تخيل بورخيس الفردوس كنوع من المكتبة، ولطالما تمنى أن يكون نزيلًا أبديًا في هذه الغرفة المترعة بـ"الأرواح المسحورة"، وقد تحققت أمنيته عندما تم تعيينه مديرًا للمكتبة الوطنية في بوينس آيرس، ولكن القدر، وفي مفارقة مأساوية وساخرة، سلب باليسرى ما منحه باليمنى "هو الذي بمفارقته الساحرة / وهبني الكتب والعمى في لمسة واحدة".
في مفارقة مأساوية وساخرة، سلب القدر باليسرى ما منحه باليمنى لبورخيس، وهبه الكتب والعمى في لمسة واحدة
روجيه غرينييه كان أكثر حظًا، إذ مُنح الكتب دون العمى. لقد شغل لعقود طويلة منصبًا رفيعًا في "غاليمار"، دار النشر الأشهر في فرنسا والعالم، حيث كانت الكتب، كل الكتب، في متناول يده.
اقرأ/ي أيضًا: متاهات الكتب وحياة القراءة
ذات يوم من عشرينات القرن الماضي، أخذت الأم طفلها غرينييه إلى طبيب للأمراض النفسية، لقد كان يقضي ساعات طويلة منبطحًا على السجادة مغرقًا وجهه في كتاب، الشيء الذي كان سيؤدي حتماً إلى مرض عقلي خطير، وبالكاد استطاع الطبيب، الذي ضحك كثيرًا، إقناع الأم بأن ليس في إدمان قراءة الكتب ما يخيف. فأي مآل لطفل كهذا أفضل من أن يكون مديرًا في غاليمار؟!
في كتابه "قصر الكتب" (دار المدى 2018 ـ ترجمة زياد خاشوق)، يقدم غرينييه بعضًا من حصاد رفقته الطويلة للكلمات. يتحدث عن الكتب، وعن الحياة من خلال الكتب، مستعرضًا مئات العناوين والأسماء ومرصعًا صفحات كتابه بالاستشهادات والمقبوسات المشعة. بودلير؛ دستويفسكي؛ تشيخوف؛ هنري جيمس؛ ستاندال؛ البير كامو؛ جان بول سارتر؛ دينو بوتزاتي؛ فرجينيا وولف؛ فلانري أوكونور؛ جوزيف كونراد؛ جيل دولوز.. والعشرات غيرهم حاضرون هنا من خلال أفكار وومضات وإشارات، مقدمين شهادات مكثفة عن الأدب، وتجربة الكتابة.. وتجربة الوجود.
في فصل بعنوان "الرحيل"، يتحدث المؤلف عن إعلان حقوق الإنسان الذي تضمن سبعة عشر بندًا، قبل أن يتوقف، "دون أية رغبة في المزاح"، عند عبارة بودلير الذي اخترع بندًا ثامن عشر ثم بندًا تاسع عشر وهما: الحق في مناقضة الذات والحق في الرحيل. وليس المقصود بالرحيل هو "أن ينزل المرء يومًا ليشتري الثقاب ثم يمضي دون رجعة، وإنما هو الانتحار". يقول بودلير: "إن الانتحار يمكن أن يكون أحيانًا العمل الأكثر تعقلًا في الحياة". ومن بين الأسباب الكثيرة المعقدة للانتحار، يتوقف غرينييه عند قول بافيزي قبل انتحاره: "فكرة الانتحار كانت اعتراضًا من أجل الحياة. يا لها من ميتة حين لا يعود المرء راغبًا في الموت". وبعد استعراض سريع لسلسلة المنتحرين من الأدباء، يصل إلى ما قاله باسكال بيا "فقير، أنا لا أريد أن أحب الفقراء... لطالما بدا لي المنتحرون نوعًا ما كضحايا تكفيرية مكلّفة بدفع فدية أو دين عالم لم يشتركوا في تكوينه. إنه دور مقرف لا أريد أن أمثله".
أما الحق في مناقضة الذات فهو يصدم كل الفلسفات التي تسعى أساسًا إلى إضفاء الوحدة والانسجام، وهو ينبع مما قاله جورج باتاي: "الرغبة في أن نكون كل شيء". نحن ومنذ يفاعتنا نقف أمام هذه المعضلة: أن نختار شيئًا من بين أشياء كثيرة نريدها كلها. وسنة بعد سنة تتقلص الخيارات ونستقر على صيغ أقل، ومع ذلك فإن الثبات يبقى صعبًا، وتظل الخيارات الأخرى ماثلة ومغوية. وأدباء كثر هم الذين مارسوا حق مناقضة الذات، في كتاب واحد أو أكثر..
غرينييه يضيف من عنده الحق العشرين: الحق في الصمت.
بودلير اخترع بندين أُخريين لحقوق الإنسان وهما: الحق في مناقضة الذات والحق في الرحيل، أي الانتحار
وفي فصل آخر بعنوان "نصف ساعة عند طبيب الأسنان"، يتحدث المؤلف عن القصة القصيرة، منطلقًا من فلانري أوكونور التي ترى أن القصة يجب أن تتوجه إلى القارئ عن طريق الحواس، "ينبغي أن يمر كل شيء عبر الدم، وليس عبر الرأس.. ينبغي على القاص أن يفهم أن الشفقة لا تنتج عن الشفقة، ولا العاطفة عن العاطفة ولا الفكرة عن الفكرة. بل لا بد من إعطائها جسدًا. مارسيل أرلان، بدوره، كان يعتقد أن القصة القصيرة ليست بحاجة إلى نظرية، "ما تطالب به من مريدها، هو الحب". ويلاحظ غرينييه أن مصير القصة القصيرة كان على الدوام مرتبطًا بشروط اقتصادية، فهي تنطلق في بلد ما، في فترة ما، عندما يكون هناك صحافة ومجلات قادرة على إعاشة الكتاب، "إنها فرنسا موباسان وروسيا تشيخوف والولايات المتحدة في زمن فولكنر وهمنغواي وسكوت فيتزجيرالد". وبعد استعراض تاريخي لنشأة هذا النوع الأدبي وأبرز محطاته، يصل الكاتب إلى القصة القصيرة في أيامنا هذه: "اكتب الآن قصة قصيرة في فرنسا ولن تعرف ما ستفعل بها. وإذا ما قدمت، ككاتب مبتدئ، مجموعة إلى ناشر فهناك احتمال كبير بأن يجيبك: إنها ليست خالية من الموهبة. ولكن ألا تريد أن تبدأ بإعطائنا رواية؟!".
اقرأ/ي أيضًا: رحيل كارلوس زافون... مقبرة الكتب المنسية ليس الوجهة هذه المرة
هكذا يتنقل غرينييه، برشاقة وسلاسة، بين موضوعات شتى: من الانتظار إلى الانتحار إلى الجريمة إلى الحب إلى الذاكرة إلى القصة القصيرة.. وفي الفقرة الأخيرة من الكتاب يتساءل عن الحاجة إلى الكتابة ومعرفة ما إذا كانت هذه الحاجة تقدم سببًا للحياة. لماذا تكتب؟ يجيب صموئيل بيكيت: "ما الذي يمكنني فعله غير ذلك؟!". يختم غرينييه: "ما العمل غير ذلك، ربما كانت تلك هي الكلمة الأخيرة".
اقرأ/ي أيضًا: