالنسبة للحكاية، فما هي إلا المساحة التي أظهرت آني إرنو عبرها مهاراتها هذه. وما ينطبق على "الحدث" ينطبق على بقية رواياتها، مثل "الاحتلال"، و"المكان"، و"امرأة"، و"شغف بسيط".
"الاحتلال" (منشورات الجمل 2011، ترجمة إسكندر حبش) تحمل ذات الوصفة التي كُتبت بها "الحدث"، حيث الحكاية عبارة عن حادثة مرّت بها الكاتبة الفرنسية التي قررت استعادتها لتحولها إلى رواية تبدأ أيضًا من داخل البطلة التي تعيش، شأنها شأن بطلة "الحدث"، مأساة تبدو عادية جدًا، وإلا كيف يمكن وصف أو تفسير غيرة امرأة من امرأة أخرى؟
بالنسبة إلى إرنو، يتمثل الحل هنا في الكتابة من الداخل من جهة، ونقل كل ما يندرج تحت خانة العواطف أو المشاعر من الشخصية الرئيسية إلى القارئ بدقة شديدة من جهة أخرى، الأمر الذي يمنح هذه الغيرة بعدًا مختلف يجعل منها شكلًا من أشكال الاحتلال: "بدءًا من تلك اللحظة، اجتاح وجود تلك المرأة كياني. لم أعد أفكر إلا عبرها. ملأت تلك المرأة تفكيري، صدري، بطني، كانت ترافقني أينما ذهبت، تملي عليّ عواطفي. (...) كنت، بالمعنى المزدوج للكلمة، محتلّة" (ص 17-18).
الخلاصة أن آني إرنو تجيب في رواياتها على سؤال: كيف يمكن إقناع القارئ بما يحدث داخل الفرد؟ عبر تقديمها نموذج قائم على فكرة الحفاظ على الخصوصية، وهو النموذج الذي يؤكد أن التجربة منفردة لا تصنع عملًا أدبيًا إلا إذا قدمت بكامل خصوصيتها.
اقرأ/ي أيضًا:
مع جوليا كاميرون.. نحو كتابة إبداعية دون رجم
إيرج بزشك زاده في "خالي العزيز نابليون".. كيف يقتلنا الخيال؟