بعيدًا عن هوس الترند (trend) وأحلام الانتشار المبنية فقط على الضجة الإعلامية في القنوات الفضائية وعلى محركات البحث في العوالم الافتراضية، صدر مؤخرًا عمل غنائي مشترك "ليبي – مصري" بصوت الفنان محمد محسن تحت عنوان "ضي القمر صياد"، كتب الأغنية شاعر المحكية سالم العالم، وقام بتلحينها الملحن تامر العلواني، بينما قام بتوزيعها الفنان خالد عز.
تجنبت أغنية "ضي القمر صياد" الظهور في مراسم الاحتفالات الرسمية وبرتوكولات الجلوس على طاولات الاتفاقات الدولية، واكتفت بحلم طربي بسيط من أجل تقديم عمل مميز ومختلف عما هو سائد
الأغنية تجنبت الظهور في مراسم الاحتفالات الرسمية وبرتوكولات الجلوس على طاولات الاتفاقات الدولية، واكتفت بحلم طربي بسيط من أجل تقديم عمل مميز ومختلف عما هو سائد، ليكون الفن معيارًا للانتشار والنجاح في محيط الطامحين لسماع عمل فني خالص قائم على التكامل نسبيًا بين العناصر المكونة للأغنية.
لم يكتفِ الفنان المصري محمد محسن بتطويع مشواره الفني وتجربته المميزة في محاكاة كلاسيكيات الفن العربي لتقديم عمل طربي بأدوات الفن المعاصر من أجل تقديم إضافة نوعية على الأغنية فحسب؛ وإنما أقدم على مغامرة خطرة من خلال اقتحامه اللهجة الليبية عبر مفردات مغرقة في العامية وغير متداولة من حيث النطق والمعنى، ليس على مستوى اللهجات العربية فحسب وإنما في مناطق ليبية كثيرة، واستطاع أن يتماهى مع اللحن المقدم ليمنح مفردات الأغنية معانيها بإحساس فني يخصه دون غيره.
ومن خلال متابعتي لأصداء العمل أظن بأن أكثر علامات التعجب التي طرحت حول الأغنية كانت تتعلق بجنسية الفنان ومدى قدرته على إتقان اللهجة الليبية مع احتفاظه بإحساسه المميز، فمحسن لم يتقن اللهجة فحسب ولكنه كان يغني وفقًا لقواعد الغناء الليبي بطريقة يصعب فيها تمييز لهجته الأصلية، وإن دل هذا الأمر على شيء فإنه يدل على موهبة هذا الفنان العالية ورغبته في تقديم عمل مثالي؛ فهو لم يكن يقلد اللهجة كممثل محترف وإنما كان يجسد الحالة الفنية لتقديم الإضافة الطربية للعمل الغنائي، ولم يكن هذا الأمر ليحدث في حال فقد المطرب سيطرته على اللهجة التي يتغنى بمفرداتها وافتقد إمكانية التواصل مع ثقافة هذه المفردات.
والنص هنا يقوم على تكثيف اللحظة واستحضار مجموعة من الصور الشعرية، في إطار سردي لتعميق فكرة علاقة غير متوازنة بين روح أنهكها الزمن وأخرى مزدهرة ومقبلة على الحياة، لكنها وصلت متأخرة.
قد يجهل جمهور الأغنية عنوان القصيدة الأصلي "متأخرة" كما دونها الشاعر سالم العالم ضمن ديوانه "خريف الريح"، الصادر عن مجلس الثقافة العام بليبيا سنة 2009، و"ضي القمر صياد" وهو عنوان الأغنية أنتج معنى مغايرًا على مستوى النسق العام للنص؛ فالعنوان بإمكانه التمهيد لتحديد مسار القراءة وبإمكانه أن يكون دليلًا لفكرة العمل الفني أو الأدبي، من هنا سيختلف تعاملنا مع قصيدة "متأخرة" التي تحيلنا مسبقًا لزمن علاقة منتهية، وبين "ضي القمر صياد" الذي يقدم حالة شعرية مستقلة عن أي تحديد زمني، باعتباره عنوان الأغنية بدلًا من أن يكون جملة في بداية النص الشعري، وفي كلا الحالتين نحن أمام نص رائع يحمل صورًا شعرية جميلة، الأمر الذي يؤكد على جودة النص وترابط عناصره.
إنه نص من النصوص التي تحتوي على مفردات مميزة رغم ما تحمل من تعقيد، لكن الأهم هو تركيبة جمله التي لا تخلو من الشعرية، متضمنة مفردات عتيقة في أطر حديثة عبر استحضار معان جديدة مثل: "الليل همسة خايفة" أو "في القلب دمعة نازفة"، وهي ألعاب شعرية يتقنها سالم العالم كما يتقنها شركاؤه في كتابة القصيدة المحكية الليبية.
لحن الأغنية لم يكن وليد اليوم لكنه يناسبه ويمثل طموحاته، وقد يشكل جزءًا من هوية هذا اليوم في ظل الفوضى التي تواجه الموسيقى العربية، ومحدودية مبادرات التحديث التي لا تقف عند حدود تجارب وجهود الموسيقيين، وإنما بسبب الارتباك في الذائقة التي باتت تحدد ما هو مسموع عبر آليات الانتشار والتداول.
"ضي القمر صياد" نموذج جيد للحديث عن موسيقى مختلفة، عن لحن يشاكس الكلمات ويعبث بالمقامات، عن كلمات غنائية فاتنة تقودنا إلى عوالم الشعر الجميل
وتامر العلواني كما أراه في "ضي القمر صياد"، وألحان كثيرة أخرى لم ترَ النور، ما زال إلى يومنا هذا يبحث عن هويته الموسيقية ما بين الماضي الجميل والحاضر المرتبك، بعقلية متأنية وموسيقى متجددة تقوم على دعوة جادة من أجل إنتاج لحن مغاير ينتمي إلى مدرسة الإحساس التي لا تكتفي بإتقان الجوانب الفنية، أو التوقف عند الوظائف الشكلية المتعلقة بصناعة الموسيقى وتقديم لحن يتناسب مع إيقاع الكلمات، واختيار المقام المناسب والانتقال من مقام إلى آخر بسلاسة وخلق الفواصل الجميلة، فكل هذا الأعمال وغيرها بإمكانها أن تكون أكثر إلهامًا عندما تنشغل بتعميق المعنى وتقديم إضافة موسيقية ناطقة لاستدراج عاطفة المتلقي كما كان يحدث في عصر الزمن الجميل، لذا فإن موسيقى العلواني -كما عند آخرين يشاركونه هذا المشروع- تبحث عن إيجاد أسس حديثة بشروط فنية لتقديم موسيقاه الطربية.
إن هذا العمل الفني هو نموذج جيد للحديث عن موسيقى مختلفة: عن لحن يشاكس الكلمات ويعبث بالمقامات، عن كلمات غنائية فاتنة تقودنا إلى عوالم الشعر الجميل، عن صوت مثقف بإمكانه خوض أي مغامرة غنائية متسلحًا بالإحساس رغم اختلاف اللهجات والمراحل، عن توزيع موسيقي بسيط لكنه في الوقت ذاته مهم؛ فالفنان خالد عز يعرف جيدًا قيمة ترويض الأعمال الموسيقية بروح الملحن لأنه فعلًا كذلك.
وأخيرًا يجب القول إن "ضي القمر صياد" ليس عملًا خرافيًا أو أسطوريًا، لكنه يمثل مناسبة جيدة للحديث عن نموذج فني طموح إلى جانب أعمال أخرى لا تقل عنه قيمة، نموذج يصدح بالطرب في زمن صار الحديث عن الطرب فيه شبهة جنون.