لا يمكن لرجل قضى حياته في قراءة الكتب مثل ألبرتو مانغويل ألا تكون له أفكار وألا يصاب بالجنون مثل دون كيشوت. تلك المسلمة هي التي دفعتنا لفتح مدونة صاحب "تاريخ القراءة" للبحث عن أفكاره وهو يخدعنا بصورة الحّكاء وراوي قصص غيره ضمن مشروعه الكبير "عقيدة القراءة".
صحيح أن مانغويل يتحدث كثيرًا عن مؤلفات الآخرين ويستغرق أحيانًا صفحات وصفحات قبل أن يعطي رأيه، ولكن الناظر المتأمل في ذلك الأسلوب يكتشف أن الرجل لا يتحدث عن الآخرين إلا ليقول فكرته، ومن هنا يمكن أن نقرأ أعماله بصفتها سير ذهنية، ويمكن أن نطلق عليها تقفية على تلك العناوين الشهيرة كـ"تربية سلامة موسى"... "تربية ألبرتو مانغويل". فعبر قراءة وإعادة قراءة كل تلك المدونة التي يسردها الكاتب الأرجنتيني تربى ذهنه المفكر صانع الأفكار المتخفية وراء السرد.
الأدب المخيف
يطرح ألبرتو مانغويل أسئلة حارقة في "ذاكرة القراءة" حول قيمة الأدب في واقعنا اليوم. هل يمكن للأدب أن يغير شيئًا. منطلقًا من مسلمة أن "الكلمات مخلوقات خطيرة من الأزل". "هل هناك للأدب دور في تنشئة المواطن؟ ينتهي به التفكير إلى أن "الأدب كله فعل مواطنة، لأنه ذاكرة"، وهو بذلك يسعى لحفظ أشياء ثمينة من النسيان الذي يؤدي إلى اندثارها. فالأدب يضطلع بدور الشاهد على العصر.
لأن مانغويل لا يتحدث عن الآخرين إلا ليقول فكرته، يمكن أن نقرأ أعماله بصفتها سير ذهنية
يحاول مانغويل أن يقتحم هذا الفخ الذي يوضع عادة للأدب وجدواه للتشكيك في قيمته فيقول: "بالطبع، قد لا يقوى الأدب على إنقاذ أحد من الظلم أو من مغريات الطمع أو مصائب السلطة. ولكنه ناجع ومخيف ما دام كل دكتاتور، وكل نظام شمولي، وكل ضابط مهدد، يحاولون التخلص من الأدب بإحراق الكتب، بمنع الكتب، بالرقابة على الكتب، بفرض ضرائب على الكتب، بقلة إيلاء قضية محو الأمية أي اهتمام يذكر إلا رفعًا لعتب، بالتلميح إلى أن المطالعة نشاط نخبوي".
اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل: جزيرة العقاب
هكذا يحسم صاحب كتاب "وحوش خرافيون" المعركة لصالحه عندما يضع القضاة الذين أصدروا أحكامهم على إدانة الأدب ولا جدواه في القفص. فإذا كان لا قيمة للأدب فلماذا كل هذا الرعب منه؟
ويستشهد مانغويل كما العادة بعبارة من كتابه الأثير دون كيشوت "يقول الدوق بصفته حاكمًا لجزيرة بارتيا، إن عليه ارتداء لباس. نصفه كأديب والنصف الآخر كقائد عسكري، لأن الأسلحة بأهمية الآداب، والآداب بأهمية الأسلحة، في هذه الجزيرة التي أمنحك إياها". هذه الجزيرة التي تبدو للوهلة الأولى اليوتوبيا ليست كذلك بل هي كل مدينة وكل مكان محكوم بالأرض فيه ساسة وكتاب.
مانغويل وفيسبوك ووسائل الاتصال
اعترف مانغويل بأنه لا يملك هاتفًا جوالًا. فقط يتواصل عبر الإيميل. وعند زيارته تونس تأكدنا من ذلك. لم يملك مانغويل هاتفًا حتى أثناء أحداث أيلول/سبتمبر عندما كانت ابنته تتصل به من أوتاوا باكية تحدثه عن فظاعة العمل الإرهابي. لم يفكر يومها في اقتناء هاتف ليطمئن عليها. من خلال تلك اليومية يمكننا أن نكتشف معاداة مانغويل لوسائل التواصل بشكل عام، ويمكننا أن نتوقع موقفه من وسائل التواصل الاجتماعي.
في كتابه "ذاكرة القراءة "، يكتب ألبرتو مانغويل رأيه. لم يكن رأيه فظًا كما كتب أمبرتو إيكو، ولا كان قاطعًا كما رأي الأمريكي جوناثان فرانزن، بل كان لطيفًا عميقًا معدلًا عقليًا. يقول: "وحدهم المعارف القدامى الذين يطالعوننا على فيسبوك يعيدوننا إلى ذكريات الماضي. ما عاد بوسع العشاق أن يتغيبوا، ولا عاد بوسع معارفنا أن يختفوا وقتًا طويلًا، فبنقرة إصبع واحدة نستطيع الوصول إليهم ويستطيعون الوصول إلينا. إننا نعاني من مقلوب رهاب الخلاء: نحن مسكونون بهاجس حضور لا ينقطع. الجميع موجودون هنا دائمًا".
مانغويل: "نحن مسكونون بهاجس حضور لا ينقطع. الجميع موجودون هنا دائمًا"
إن هذه الفكرة التي يجر بها مانغويل موضوع وسائل التواصل الاجتماعي تبدو فلسفية، فهذه الوسائل تجعلنا محاصرين وتحت الرقابة، وتدخلنا كلنا وبلا استثناء عالم رواية 1984 لجورج أورويل. الكل يتابعنا والعيون فوق رؤوسنا من كل مكان. وهنا تكمن خطورته؛ كيف يمكن أن نحقق حقنا في العزلة ونحن تحت الرقابة طوال الوقت من الجميع؟ وكيف يمكن أن ننحت حيواتنا بحرية ونحن محاصرون بأناس حميميون وغرباء؟ فهذا "القلق من محاصرتنا بكلمات الآخرين ووجوههم يتخلل تواريخنا كلّها".
اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل في عالم مسحور
يربط مانغويل هذا الحضور الكثيف للآخر، والذي من شأنه أن يشعرنا بأننا في الوجود ضمن كوجيطو اعترافي هيغلي "نحن موجودون، أو نصبح موجودين، لأن هناك من يعترف بحضورنا"، وبين الشعور بالخيبة فكل هؤلاء "عاجزون عن مداواة الكآبة الجوهرية" التي نعيشها وندركها وهي شعورنا بالوحدة. "كل وصال مع الصور، ومع الكتب، مع الناس، مع السكان الافتراضيين للعالم الافتراضي، يورث الحزن لأنه يذكرنا بأننا، في النهاية، وحيدون".
مانغويل الروائي التراجيدي الباحث عن العدالة
كما الممثل السينمائي الذي ينجح في دور يظل الناس يذكرونه بذلك الدور وحده، ويحاول المخرجون استعادته ولا يهتمون بأدوار أخرى كان تقمصها وكان لها خصوصية ولا بقدراته الخلاقة على اجترح شخصيات وأدوار أخرى، كذلك الكتّاب عندما تجني عليه صورة أو كتاب ناجح، ولعل الكاتب المغربي محمد شكري واحد من هؤلاء الكتاب فقد اختزل في كتابه "الخبز الحافي" حتى كرهه في آخر عمره بسبب حجبه لبقية انتاجه القصصي والسيري والروائي. كذلك اختزل ألبرتو مانغويل في وجهه "المكتبة" ذلك الوجه الذي جعل منه نجمًا يُدعى من كل أصقاع العالم ليحاضر عن قيمة القراءة، ولكن لا أحد يدعوه لكي يتحدث عن تجربته الإبداعية؛ كتابة الروايات.
كما تراجيديا جيمس دين وسيم الشاشة الذي عاش حزنًا دفينًا لا يراه أحد فقط يظهر في انفعالات أدواره أحيانًا قبل أن يظهر في توغله نحو الموت بسيارته، كما تراجيديا مارلين مونرو المحاصرة بجمالها والتي لبست الخيش لتعلن أنها التي تعطي للأشياء معنى وليس العكس، لكن ظلت في أعين الناس تلك الشقراء المزيفة الحمقاء التي تفتح فمها ضاحكة للعالم أو ترفع الريح تنورتها البيضاء. ظل ألبرتو مانغويل بابا نويل الكتب، يروي لنا قصص وظلت قصصه في الرف تدور مثل خذروف سارتر تبحث عن قراء يقرؤونه بعيدًا عن المكتبي وعاشق القراءة.
لم يكن حزينًا من هذا الأمر مانغويل كما توقعت، يقول إن له أربع أو خمس روايات، ولكنه يحب الكتب وحتى أغلب عوالم تلك الروايات استلهمها من الكتب كـ"ستيفنسن تحت أشجار النخيل".
يؤمن مانغويل بأننا "حيوانات قارئة، وفن القراءة، في أوسع معانيه، يميز نوعنا الإنساني"
في "يوميات القراءة" يعود إلى مانغويل الطفل ليحدثنا كيف كان يأخذ رواية دون كيشوت ويقرأها بعد انتهاء الصف تحت الأشجار. كل خوف مانغويل أن يفقد كتبه. سألته مرة "تقول في كتابك مع بورخيس بأن بورخيس كانت مكتبته الشخصية صغيرة جدًا، ولا يحتفظ بالكتب التي يقرأها وله عدد قليل من الصناديق يضع فيها الكتب التي يريد الاحتفاظ بها، وأنت تزرع المكتبات بآلاف الكتب في العالم؟" فأجاب ضاحكا: أنا فيتيشي.
اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل.. في مكتبة بإيقاعات مجنونة
نسي أن يقول إنه فيتيشي مثل دون كيشوت نفسه العاشق للكتب.
يقول في "يوميات القراءة": "أتذكر تعليق ليرنز الحذر حول مكتبة دون كيخوته التي قرر كل من الكاهن والحلاق سد بابها بهدف حماية صاحبها من مزيد الجنون. أما وحدي فغالبًا ما كنت أبكي عندما أقرأ وصف الفارس العجوز وهو ينهض من سريره ويذهب للبحث عن كتبه، فلا يستطيع أن يجد الغرفة التي احتفظ بها فيها. كان هذا بالنسبة لي الكابوس الكامل: أن أستيقظ لأكتشف أن المكان الذي أحتفظ فيه بكتبي قد تلاشى، جاعلًا إياي أشعر أنني لم أعد بعد من كنت أحسب نفسي". ويقرن مانغويل ذلك بزيارته لبيونس آيرس سنة 1973 عندما لم يجد كتبه التي تركها بالبيت قبل رحيله.
الكتابة مغامرة فردية في المجهول
يؤمن مانغويل بأننا "حيوانات قارئة، وفن القراءة، في أوسع معانيه، يميز نوعنا الإنساني". يبدو أن هذا التعريف الجديد للإنسان بعد "الحيوان السياسي" و"الحيوان الضاحك" و"الحيوان المفكر" و"الحيوان الناطق" هو مشروع مانغويل الوجودي كاملًا؛ كيف يقنع الإنسان وفي أي مكان من العالم بأن هويته كإنسان لن تتشكل إلا بالقراءة والقراءة المستمرة. لذلك انشغل مانغويل منذ طفولته بالقراءة وكان يتهيب الكتابة بسبب نظرته القدسية للقراءة.
يقول في كتابه "فن القراءة": لم يخطر لي أبدًا أنني قد أضيف شيئًا مني إلى الكتب الموجودة على رفي.. كنت أعرف أنني إذا ما تمنيت قصة جديدة فلدي المكتبة، البعيدة عن المنزل مسافة قصيرة مشيًا؛ قصص لا تحصى أضيفها إلى ذخيرتي. آنذاك بدا لي اختراع قصة مهمة مستحيلة، أحسست بها كمحاولة أن تخلق نخلة أخرى في الحديقة، أو تكوين سلحفاة تغالب الرمال. فأي رجاء بالنجاح؟". كان ذلك قبل أن يبدأ مغامرة الكتابة وهو في المدرسة عبر تحريف مواضيع الإنشاء أو كتابة مسرحيات مدرسية.
وضعته صدفة العمل في مراهقته أمام كبار الكتاب من خورخي لويس بورخيس وأدولفو بيوي كاساريس وخوسيه بيانكو، وكلما سئل هل تكتب؟ يجيب بكلا. يقول صاحب "ستيفنسن تحت أشجار النخيل": "تعذر عليّ أن أتخيل كتابًا قد أكتبه أنا يلاصق بغلافه غلاف رواية جوزف كونراد او فرانز كافكا، لا بل حسبت ذلك عدم لياقة".
مانغويل: "كنت أعلم دائمًا أنني كنت قارئًا وأشعر أن كتبي امتدادات لقراءتي"
هذا التهيب من التأليف الإبداعي هو الذي آخر مغامرة الكتابة. رغم أن الأعمال القليلة التي ألفها مانغويل تبدو على درجة كبيرة من الفنية العالية وفاز بعضها بجوائز أدبية مرموقة. لأن الكتابة بالنسبة لألبرتو مانغويل كما القراءة مغامرة في المجهول وعندما سأله أحد الصحفيين عن النصيحة التي يمكن أن يقدمها للكتاب الشبان أجاب بشكل قاطع وساخر: "أريد أن أنصحهم بهذا: لا تأخذوا أبدًا نصيحة كاتب آخر".
اقرأ/ي أيضًا: لعنة كاساندرا.. طرق جانبية للحياة
وكثيرًا ما يعود مانغويل ليؤكد على هوية "قارئ" التي لا يرى أنها تحتاج لتأكيد بخوض الكتابة فيقول في حوار معه: "لم أرغب أبدًا في أن أصبح كاتبًا، ربما ليس بعد. كنت أعلم دائمًا أنني كنت قارئًا وأشعر أن كتبي (معظمها) امتدادات لقراءتي".
كتابة كابوس الدكتاتورية
يؤمن مانغويل على نحو ما بما قاله ليونيل تريلينغ: "كل أدب قصصي نثري هو تنويع على موضوع دون كيخوته"، لذلك جاءت رواياته مقاومة للمتبذل ولإقامة العدالة في الكون إن كان ذلك في روايته "عودة" أو "ستيفنسن تحت أشجار النخيل".
يكتب في "يوميات القراءة": "أتذكر صديقًا في بيونس آيرس أخبرني عن امرأة وجدت نفسها مضطرة ذات يوم للجلوس في مقهى إلى جانب الشخص الذي قام بتعذيب ابنها. تلك هي النتيجة لرفض الأرجنتين التصرف بعدالة. هل سيتغير هذا ذات يوم؟ لا، إلى أن يلغى الإفلات من العقاب المضمون للقتلة والعسكريين".
ويبدو أن هذه الحادثة هي التي ألهمت مانغويل روايته "عودة" التي يتناول فيها موضوع الدكتاتورية والتعذيب السياسي في الأرجنتين، عبر عودة نيستور إستيبان صامويل فابريس من المنفي في روما إلى بيونس آيرس، التي تركها منذ ثلاثين عامًا بدافع عاطفي؛ حضور زفاف ابنه الوحيد الذي لم يره قط.
لم يكن فابريس من أولئك المنفيين الذين يحنون إلى مدنهم الأولى التي شهدت طفولتهم، بل كان لا يشعر بأي نوستالجيا نحو بيونس آيرس، لكنه ضعف أمام شيء غامض جعله يتورط ويقطع تذكرة ويركب الطائرة نحوه. ومنذ صعوده إلى الطائرة شعر بتلك الحماقة التي يرتكبها وهو يتجه نحو تلك المدينة التي طالما كانت في ذاكرته مدينة العقاب.
وفعلا وجد فابريس نفسه في قلب الكابوس الأرجنتيني في سنواته المظلمة من خلال أصدقائه وأقربائه وأساتذته الذين نكل بها النظام الشمولي عبر أشكال وأنواع التعذيب السياسي.
تأتي تصريحات مانغويل حول الفلسطينيين ضمن إطار من التحرر والنضج لكاتب سبعيني
مقاربة فنية أدبية لواقع الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية ترفع من مانغويل عراب القراءة إلى الكاتب الملتزم والمناضل، إذا ما علمنا أن الوضع في أمريكا اللاتينية لم يتغير كثيرًا، وما يزال العسكر والمافيا يحكمان الشعوب هناك بالسجون والرصاص.
اقرأ/ي أيضًا: في مكتبة بورخيس
"لا شيء يمكن أن يبرّر التخلّي الفكري". يكتب مانغويل في مقاله الشهير "أين المثقفون؟"، وانطلاقًا من ذلك المقال يمكننا أن نتعرف على مانغويل آخر ليس الذي قد توهم به كتبه عن القراءة وفيتيش المكتبات، ذلك الكائن المترف ليظهر لنا الكاتب الملتزم بقضايا الإنسان في كل مكان من بورتوريكو إلى الأرجنتين، تأتي تصريحاته الأخيرة حول الفلسطينيين وشقائهم من سلطة الاحتلال عبر التهجير والنفي وعمليات الاستيطان التي تستهدف وجودهم على أرضهم ضمن هذه الصورة الغائبة في ذهنية القارئ العربي إلى وقت قريب، بل إن عدم اكتراثه الكبير بهويته اليهودية وانخراطه في حركة الفكر الإنساني، ضمن هذا الإطار من التحرر والنضج، لكاتب سبعيني قضى حياته يقرأ الكتب بأكثر من لغة ويتعرف على هذا الإنسان المتعدد.
اقرأ/ي أيضًا: