في كتابه "قصص لا ترويها هوليود مطلقًا"، يستذكر المؤرخ الأمريكي الشهير هوارد زن أسطورة الصحافة آي أف ستون، واصفًا إياه بـ "أهم صحافي في القرن العشرين".
ستون كان يكتب في الصحف الكبرى حتى أدرك أنه لم يكن مسموحًا له أن يقول بعض الأشياء، ولذلك ترك الصحافة السائدة وأسس نشرته الخاصة "نشرة ستون الأسبوعية"، وأصبحت مشهورة لأنها تنشر معلومات وآراء لا يمكن الحصول عليها في مكان آخر. لقد كان يدعى ليحاضر في الجامعات عن الصحافة، وقال للطلاب ذات مرة: "سوف أخبركم عن أشياء كثيرة بالطبع، لكن إن كنتم تريدون أن تصبحوا صحافيين متميزين يجب أن تتذكروا كلمتين سهلتين: الحكومات تكذب".
إذا كان ستون قد كُرس كأحد أيقونات صحافة التحقيقات الأمريكية، فإنه بالمقابل قد اتُهم بأنه صحافي عنيد، أو "راديكالي"، وصولًا إلى اتهامه أنه كان جاسوسًا يعمل لحساب جهاز الاستخبارات السوفييتي
يقول زن: "قد يبدو هذا مثل بيان فوضوي، لكن الفوضويين هنا محقون، إنهم على صواب عندما ينزعون إلى الريبة والشك بخصوص أولئك الممسكين بالسلطة الرسمية، وذلك لأن هؤلاء المسؤولين يميلون في الغالب إلى الكذب من أجل مواصلة البقاء في السلطة".
ولد ايزيدور فنشتاين ستون في فيلادلفيا عام 1907 لأسرة مهاجرة من روسيا. درس في جامعة بنسلفانيا وبدأ الكتابة الصحافية منذ أن كان طالبًا فيها. وتوفي عام 1989 عن عمر ناهز 82 عامًا.
وبحسب استطلاع للرأي احتلت "نشرة ستون الأسبوعية" المرتبة الـ 16 في قائمة أفضل مئة مطبوعة أمريكية في القرن العشرين، على الرغم من كونها جهدًا فرديًا متواضع الإمكانات. حصل ستون على 15 من أرفع جوائز الصحافة في الولايات المتحدة وأوروبا، وأهمها "جائزة الضمير الإعلامي" التي تمنحها جمعية الصحافيين والمؤلفين الأمريكية.
امتهن تدريس الصحافة، بعد تقاعده عام 1971، في جامعة بنسلفانيا التي كان قد رسب فيها في شبابه ولم يكمل البكالوريوس.
في كتاب د. د. غوتنبلان، الذي جاء تحت عنوان "أمريكي راديكالي ـــ حياة اي. ف. ستون وأزمنته"، يقول المؤلف إنه إذا كان ستون قد كُرس كأحد أيقونات صحافة التحقيقات الأمريكية، فإنه بالمقابل قد اتُهم بأنه صحافي عنيد، أو "راديكالي"، وصولًا إلى اتهامه أنه كان جاسوسًا يعمل لحساب جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق "كي.جي.بي".
ويؤكد غوتنبلان، في كتابه، على أن ستون "كان مأخوذًا بالسياسة وعالمها حيث لم يتردد في اتخاذ مواقف راديكالية عديدة، وفي البحث عن المسارات الحقيقية للتاريخ من جهة، وحب الحياة ومباهجها من جهة أخرى".
في العام 1950 وجد ستون نفسه عاطلًا عن العمل، إذ امتنعت الصحف، وخاصة المرموقة منها، عن نشر مقالاته وهكذا قرر إصدار مطبوعته الخاصة، والتي لم تلبث أن صارت واحدة من أشهر المطبوعات الأمريكية وأكثرها تأثيرًا.
في تلك الأثناء كان السيناتور مكارثي يشن حملته الشعواء ضد المثقفين والصحافيين وقادة الرأي بحجة ملاحقة عملاء الشيوعية، وقد طالت حملته الكثير من الأسماء اللامعة، واستخدمت فيها أساليب غريبة على الحياة السياسية في الولايات المتحدة. هذه الحملة وقائدها صارت مادة دائمة لـ "ستون ويكلي"، التي كتبت مالم يجرؤ الكثيرون على قوله في مواجهة السيناتور الموتور.
وكذلك اتخذت مجلة "ستون" مواقف جريئة ضد جميع أشكال التمييز العنصري، وتأييد حركة الحقوق المدنية الخاصة بإعطاء الأفارقة الأمريكيين (السود) حقوقهم كمواطنين.
لقد كان ستون صوتًا مميزًا وامتلك "شهية كبيرة للبحث، وكان قد عرف عدة تطورات في مساره الصحافي، هذا فضلًا عن أنه عاصر الكثير من الأحداث الكبرى وكان رائدًا عندما أصدر مطبوعة فردية جمع فيها بين البعد السياسي والتحقيق الصحافي، مما يعتبره المؤلف نوعًا جديدًا في العمل الصحافي لم يسبقه إليه أحد".
محاكمة سقراط
ثمة وجه آخر للصحافي آي إف ستون وهو كتابه "محاكمة سقراط". إنه نوع فريد من الكتب إذ يتعامل مع ميدان التاريخ بأدوات التحقيق الصحافي الاستقصائي.
كان ستون صوتًا مميزًا وامتلك "شهية كبيرة للبحث، وكان قد عرف عدة تطورات في مساره الصحافي، هذا فضلًا عن أنه عاصر الكثير من الأحداث الكبرى وكان رائدًا عندما أصدر مطبوعة فردية جمع فيها بين البعد السياسي والتحقيق الصحافي
يكشف ستون عن جوانب مهمة في الصراع بين سقراط ومعارضيه من السفسطائيين وعامة الشعب. وهي جوانب ظلت خافية حتى الآن، وكانت هي الفاعل في تهيئة المناخ العام لجر سقراط إلى المحاكمة بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب والحكم عليه بتجرع السم في سنة 399 ق.م.
صدرت الترجمة العربية للكتاب في العام 2002 عن المشروع القومي للترجمة في مصر. ويقول المترجم نسيم مجلي، في مقدمته، إن قصة هذا الكتاب لا تقل إثارة عن موضوعه. فقد كان المؤلف صحافيًا مرموقًا من دعاة الحقوق المدنية وكانت مقالاته تنشر في بعض الصحف الأمريكية الرئيسية.. فلما اضطر إلى التقاعد نتيجة الذبحة الصدرية عام 1971، انصرف إلى دراسة حرية التعبير على أساس اعتقاد راسخ عنده مفاده أنه لا يوجد مجتمع فاضل مهما كانت مقاصده ومهما كانت ادعاءاته الطوباوية والمثالية، إذا لم يكن رجاله ونساؤه قادرين على التعبير علنًا عما يدور في عقولهم.
وبعد أن قطع الكاتب شوطًا طويلًا في دراسة ثورات الإنكليز ضد الحكم المطلق في القرن السابع عشر، وهي التي ساهمت في تطور النظام الدستوري الأمريكي، اكتشف أنه لا يستطيع فهم هذه الثورات دون الإلمام الكامل بحركة الإصلاح البروتستانتية وكشف العلاقة الوثيقة بين الكفاح من أجل الحرية الدينية والكفاح من أجل حرية التعبير. وفي سبيل هذه الغاية رجع إلى الوراء للبحث عن جذورها في كتابات المفكرين المغامرين الذين وضعوا بذور حرية الفكر في العصور الوسطى حين تم اكتشاف أرسطو عن طريق الترجمات العربية والعبرية وما لحق بها من شروح وتعليقات في القرن الثاني عشر الميلادي.
وأسلمته هذه الترجمات إلى مصادرها الأولى في أثينا القديمة، وهي أقدم المجتمعات التي ازدهرت فيها الديمقراطية وحرية التعبير بدرجة لم يصل إليها مجتمع سابق ولا مجتمع لاحق حتى الآن. وحين رجع إلى هذه الأصول، وجد أنه من الصعب الوصول إلى استنتاجات فلسفية أو سياسية صحيحة بالاعتماد على هذه الترجمات، ليس فقط لأن المترجمين كانت تنقصهم الكفاءة، بل لأن المصطلحات الإغريقية لم تكن في أغلب الأحوال مطابقة لمرادفاتها في اللغة الإنجليزية.
قرر الكاتب أن يدرس اللغة اليونانية القديمة، دراسة كافية تمكنه من حل معضلات النصوص الأصلية، لأنه في هذه الأصول فقط يمكن للباحث أن يقبض على دلالات الألفاظ، بل وعلى ظلال المعاني الكامنة في ثنايا هذه الألفاظ دائما. وقد استغرق هذا البحث سنوات طويلة. وكانت ثمرته هذا الكتاب المثير الرائع. والذي يصفه المؤلف بقوله: "هذا الكتاب هو ثمرة هذا العذاب. لقد شرعت في كتابته لكي اكتشف كيف أمكن لهذا الحادث المحزن أن يحدث. لم أستطع أن أدافع عن الحكم عندما بدأت ولا أستطيع الدفاع عنه الآن. لكنني أردت أن أكتشف ذلك الذي لم يقله لنا أفلاطون، لكي أعطي الاثينيين جانبًا من القصة ولكي أخفف جريمة المدينة وأمحو بهذه الطريقة وصمة العار التي لحقت بأثينا وبالديمقراطية من جراء المحاكمة".
اهتم ستون بتبرئة سقراط وبتبرئة الديمقراطية، وقدم في كتابه دفاعًا مجيدًا عن حرية التعبير وعن الديمقراطية في سياق يلائم مدينة أثينا في عصر سقراط كما يلائم عالمنا المعاصر.