لشدَّ ما تثير علاقة المترجمين مع اللّغة الإعجاب! ولشدَّ ما يبدو كلُّ ما قيل من قبل عن علاقة الشّعراء معها، من حيث توليدهم الكلمات الجديدة واشتقاقهم التعبيرات العصرية، ضربًا من ذكريات زمنٍ مضى!
يقترح المترجم أمارجي أسماء مدهشة لأجزاء الآلات التي تحتفل بها رواية "زهرة القيامة"
لعلّ انشغال الكُتّاب بما يسمونه لغةَ الحياة عطّلَ فيهم نزعة النبش في المفردات واحتمالات الجمل الجمالية، ذلك أنّ هذه النزعة تجعلهم يركنون إلى الجاهز الذي بات سائدًا، الأمر الذي قلّل المساحات القابلة للاستثمار في اللغة، وهكذا بات المترجمون حملةَ مسؤولية ثقافية تخلّى عنها الشعراء.
اقرأ/ي أيضًا: إميليو سالغاري.. غريبان من القرن العشرين يتجولان في الألفية الثالثة
أقول هذا بعدما انتهيت للتو من قراءة رواية الإيطالي إميليو سالغاري "زهرة القيامة... عجائب الألفية الثالثة" (منشورات المتوسط، 2018) بتوقيع المترجم أمارجي، رامي يونس.
تحاول الرواية رسم صورة لحاضرنا الذي كان مستقبلًا بالنسبة إلى كاتبها، من خلال قصّة تُذكّر بأهل الكهف، إذ نجد انفسنا أمام عالِم ومغامر من بدايات القرن العشرين يأخذان جرعة من عقار يُنيمهما مائة سنة، ثم يصحوان في زمننا، بداية الألفية الثالثة، لنرى من خلالهما تصوّرات الماضي عنا وعن المصير الذي انتهينا إليه، والعجيب أنّ ذلك الخيال يصل إلى درجة التطابق مع بعض ما نعيشه، إلى جوار أشياء أخرى بعيدة عنّا وعن زمننا، لكنّ تناولها يتطابق مع خيالنا الحالي عن الأزمنة القادمة، الذي لا تزال تقدّمه روايات وأفلام لا تتوقّف عن محاولة رسم صور لمآلات المصير البشري.
بمزيج من أدب المغامرة والخيال العلمي، نسمع عن تفكّك بريطانيا العظمى وتحولها إلى دولة صغيرة، واستقلال المستعمرات عنها، ونشوء دولة اسمها بولندا، وبدء الاتصالات بين البشر وسكّان المريخ، إلى جوار تطوّر تقني ألغى المطابخ من البيوت، وقلّص المسافات بين أرجاء العالم.. والكثير من العجائب غيرها.
يأتي ذلك كلّه في ضمن بناء لغوي يستحق الاحتفاء لما فيه من جهد يذكّر بجهود لغويين ونحاةٍ لطالما قرأنا عنه في كتب التراث، ولم يعد هذا العصر يجود بمن يتمم تلك الجهود إلا لمامًا.
يقترح أمارجي أسماء مدهشة لأجزاء الآلات التي تحتفل بها الرواية، فحيث نتعرّف مثلًّا على طائرة اسمها الكوندور، وأخرى قادرة على التحول إلى سفينة أيضًا اسمها القنطور، سوف يختار لوصف أجزائها كلمات تبدو غريبة في بادئ الأمر: الجؤجؤ، الكوثل... وبذلك يرغم القارئ على زيارة المعجم، لكنه بعد التعرّف إلى معانيها سينسى أنّها كلمات قاموسية كليًّا، وسيتعامل معها بعد انكشاف المعنى بألفة لا متناهية. ولأنّ الكلمات المشابهة كثيرة ستغدو رفقة المعجم (ورقيًّا كان أم إلكترونيًّا) ضرورة أثناء قراءة هذه الرواية، ما يجعل قراءة القصة الرئيسية تتفرّع إلى رحلة لغوية، لا تقلّ تشويقًا، في موازاتها.
إلى جانب هذا الخيار على صعيد المفردات، يذهب أمارجي إلى خيارات بلاغية قلّ استعمالها، في محاولة منه لإحياء تلك الأساليب البديعة في القول والتعبير، ولإخراجها من الإهمال الذي فُرض عليها، بسبب الكسل المرضيّ الذي حلّ على صنّاع الكتب، والذي كثيرًا ما يعلّلونه بأنّهم بالحرص على تقديم الأساليب المعاصرة السهلة والقريبة، دون مبالاة بقابلية القارئ للانفتاح على مثل هذه الخيارات، ودون مبالاة أيضًا بأنّ العمل المنهجيّ على مثل هذه الخيارات البلاغية يجعل من هذه الأساليب قيد التداول، وفي قلب المُعَاصَرة.
الذهاب الكثيف لدى أمارجي إلى أسلوب الإنشاء يمنحنا دروسًا تطبيقية في فنون بلاغية جرى إهمالها
الذهاب الكثيف لدى أمارجي إلى أسلوب الإنشاء بمختلف ألوانه من التعجب والنداء والتمني والمدح... يمنحنا دروسًا تطبيقية في فنون بلاغية جرى إهمالها، في وقت تنحو فيه الكتابات الأدبية للاعتماد على جملة خبرية تزداد فقرًا وشحوبًا. من هذا كلّه، أُجْمِل هنا بعض الأمثلة الإنشائية: و"لَكَم هي عمليةٌ ومريحة فوق كلّ شيء!" (ص 128)، "أيُّ سوء حظّ هذا ألّا يكون لدينا مقلاةٌ وقارورةٌ من الزيت!" (ص 207)، "هاكم الخلاص الذي يدرك الإنسان في الوقت المناسب!" (ص 321).
اقرأ/ي أيضًا: سالغاري والقرصان الأسود
خلقت الترجمات الحرفية الرخيصة التي يذهب إليها الناشرون توفيرًا للمال، والتي لا تبالي بأية احتياجات ثقافية حتى على صعيد الشكل، حاجزًا نفسيًّا مع الروايات المترجمة لدى كثيرين، وخلقت في الوقت نفسه جمهورًا مستكينًا يقبل بها دون تطلّب جمالي، لكنّ الوقوع على هذا الكتاب، فوق ما يقدّمه من نصّ مدهش وصلابة لغوية في ترجمته، يعيد بعض الاعتبار إلى الأسلوب الذي يضيء المعنى، ما يجعل الترجمة تكتسب، إلى جوار كونها فعلًا ثقافيًّا ينقل إبداعات الأمم الأخرى، ميزات تجعلها في صميم الكتابة نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: