في العام 1945، أراد نزيه الحكيم ترجمة رواية أندريه جيد "الباب الضيق"، فأرسل يستشير المؤلف الذي سارع إلى إرسال رد جاء مزيجًا من الامتنان والاستهجان: "ترجمة كتبي إلى لغتكم؟ إلى أي قارئ يمكن أن تساق؟ ذلك أن واحدة من الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، فيما بدا لي، أنه، وهو الإنساني الروح، يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة.. وأخيرًا فأحسب أن ليس بين كتبي كلها أبعد عما يشغل نفوسكم من كتابي الباب الضيق. فبم يستطيع هذا الظمأ الصوفي الذي صورته هنا أن يمس نفوسًا هي قعيدة اليقين؟".
أدار الأدب الغربي ظهره للسرديات الكبرى، ولم تعد قضايا الصراع الاجتماعي، والتفاوت الطبقي، والفقر، والحرمان
يومئذ تكفل طه حسين بالرد نيابة عن المترجم، مذكرًا صديقه الفرنسي بالقلق الديني الشرقي "الخصب الذي منح الآداب العالمية من شعر الحب العذري والطموح إلى المثل العليا ما ليس له في الآداب الأخرى نظير"، مختتمًا بالتأكيد على أن "الشرق العربي جدير أن تثق به".
اقرأ/ي أيضًا: طه حسين.. أوراق مجهولة بالفرنسية
لا نعرف إن كان رد عميد الأدب العربي قد أقنع أندريه جيد، ولكننا نعرف أن "الباب الضيق" قد ترجمت إلى العربية بالفعل، ونعرف كذلك أن سؤال الروائي الفرنسي لا يزال مشرعًا حتى اليوم.
لم نعد تلك النفوس "قعيدة اليقين"، وليس لدينا اليوم الكثير من الأجوبة المطمئنة، ومع ذلك فالفجوة لا تزال قائمة.
لقد أدار الأدب الغربي (التيار العريض فيه) ظهره للسرديات الكبرى، ولم تعد قضايا الصراع الاجتماعي، والتفاوت الطبقي، والفقر، والحرمان، ومعظم أسئلة السياسة، من بين شواغله. لقد قطع العالم طولًا وعرضًا وهو اليوم يقف عند الحافة، في مواجهة الفراغ المرعب المقدس، حيث الأسئلة الوجودية، وحيث لا إجابات إلا القلق واليأس، وكنوع من الترويح عن النفس فهناك التفاصيل الصغيرة، والجزيئات الميكروبية، والشؤون العادية، والقضايا البوليسية، والجاسوسية، والجنس
بالمقابل، لا نزال نحن غارقين في طين هذه الدنيا، ملسوعين بالأسئلة الصغيرة والكبيرة، من رغيف الخبز حتى تغيير العالم. لا تشغلنا هواجس الحافة كثيرًا، ذلك أننا لم نصل إلى هناك بعد، لم نزل على الطريق، لم نزل في قعر "وادي الدموع" هذا، ما يجعلنا نحظى بمادة كثيفة من الآلام والآمال والمخاوف الدنيوية تعصمنا عن القلق الوجودي واليأس المقدس.
منذ أشهر، عرض في إحدى ضواحي دمشق فيلم "الغروب الجزئي"، وفي الندوة التي أعقبت الفيلم قالت سيدة إنها لم تستسغ شخصية المثقف الذي حاول الانتحار (توم لي جونز)، ولم تبرر محاولته ومنطقه، فانبرى "مثقفون" كي يوضحوا لها دوافع الانتحار: الإحساس بالعبث واللا جدوى وافتقاد العالم للمعنى.. فردت السيدة: "أنا لم أقل إنني لم أفهم. قلت إنني لم أتعاطف. أنا لا أتعاطف مع رجل يريد الانتحار وهو لم يفقد ابنًا في حرب، أو ابنة في حفل اغتصاب جماعي، لم ييأس من العثور على عمل، ولم يعجز عن إطعام أبنائه.. اعذروني فأنا فهمت بعقلي ولكن قلبي يقول إن هذا ترف".
هكذا فالمسألة ليست أننا نقيم في فردوس من الطمأنينة، وإذا كان لمثل هذا الفردوس من وجود فقد غادرناه منذ زمن. لم نعد تلك النفوس "قعيدة اليقين"، إذ صرنا نفوسًا لاهثة منهمكة بشواغل الحياة ومترعة بأحزانها. ولم نعد نحمل من الأجوبة أكثر مما نثير من أسئلة، بل إن لدينا الكثير من الأسئلة، لكنها مختلفة تمامًا عن تلك التي عناها اندريه جيد. أسئلتنا تتصل بأحلام فات أوانها، ومشاريع لم تنجز، بأبنية كان علينا أن نشيدها، وطرق كان يجب شقها.. أسئلة مزمنة تنتظر إجابات منذ قرنين من الزمان.
أسئلتنا تتصل بأحلام فات أوانها، ومشاريع لم تنجز، بأبنية كان علينا أن نشيدها، وطرق كان يجب شقها
ولكن ألا تقدم حياتنا هذه مادة خصبة لأدب رفيع، أدب حار تجري في عروقه دماء شابة، وتخطر في جنباته شخصيات من لحم وعظم، تأكل وتشرب وتضحك وتحلم بتغيير العالم.. أدب لا يجتر اليأس والتشاؤم، ولا يمجد العدمية، ولا يستعيض عن القضايا الجادة والشواغل الحقيقية بالألاعيب الشكلية و"التفانين" التقنية والأفكار المتحذلقة.. أدب يكف عن الانشغال بـ"أنا" المؤلف المتضخمة ويلتفت إلى العالم ومن فيه وما فيه؟.
اقرأ/ي أيضًا: التأتأة داخل اللغة
بنتاجات تحمل مثل هذه المواصفات، قامت أمريكا اللاتينية والهند وبنغلادش وأفغانستان وغيرها بضخ دماء جديدة في شرايين الأدب العالمي، وبإمكاننا نحن أيضًا أن نفعل ذلك.
ألا نستحق، وسط مصائبنا، هذا العزاء: أن ننتج أدبًا عظيمًا.
اقرأ/ي أيضًا: