ترتكب الأنظمة الديكتاتورية أخطاءً جسيمة في سبيل قمع الشعوب والحفاظ على السلطة. ولا أقصد هنا الأخطاء أو الجرائم التي تُرتكب في حق المواطنين، بل في حق النظام نفسه.
أدوات فرض السيطرة محفوظة وثابتة على مر التاريخ، تتقولب فقط طبقًا لمعطيات كل عصر. وكالأفعوان، تغيّر من جلدها ولكن الجسد ثابت.
يمكن اعتبار الدراسة كُتيب استرشادي وخط عريض ينطلق القارئ من خلاله إذا ما أراد فهم طبيعة السجن في تلك المرحلة الزمنية
يأتي سجن المعارضين كأداة أولى مضمونة النتائج من أدوات السيطرة وفرض النظام الجديد بالقوة. وهذا ما أقصده بالخطأ الجسيم. فالأجهزة الأمنية تظن، بسذاجتها وغبائها، أنها تحمي النظام. لكنها لا تدرك الكارثة التي تصنعها في حقه، فكثيرٌ من السجناء السياسيين يكتشفون ذواتهم في غمار تجربة السجن، ذلك أن المواطن الذي يدخل السجن بلا هوية، يخرج منه مفكرًا أو أديبًا أو شاعرًا أو باحثًا ليقاوم بالكتابة، ويوثق ويشرح ويفضح ما فعلته السلطة.
تنهار السلطة وتذهب أدراج الرياح، وتبقى الكلمة شاهدة ومؤرخة على جنون السلطان.
دخول السجن مش "زي خروجه"
صدر الشهر الماضي كتاب بعنوان "من يمتلك حق الجسد؟ قراءة في الحياة السِّجنِيَّة"، عن "دار أمم للتوثيق والأبحاث"، للباحث المصري أحمد عبد الحليم. وهو كاتب وباحث وناشط سياسي، يكتب في موضوع الاجتماع السياسي والجسد وعلاقته بالسلطوية، إلى جانب اهتمامه بالسياسات العقابية في السجون المصرية.
اعتُقل عبد الحليم لمدة عامين، بدايةً من ديسمبر 2014، بسبب نشاطه السياسي السلمي المناهض لسلطة ما بعد 3 تموز/ يوليو 2013، ووجِّهت إليه التهم المعتادة: "الانضمام لجماعة محظورة، التظاهر بدون ترخيص، إزعاج السلطات"، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوم، لكنه خرج في يناير 2017 بعد أن خفّضت محكمة النقض الحكم إلى 6 أشهر.
لم يكن عبد الحليم كاتبًا قبل السجن – كما يقول عن نفسه – فقد بدأ الكتابة داخل السجن، يكتب القصص ووجهات نظره التي تعبّر عن مراهقة في رؤية الأحداث أكثر ما تعبر عن فهم حقيقي لها. بدأ مرحلة القراءة الذاتية مع الدراسة والمتابعة بعد خروجه من السجن. اهتم بالشأن السياسي، وتدريجيًا بدأ يدرك أن عقله يميل إلى تحليل الموضوعات المتعلقة بعلم الاجتماع السياسي، وعلاقة السلطة بالمجتمع، وتفاعلات الجسد وماهيته السوسيولوجية مع السلطويات المتعددة من حوله.
اعتبر عبد الحليم السجن عالمًا آخر وحياةً أخرى لها قانونها اللفظي والمرئي. سياسات عقابية تُهندِس وتعيد إنتاج النفس والجسد من جديد حسب رؤيتها الخاصة. عالم صادم أثّر فيه وانصهر معه. وتدريجيًا، تحول إلى باحث يسجل ما مرّ به مع غيره من تجارب.
عبد الحليم: امتلكت السلطوية في مصر، منذ بدء تأسيسها الحديث على يد محمد علي باشا، أجساد مواطنيها من خلال سيادتها وسياستها الحيوية
دوافع عبد الحليم واضحة في هذه الدراسة، يقول لـ "ألترا صوت": "لا شك أن السجن بات هو الحديث الحاضر دائمًا في مصر، لاسيما من بعد تولي سلطوية ما بعد الثالث من تموز/ يوليو 2013 زمام الحكم. وهذا بسبب اعتقالها عشرات الآلاف من المواطنين في مصر. هذه المرحلة الزمنية التي شغل فيها السجن أحاديث كثيرة، ستكون بداية تأريخٍ تفكيكي للفضاءات السِّجنية بشكل عام، أي أنها لا يصح أن تمر دون الوقوف معها وقفةً جادة، تحدق النظر فيما وراءها بعين مبصرة، تعرف كيف تفكك الممارسات، وتؤطرها بتنظير متماسك يخص الجسد والنفس، دون أدلجة".
لدينا مثل مصري شهير يقول "دخول الحمام مش زي خروجه" للتدليل على أن القيام بأي فعل له توابع يجب تحمّلها؛ أحمد عبد الحليم وغيره من الكتاب والمفكرين الذين تشكلت كينونتهم داخل السجن، هم خير مثال على الجريمة التي ترتكبها السلطة، كما ذكرنا، في حق نفسها. فدخول السجن، أيضًا، مش زي خروجه.
بعد قراءتي للدراسة، يمكنني الإشارة إلى أبرز ما لمسته بها، وهو المزج بين ما هو ذاتي وما هو أكاديمي. اهتمت الدراسة بالبحث وبالكتابات السابقة عن الموضوع الذي تناقشه، واستقت من الكتّاب السابقين ما يخدم النص، ولم تتماه مع النصوص القديمة، حيث قدّمت طرحًا جديدًا يوثق للمرحلة من نظرة إنسانية وذاتية. نقطة القوة أن الكتابة جاءت إنسانية نظرًا لأن الباحث هو سجين سابق بالأساس، فالنص حيوي ولم يكن جامدًا أو بحثًا نظريًا تملؤه الحسرة كأبحاث المستشرقين.
لا شك أن الحديث عن حياة السجون لا ينتهي، لكن الدراسة قدّمت المرجو منها في الزاوية التي تناقش من خلالها حياة السجين، أو بالأحرى جسده. يمكن اعتبار الدراسة كُتيب استرشادي وخط عريض ينطلق القارئ من خلاله إذا ما أراد فهم طبيعة السجن في تلك المرحلة الزمنية.
أحمد عبد الحليم يتحدث عن تمثلات الجسد داخل السجن
- تحدثت في كتابك عن 13 تمثلًا للجسد داخل السجن، هل تظن أنك رصدت كل تمثلات جسد السجين، وهل يمر كل سجين بجميع التمثلات؟
بدايةً، الكتاب مقسّم إلى ثلاثة فصول. أناقش في الفصل الأول ستة تمثلات للجسد، وهي: العاري، والمراقب، والذليل، والآلة، والخادم، والمريض، والميت. هذه هي التمثلات المتداخلة والمتباينة التي صنعتها السلطة السِّجنِيَّة عبر مرئياتها الحياتية. أما في الفصل الثاني، فأتحدث عن الجنسانية داخل السجن، كواليسها وعلاقتها بالسلطة والاجتماع السجيني في سياقات نفسية واجتماعية وتاريخية. وفي السياق الفلسفي أيضًا، حيث أضع تمثيل هذه الجنسانية في ثوب المقاومة لمرئيات الحياة السِّجنِيَّة. لأستكمل، في الفصل الثالث، تمثلات أخرى للجسد، هي: المُطوَّع، والمكروه، والموهوب، واللامنتمي، والأعزل، والمنبوذ. كما أتحدث عن الجسد المتخيّل للسجين في وجدان الجمهور المصري، كما الفلسفة الخاصة بـ "جوابات السجن" (الرسائل)، وكيفية صناعة ذاكرة تأريخية عبر أوراقها مثلًا.
عبد الحليم: تناولت السجن كفضاء يضم أجسادًا إنسانية، فلا نفرّق فيها بين السياسي والجنائي "الأساسي"، إلا في سياقات بحثية تستدعي هذه التفرقة
وعن منهجية الكتاب، فهي ممزوجة بين البحث الميداني والنظري، حيث أجريت 30 مقابلة مع سجناء وسجينات سابقين وسابقات في مقرات احتجاز فورية وغير فورية. كما أن الكتاب مؤطر نظريًا بأكثر من مئتي هامش بحثي وصحافي. ووضعت أيضًا فرضية مفادها، أن السلطوية في مصر، منذ بدء تأسيسها الحديث على يد محمد علي باشا (1769 - 1849)، قد امتلكت أجساد مواطنيها من خلال سيادتها (بوصف أغامبين) وسياستها الحيوية (بوصف ميشال فوكو).
وعليه، فإني أقرأ، في كتابي، السجن بوصفه فضاءً مصغرًا ومحدودًا، حولته السلطة السياسية من خلال يدها "السِّجْنية" إلى معمل تجريبي خاص بأجساد السجناء. كما تناولت السجن كفضاء يضم أجسادًا إنسانية، فلا نفرق فيها بين السياسي والجنائي "الأساسي"، إلا في سياقات بحثية تستدعي هذه التفرقة.
تمثلات الجسد كما أسميتها، هي تمثلات متداخلة ومتباينة، ينتقل لها الجسد تدريجيًا. لكن ليس من الضروري أن يمر الجسد السِّجني بكل هذه التمثلات. فمثلًا الجسد "الآلة" لا يمر به الكثير من السجناء، حيث في هذا التمثل أناقش العمالة السجنية داخل السجن وتمثيلها السلطوي على الجسد، وليس جميع السجناء يعملون داخل السجن، لذا ثورة الجسد كآلة، هي صورة خاصة وليس عامة. لكن توجد تمثلات أخرى، يمرّ بها كل السجناء، مثل الجسد العاري، الذليل، المنبوذ، الأعزل وغير ذلك. ومن المحتمل وجود تمثلات أخرى لم أنتبه إليها، لكني رصدت ما يمكن رصده.
- حدثني عن المجهود المبذول حتى الانتهاء من الكتاب، وهل واجهت صعوبات في النشر، لحساسية الموضوع الذي تناقشه. وهل ترى أنك قدمت كل ما يخص السجن في فترة زمنية محددة؟
بطبيعتي أتنكّر دائمًا من ذاتيتي، وأسعى إلى نوع من كتابة "ذاتية - جماعاتية"، تبدأ مني وتنطلق نحو الآخر، لأن القصة بالفعل ليست قصتي فقط، هي قصة الكثيرين، فأحاول أن أنطلق من ذاتيتي بشيء يمسّ الجميع. تدريجيًا ومع الوقت، نشرت التقارير الصحافية والدراسات والأوراق البحثية والنصوص الأدبية والتحقيقات الصحافية. كل تلك النصوص، دارت ما بين الاجتماع السياسي ودراسات الجسد، ومن بينهم ما يخص السجن.
وجدت أني كتبت كثيرًا فيما يخص الجسد داخل السجن، وكلما أنشر نصًا يتناول موضوعًا بعينه داخل السجن، تأتي لي فكرة، نص آخر، يتناول زاوية أخرى من الحياة السجنّية. هكذا كان الأمر. خطر في بالي وقتها أن أجمع ما كتبته بعد أن أنقص منه وأزيد عليه، ضمن كتاب بحثي، يُنشر بشكل ورقي، وأضعه بين يدي القارئ. وبين شهري يوليو من عام 2021 حتى يناير 2022، كنت قد انتهيت من الكتاب.
خلال هذه الفترة، عرضت فكرة الكتاب على "دار المرايا للإنتاج الثقافي" (القاهرة). رحبوا كثيرًا بفكرة الكتاب، لكن لم يقبلوا وضعه في خطة النشر لديهم، لأسباب أمنية، حرصًا على عدم استهدافهم من السلطة، خصوصًا أن أحد مدراء "دار المرايا" كان معتقلًا سياسيًا وقتها. ودائمًا ما تتعرض الدار لمضايقات، سواءً في معرض الكتاب أو حتى في مقر عملهم.
توجّهت بعد ذلك إلى "مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث" في بيروت. وهي مؤسسة بحثية ودار نشر مهتمة بالمؤسسات السجنية في الوطن العربي، وكنت قد نشرت معهم في نفس العام رواية قصيرة بعنوان "أجساد راقصة"، وهي رواية قصيرة تتناول أيضًا "سيميولوجيا الجسد" داخل السجن. رحّبت المؤسسة بالفكرة، وبالفعل قدّمت لهم الكتاب في يناير من العام الماضي، وبعد مراجعات من حيث بنية البحث والسرد والتدقيق، نُشر الكتاب في نوفمبر من عام 2022.
عبد الحليم: أقرأ في كتابي السجن بوصفه فضاءً مصغرًا ومحدودًا حولته السلطة السياسية إلى معمل تجريبي خاص بأجساد السجناء
سعدت جدًا بنشر الكتاب، وطرحه للقارئ بجميع خلفياته وأفكاره، وبالآراء التي تصلني من الأعزاء الذين أسعفَهم الوقت واستطاعوا أن يقرؤا الكتاب فور إصداره. لم أقدّم كل شيء عن السجن. ركزت على الجسد وتفاعلاتّه ضمن السجنية المحاصرة له.
وكما ذكرت ضمن منهجية الكتاب، فلا أقدم دراسة حقوقية تحصي وترصد بيانات وإحصائيات، ولا دراسة قانونية تدقق وترصد تطور اللوائح السِّجنية ومدى إنصافها أو إدانتها، ولا تاريخية جغرافية تتبع عمرانية وتاريخية السجن، ولا اجتماعية تبرز أخلاقيات مفقودة وتوصي باستعادتها؛ بل بصدد تفكيك الممارسة العقابية على الجسد، آخذًا من جميع السياقات، الاجتماعية والحقوقية والسياسية والفلسفية والتاريخية والجغرافية، ما يتناسب ويوضّح النص بشكل متماسك وقوي لمحاولة الرؤية بشكل أعمق، وطرحها لتكون مسار تحليل واشتباك، نقد وتفكيك، لا نص جامد يقدّم نفسه، على أسس يقينية.