وصل أليكس بيلوس إلى البرازيل سنة 1998 مراسلًا لجريدة الغارديان البريطانية، وسرعان ما أدرك الصحفي المجتهد أنه لن يعرف شيئًا كثيرًا عن تلك الأرض الشاسعة والغنية والمعقدة ما لم يفهم روحها المتجسدة في كرة القدم.
كرة القدم، كما حدس بيلوس فور وصوله، ليست مجرد رياضة هنا. إنها هوية وطنية وأسلوب حياة وتجسيد لطريقة في النظر إلى العالم. وببساطة فإذا أردت أن تفهم البرزايليين فعليك أن تراقبهم وهم يلعبون كرة القدم أو وهم يشاهدونها.
تتساوق حكاية كرة القدم في البرازيل مع حكاية العنصرية، ففي البداية كان اللعب بالكرة حكرًا على الأغنياء البيض، بينما اكتفى السود والملونون بالفرجة
هكذا تفرغ بيلوس عام 2000 لتأليف كتاب عن الكرة البرازيلية، وكان توقيتًا حساسًا، إن لم نقل غير ملائم، فالمنتخب الوطني كان في أضعف حالاته، وفساد الأندية واتحادات اللعبة كان في ذروته، وقد سادت نبوءة متشائمة تقول إن كرة القدم البرازيلية تعيش في مرحلة الأفول.
بالطبع تبين أن هذه النبوءة كاذبة وأن هذا التشاؤم مبالغ به، إذ استطاع المنتخب البرازيلي الفوز بكأس العالم في مونديال اليابان وكوريا الجنوبية عام 2002، مخالفًا بذلك كل التوقعات بما فيها توقعات أكثر مشجعيه تعصبًا.
على كل حال فقد ظهر الكتاب تحت عنوان "كرة القدم.. الحياة على الطريقة البرازيلية"، وقد حقق نجاحًا كبيرًا حيث جمع التأريخ إلى التحليل السياسي إلى النقد الرياضي إلى البحث الاجتماعي إلى قص الحكايات الطريفة.. والحصيلة نحو 440 صفحة من المتعة.
في العام 1894 نزل شارلز ميلر في ميناء سانتوس البرازيلي حاملًا كرة. لوح لوالده الذي وقف بانتظاره صائحًا: "هذه هي شهادتي يا أبي". ذلك أن ميلر الأب، وهو مهاجر اسكتلندي، كان قد أرسل ابنه إلى إنكلترا ليعود بشهادة جامعية، غير أن هذا كان قد أدمن هناك كرة القدم، فعاد لاعبًا محترفًا دون أي شهادة.
هكذا كان شارلز هو أول من نشر كرة القدم في البرازيل لكنه لم يكن الأهم، ففي العام 1901 عاد أوسكار كوكس من سويسرا إلى ريو دي جانيرو ليؤسس نادي فلومننسي ناشرًا حمى الكرة في طول البلاد وعرضها. ولم تأت سنة 1915 حتى أصبحت كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في ريو ثم في البرازيل كلها.
تتساوق حكاية اللعبة في البرازيل مع حكاية العنصرية، ففي البداية كان اللعب بالكرة حكرًا على الأغنياء البيض، بينما اكتفى السود والملونون بالفرجة، غير أن السحر كان قد مسهم بالفعل فراحوا يصنعون الكرات من أي شيء متوفر لديهم: ورق، خرق، جرابات، ملابس عتيقة ممزقة.. أي شيء يستطيعون تكويره وركلة يصلح أن يكون كرة. وكذلك راحوا يستغلون أي فسحة ليجعلوها ملعبًا. هنا، في الأزقة والحارات الفقيرة وعلى أرجل هؤلاء الراقصين اللاهين، الذين كانوا يشبهون البهلوانات، ولد سحر كرة القدم البرازيلية.
كانت أبواب الأندية موصدة من دونهم، لكنهم راحوا يتسللون إليها واحدًا تلو الآخر، وكان نادي بانغو هو أول من يسمح بانتساب السود، ومع ذلك ظل التمييز العنصري سائدًا، فكان السود والهنود يتعرضون لمضايقات لفظية وجسدية، ما جعلهم يحاولون إخفاء هوياتهم وملامحهم، مثل آرتور فريدنريتش، وهو لاعب من أب ألماني وأم برازيلية سوداء، والذي كان يخفي شعره الأجعد بكيه وتسريحه في عملية طويلة وصعبة كانت تتسبب في تأخره الدائم عن المباريات. وكذلك كارلوس البرتو الذي كان يطلي وجهه بدقيق الأرز.
تسيد السود والملونون كرة القدم البرازيلية وصاروا صناع أمجادها، بدءًا بفريدنريتش نفسه الذي قاد منتخب بلاده، سنة 1919 للفوز بكأس أمريكا اللاتينية، ليغدو رمزًا قوميًا
وعندما قام نادي فاسكو دا غاما بضم عدد كبير نسبيًا من اللاعبين ذوي الأصول الهندية والأفريقية فإنه واجه صعوبات جمة، فقد تم استبعاده من الاتحاد الوطني لكرة القدم حين تأسيسه، ولأن النادي كان يحقق نتائج مبهرة ويحظى بشعبية كبيرة، فإن الاتحاد اضطر إلى دعوته مع شروط عدة، بينها أن يكون لاعبوه قادرين على كتابة أسمائهم كاملة مع التوقيع، ولأن لاعبي النادي من السود والملونين كانوا أميين فقد كان هذا شرطًا تعجيزيًا، وتمكن النادي من تجاوزه بأن أرسل لاعبيه إلى دورات لمحو الأمية، ثم اختار لكثير منهم اسمًا سهل الكتابة والحفظ وهو "سيلفا"، ومن هنا كثر اللاعبون البرازيليون الذين حملوا في تلك الفترة اسم "سيلفا".
وثمة نظرية تعزو المهارات الكروية البرازيلية إلى التمييز العنصري، ذلك أن اللاعبين السود والملونين حرصوا على تجنب الاحتكاك بخصومهم البيض الذين كانوا يتعمدون إيذاءهم، فراحوا يتعلمون المراوغة والرقص والركض والخداع وكل الفنون التي ميزت الكرة البرازيلية ومنحتها سحرها.
وهناك من يقول بأصل آخر لسحر الكرة البرازيلية، ذلك هو الكابويرا، وهو أسلوب قتال أتقنه رجال الأدغال الأفريقية، ويقوم على مزج الرقص بالغناء بالقتال، تحريك بهلواني للأجساد وتلويح قبضات وركلات في الهواء، عراك استعراضي يبهر الخصوم ويذهلهم أكثر من أن يتسبب لهم بالأذى، وعندما صار أحفاد هؤلاء لاعبي كرة قدم في البرازيل فقد استخدموا الأسلوب نفسه في الملاعب.
في النهاية تسيد السود والملونون كرة القدم البرازيلية وصاروا صناع أمجادها، بدءًا بفريدنريتش نفسه الذي قاد منتخب بلاده، سنة 1919 للفوز بكأس أمريكا اللاتينية، ليغدو رمزًا قوميًا تقام له التماثيل وتغنى باسمه الأشعار.
أما ليونيداس دي سيلفا (الرجل المطاطي)، مبتكر ضربة "الدراجة"، فقد صار هداف مونديال فرنسا في العام 1938 بـ 7 أهداف. وقد لقبته الصحافة بـ"الماسة السوداء" وهناك نوع شوكولا برازيلي باسمه لا يزال موجودًا حتى اليوم. وبالتأكيد فإن تتويج هذه المسيرة جاء على يد الجوهرة السوداء، بيليه، الذي قاد المنتخب البرازيلي للفوز بكأس العالم ثلاث مرات: 1958، 1962، 1970.
يتحدث الكتاب عن "هزيمة الماراكانا"، وهي قصة غريبة في التاريخ البرازيلي المعاصر، فقد استضافت البرازيل مونديال سنة 1950 وحقق منتخبها نتائج باهرة إذ راح يسحق خصومه الواحد تلو الآخر، وكان عليه أن يتعادل فقط في المباراة الأخيرة أمام الأورغواي (حسب نظام ذلك المونديال) ليفوز بالكأس، ولكنه للمفاجأة هزم بهدفين لهدف في ملعب الماراكانا.
صار ليونيداس دي سيلفا (الرجل المطاطي)، مبتكر ضربة "الدراجة" هداف مونديال فرنسا في العام 1938 بـ 7 أهداف. وقد لقبته الصحافة بـ"الماسة السوداء" وهناك نوع شوكولا برازيلي باسمه لا يزال موجودًا حتى اليوم
قصة عادية ومكرورة في عالم الكرة ولكن نتائجها كانت مذهلة، إذ شكلت هذه الهزيمة جرحًا لا يندمل في روح الأمة البرازيلية لا تزال آثاره ماثلة إلى الآن. كانت هزيمة معنوية جمعية تسببت بمأتم وطني كبير، ولم يتحمل الكثيرون وقتئذ وقعها القاسي، حتى أن إدارة المنتخب سارعت إلى تغيير لون ملابسه من الأبيض إلى الأزرق لمدة ثلاث سنوات ثم إلى اللون الحالي، القميص الأصفر والشورت الأزرق.
ولم كل ذلك؟! يفسر بيلوس الأمر استنادًا إلى كتاب وصحفيين وعلماء اجتماع برازيليين كتبوا عن الموضوع: في العام 1946 كانت البرازيل قد خرجت من عهود استبداد سادها التعثر والقلاقل والتدهور، فأرادت أن تقلب الصفحة وتثبت أنها أمة كبيرة تستحق الحرية وتسعد بها، وأنها قادرة على الإنجاز.. وبالمقابل كان قد استقر اعتقاد واسع الانتشار أن كرة القدم هي روح البرازيل والبوتقة التي تنصهر فيها أعراقها ومكوناتها المتنافرة، والميدان الذي يتوحد فيه البرازيليون ويظهرون فضائل الهجين الذي صنعوه.. فأي مجال، إذًا، أفضل من كرة القدم لتثبت البرازيل الصاعدة نفسها؟ وفيما كانت أوروبا منهكة جراء الحرب العالمية الثانية، ودولها عاجزة عن استضافة المونديال، فإن البرازيل تقدمت بشجاعة وثقة، وحققت إنجازات هائلة في التشييد والبناء وتجهيز البنية التحتية، وخاصة تشييد الملعب العظيم، الماراكانا، الذي أُنجز في وقت قياسي وجاء على شكل تحفة معمارية ورياضية رائعة.. كل شيء كان يؤكد أن البرازيل على موعد مع المجد إلى أن جاء هدف الأورغواياني جيجيا ليضع حدًا للحلم ويقلب الأمور رأسًا على عقب.
في الكتاب الكثير من القصص الأخرى عن لاعبين وملاعب ومباريات وألقاب وأرقام.. عن السياسة والاقتصاد المشبوكين بكرة القدم، وعن أحلام الفقراء وصعودهم وأمجادهم التي تحققت عبر الكرة. ويختتم الكتاب بمفاجأة: فصل بعنوان "محاورات سقراط". وليس المقصود المحاورات الشهيرة للفيلسوف اليوناني العظيم، بل هي حوارات أجراها المؤلف مع سقراط البرازيلي، اللاعب الشهير الذي قاد المنتخب الأسطوري سنة 1982. درس سقراط الطب وتركه ليحترف كرة القدم وعندما اعتزل عاد إلى الطب ليتخصص في الطب الرياضي. وفي الحوارات نقع على شخص استثنائي: ذكي ومثقف، مهتم بالسياسة والقضايا العامة، يحلل كرة القدم ويشخص مشاكلها بأدوات عالم اجتماع محترف.