هل يُمكن تجريد بلاد تطلّ على البحر أو تحتضن جبلًا أو نهرًا، من بحرها أو جبلها أو نهرها؟ كذلك لا يستطيع باحث من الباحثين أن يتجاوز كاتبًا أصيلًا في مشهد ما، ليس من زاوية كونه مؤسّسًا لجنس أدبي معيّن فقط، بل من زاوية كونه أضاف لهذا الجنس تجديدًا وتجريبًا أيضًا، وهذا ما ينطبق على القاص المغربي أحمد بوزفور (1945).
يقرّ القاص المغربي أحمد بوزفور "النظر في الوجه العزيز" بأن حياته إنسانًا وفنّانًا كانت ثمرةً للحلم
ولئن استطاعت نصوص "شيخ القصّة" كما يُنادى أحمد بوزفور في الفضاء المغربي، أن تفرض نفسها محليًّا وعربيًا، وتصل إلى مضارب التلقي المختلفة، فقد بقيت تفاصيل مساره القصصي ورؤاه في هذا الفن المغبون عربيًا تدور مدار النخبة ومحيطه الضّيق، وهي من الأهمية بمكان، ذلك أن وراء كلّ نصّ عميق تفكيرًا يوازيه في العمق أو يزيد عليه.
اقرأ/ي أيضًا: "جدار أخير" ونوستالجيا مي خالد
من هنا، يكتسب كتاب "الخيول لا تموت تحت السّقف" أهميته، بإدخالنا عالمَ ومناخات قاصّ بقي وفيًا لخياره السّردي وللتجديد فيه، عمارةً وعبارةً وهاجسًا على مدار خمسين عامًا، في ظل "خيانات" بالجملة للقصّاصين العرب والغربيين في حق القصّة القصيرة لصالح الرواية خاصّةً.
الكتاب الصّادر عن دار عكاظ، عبارة عن حوار مطوّل أجراه الشّاعر والصّحفي المغربي عبد القادر وساط مع أحمد بوزفور، وشمل ثلاثة أقاليم هي القصة والفن والحياة، وفق انسجام عميق بين الرّجلين، أي بين السّؤال وجوابه، بعيدًا عن ثقافة اليقين واحتكار المعنى، بما يرفعه إلى مقام بيان أدبي وفلسفي يضيء للقارئ، وللقاص الشّاب تحديدًا، عتمات في طريق الكتابة والقراءة معًا.
يقرّ صاحب "النظر في الوجه العزيز" بأن حياته إنسانًا وفنّانًا كانت ثمرةً للحلم، فهو منذ صغره، كان يحلم بأن يكون المتنبي، وهو الذي تخصّص لاحقًا في الشّعر الجاهلي، ثم حلم بأن يكون المعرّي فالخيام فموزارت فطاغور فبومةً عمياءَ فبحيرةً من البجع. "ضعتُ، توزّع دمي بين القصائد والقصص والموسيقات. قتلتني الكلمات والأنغام"، وأحيته هو ذاته لا غير فيما بعد.
هذا الذي يبدو غرابةً أو مفارقةً للبعض، يعتبره نزيل مدينة الدار البيضاء التي لا يستطيع مفارقتها أكثر من أسبوع واحد منذ عام 1970، ثراءً يجعله يولد يوميًا من جديد. "في يوم واحد قرأت شعرًا سويديًا وشعرًا عربيًا قديمًا ومغربيًا حديثًا، وسمعت موسيقى فارسية، ورأيت صورة ممثلة هندية جميلة، وقرأت رسالة من صديقة بعيدة في "فيسبوك". إنه "الخلّاط" الذي يصنعني".
رفض أحمد بوزفور "جائزة المغرب للكتاب" احتجاجًا على تراجع الأوضاع السّياسية والاقتصادية في بلاده
يرفض أحمد بوزفور الرأي القائل إننا نكتب أنفسنا ونقرأ الآخر، فهو يؤمن بالعكس، ذلك أن كتابات كثيرة تتشابه بينما القراءة بصمة، وقد سمع حكايات كثيرة من غيره، لكنه لم يستثمرها، بينما أشعله بيت شعر في مرات عديدة. هنا ذكر ومضة فعلت معه ذلك، لشاعرة يابانية قال إنه نسيها. تقول: "في راحة يدي ريشة ناعمة/ سقطت من السّماء/ الطير الذي أضاعها لا يعرف سعادتي".
اقرأ/ي أيضًا: رشيد الضعيف.. متاهة الذكرى والخيال
ويقسّم صاحب "صيّاد النعام" كاتبي القصّة إلى القاصّ الحمَل، يعاشر الناس ويعاشرونه، وقد يرونه مرآتهم، لكنهم في النهاية يأكلونه. والقاص الذئب، يعيش متوحدًا في عزلة، نافرًا من الأضواء والشّهرة والنّاس الذين لا يفهمونه في الغالب. "لغة القاص الحمَل خارجية بصرية شفّافة، تقدّم العالم الواضح المفهوم، بينما لغة القاصّ الذئب داخلية رؤيوية، حافلة بالكتب لا بالنّاس، وبالنّصوص لا بالمشاهد، وبالشّعر لا بالوصف".
هذا المنطق الأخير، هو ما دفع أحمد بوزفور القاص إلى أن يتمرّد على "شيوخه" في القصّة القصيرة، مثل تشيخوف وكافكا، تماشيًا مع مقولة إنّ الفقهاء قد يلدون زنادقةً، ومع المنطق الذي يقول إن العشب أكثر اخضرارًا خلف السّياج. "أقرأ كثيرًا للواقعيين وأعجب ببعضهم، لكنني حين أكتب، تطلع كتابتي قريبة من العجائبي والشعري".
وبرّر أحمد بوزفور، الذي رفض "جائزة المغرب للكتاب" احتجاجًا على ما قال إنه تراجع للأوضاع السّياسية والاقتصادية في بلاده، عدم خوضه تجربة الكتابة للصّحافة، ما عدا محاوراته لبعض الكتّاب التي جمعها في كتاب "الزرافة المشتعلة"، بكونه لا يؤمن بأن كل كاتب يمكنه أن يكون صحافيًا، "فهي فكرة لا تضاهيها في الخطأ إلا الفكرة التي ترى أن كل صحافي يستطيع أن يكون كاتبًا". يشرح قناعته: "الصّحافة ليست فقط شكلًا من أشكال الكتابة. إنها مهنة خاصة مستقلة لها قواعدها وثقافتها ومدارسها وشروطها وآدابها".
من طرائف الحوار أن عبد القادر وساط، الذي ظهر ملمًّا عميقًا بالمسار الإبداعي لمحاوره، سأل أحمد بوزفور عن تصرّفه إن هو فتح الباب فوجد أحمد بوزفور، فقال هذا الأخير إنه سيسأله: لماذا تكثر من التشبيه؟ "ذلك أن مفهومي للسّرد أنه تفتيت وفرز وتمييز، بينما ينتمي التشبيه إلى الشعر في المقام الأول".
اقرأ/ي أيضًا: