في عام 2001 وبعد سقوط برجي نيويورك، كتبت أوريانا فالاتشي، الصحفية والمحاورة الإيطالية المشهورة، مقالها "الغضب والكبرياء" والذي عبرت فيه بكل العبارات الممكنة عن رفضها للمهاجرين وكانت عباراتها مسيئة ومقالها صادمًا، فقام العديد من المفكرين الإيطاليين بالرد عليها، وكان أمبرتو إيكو أحد هؤلاء المفكرين، وقد نُشر المقال في جريدة لاريبوبليكا.
يجب أن نتذكر أن هتلر- الذي كان يحرق الكتب ويدين الفن المنحل – جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية.
إذا كان البعض قد قام في الأيام السابقة بإطلاق عبارات غير مناسبة حول تفوق الثقافة الغربية، فاعتقادي أن ذلك أمر ثانوي. وأمر ثانوي أن يقول شخص ما شيء يعتقد أنه صحيح ولكن في اللحظة الخاطئة، وأمر ثانوي أيضًا أن يصدق شخص شيئًا غير عادل أو خاطئ، لأن العالم مليء بأشخاص يؤمنون بأشياء غير عادلة وخاطئة، بما فيهم شخص يُدعى بن لادن، الذي ربما يكون أكثر ثراء من رئيس وزرائنا، بل ودرس في أفضل الجامعات.
إن كل الحروب الدينية التي أدمت العالم لقرون طويلة أشعلتها مبالغات انفعالية تجاه خلافات بسيطة، مثل تلك الخاصة بنحن والآخرين
ولكن الشيء الثانوي الذي يجب أن يثير قلق الكثيرين من الساسة، والزعماء الدينيين، والمعلمين، أن هناك بعض العبارات، أو ربما مقالات كاملة، لافتة اكتسبت بطريقة أو بأخرى شرعية معينة، وأصبحت موضوع نقاش عام، كما أصبحت تشغل ذهن الشباب، وربما تقودهم إلى استنتاجات انفعالية تمليها عليهم المشاعر اللحظية.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. عن الكتب التي لا نقرؤها
وأنا أقلق بصفة خاصة على الشباب إذ إنه يصعب تغيير طريقة تغيير الكبار في كل الأحوال.
إن كل الحروب الدينية التي أدمت العالم لقرون طويلة أشعلتها مبالغات انفعالية تجاه خلافات بسيطة، مثل تلك الخاصة بنحن والآخرين، أو الأخيار والأشرار، السود والبيض. وإذا كانت الثقافة الغربية أظهرت ثمارها (ليس فقط بدءًا من عصر التنوير حتى يومنا هذا، ولكن أيضًا قبل ذلك عندما دعا الراهب الفرنسيسكانى روجيرو باكوني إلى تعلم اللغات لأنه يقينًا يوجد ما يمكن تعلمه من "غير المؤمنين") فإن هذا حدث لأنها قد اجتهدت في أن "تفكك" التبسيطات المخلة، في ضوء الفحص والنقد. وبطبيعة الحال لم تداوم على ممارسة ذلك طوال الوقت، لأن جزءًا من تاريخ الحضارة الغربية أيضًا وجود هتلر الذي كان يحرق الكتب، يدين الفن "المنحل"، ويقتل من ينتمون إلى جنسيات "أقل رتبة" أو "أهمية"، ووجود النزعة الفاشية التي كانت تعلمني عندما كنت تلميذًا في المدرسة أن أصلي قائلًا: "يا إلهي لتأت بلعناتك على الإنجليز" لأنهم كانوا "الشعب الذي يأكل خمس وجبات"، ولذلك فقد كانوا شرهين وأقل رقيًا من المواطن الإيطالي الزاهد والصارم.
علينا إذًا أن نناقش الجوانب الأفضل من ثقافتنا مع الشباب، من كافة التوجهات والخلفيات، إذا أردنا ألا تسقط أبراجًا جديدة في الأيام التي سيعيشونها بعدنا. ولكن هناك عنصر يسبب الارتباك وهو أنه غالبًا لا ينجح المرء في تمييز الاختلاف بين التماهي مع جذوره وإمكانية اختيار جذور أخرى والحكم على ما هو جيد وما هو سيئ.
بالنسبة لما يتعلق بالجذور، إذا سألني أحدهم إذا كنت أفضل أن أقضي سنوات المعاش في قرية صغيرة في مونفيراتو، على الشواطئ الجميلة للمنتزه القومى لابروتزو، أو بين التلال الرائعة لسيينا، سأختار مونفيراتو. ولكن هذا لا يعني أنني أحكم على المقاطعات الإيطالية الأخرى بأنها أقل شأنًا من مقاطعة بيمونتي.
إذًا، إذا قام رئيس الوزراء بكلماته (التي أعلنها للعالم الغربي ولكنه أنكرها أمام العالم العربي) بإعلانه أنه يفضل أن يعيش في اركوري وليس في كابول، وأن يُعالج في مستشفى من مستشفيات ميلانو، وليس في إحدى مستشفيات بغداد، سأكون مستعدًا لأن أؤيد رأيه (بغض النظر عن ذكر اركوري). وذلك حتى إن أكدوا لى أنه في بغداد قد تم إعداد أفضل وأحدث مستشفى في العالم؛ لأنني سأجد نفسي في ميلانو وكأنني في منزلي، وسيؤثر ذلك بالطبع على قدرتي على التعافي. والجذور يمكن أن تمتد لتشمل أشياء أبعد من تلك القومية أو الإقليمية. فأنا أفضل مثلًا أن أعيش في ليموجين أكثر من موسكو. ولكن كيف، أليست موسكو مدينة جميلة؟ بالتأكيد ولكنني في ليموجين سأفهم اللغة. والخلاصة أن كل شخص يجد نفسه ويعرفها مع الثقافة التي تربى ونشأ فيها، وأما حالات النقل الجذري للأصول، إن كانت موجودة، حالات قليلة جدًا، فعلى الرغم من أن لورنس العرب كان يرتدى ملابس مثل العرب، إلا أنه في النهاية عاد إلى منزله.
*
ولننتقل الآن للمقارنة بين الحضارات، لأن هذه هي النقطة الأهم. كان الغرب يشعر دائمًا بالفضول تجاه الحضارات الأخرى، وكان هذا غالبًا ما يحدث لأسباب التوسعات الاقتصادية. وأحيانًا كثيرة كان يتعامل معهم باحتقار؛ فكان اليونانيون يطلقون لقب أجنبي (بربري)، أي "من يتلعثم" على أولئك الذين لا يتحدثون بلغتهم، لأنهم، بالنسبة إليهم، كانوا كمن لا يتحدثون على الإطلاق. ولكن بالنسبة لليونانيين الأكثر نضجًا مثل الرواقيين (ربما لأن بعضهم من أصل فينيقي) استطاعوا أن يُدركوا أن هؤلاء البربريين يستخدمون كلمات مختلفة عن تلك اليونانية، ولكنهم يعبرون عن الأفكار نفسها.
كان الغرب يشعر دائمًا بالفضول تجاه الحضارات الأخرى، وكان هذا غالبًا ما يحدث لأسباب التوسعات الاقتصادية
فقد حاول ماركو بولو أن يصف باحترام شديد العادات والتقاليد الصينية. وحاول المعلمون المسيحيون العظماء للاهوت في القرون الوسطى ترجمة النصوص الفلسفية والطبية ودراسات علوم الفلك العربية، بل وبالغ رجال عصر النهضة في محاولاتهم لاستعادة الحكمة الشرقية المفقودة، من الكلدانيين حتى الفراعنة. وحاول مونتسكيو أن يفهم كيف يرى شخص فارسي الفرنسيين، وقام دارسو الأنثروبولوجيا بالاستعانة في دراساتهم الأولى بتقارير للآباء الساليزيان والذين كانوا يذهبون إلى شعوب البورورو ليهدوهم إلى المسيحية، إذا استطاعوا، ولكن أيضًا ليفهموا طريقة تفكيرهم وحياتهم، مدركين حقيقة أن الإرساليات ومرسليها في القرون البعيدة لم تنجح في فهم حضارات هنود أمريكا بل وشجعت على إبادتها.
اقرأ/ي أيضًا: في الذكرى الرابعة لرحيله.. وصية أمبرتو إيكو الأخيرة
لقد تحدثت بالفعل عن علماء الأأنثروبولوجيا، ولن أقول شيئًا جديدًا إذا ذكرت أنه من بداية منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا تطورت الأنثروبولوجيا الثقافية كمحاولة لعلاج ندم الغرب لما فعله مع الآخرين، خاصة من كان يعرّفونهم بالهمجيين، وبأنهم مجتمعات بلا تاريخ، وبأنهم شعوب بدائية.
فلم يكن الغرب رحيمًا مع الهمجيين: لقد "اكتشفهم"، وحاول تبشيرهم، واستغلهم، وحول الكثيرين منهم إلى عبيد، وربما يجدر أن نذكر أن ذلك تم بمساعدة العرب، حيث كانت سفن العبيد يتم تفريغها في نيو أورلينيز بواسطة مجموعة من السادة ذوي الأصول الفرنسية، ولكن يتم تحميلها على السواحل الأفريقية بواسطة تجار عبيد مسلمين. وكانت الأنثروبولوجيا الثقافية (والتي استطاعت أن تزدهر بفضل التوسع في المستعمرات) تحاول أن تصلح أخطاء الاستعمار لتثبت أن تلك الثقافات "الأخرى" كانت بالفعل ثقافات لها عقائدها، وشعائرها، وعاداتها، المناسبة جدًا للإطار الذي تطورت فيه، ومتجانسة معه، والجدير بالقول إنها كانت ثقافات قائمة على منطق داخلى خاص بها. وكان دور المتخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية إثبات أنه كانت توجد وجهات نظر ومنطق مختلفين تمامًا عن المنطق الغربي، والتي لا بد من التعامل معها بجدية، وليس احتقارها وقمعها.
ولكن لم يكن هذا يعنى أن علماء الانثروبولوجيا، بمجرد أن يشرحوا منطق الآخرين، سيقررون أن يعيشوا مثلهم؛ بل بالعكس، فباستثناء حالات قليلة، بمجرد أن انتهوا من عملهم متعدد الجوانب هذا فيما وراء البحار، عادوا إلى قضاء شيخوخة هادئة في ديفنونشاير أو باكارديا.
ولكن بقراءة كتاباتهم يمكن للمرء أن يعتقد أن الأنثروبولوجيا الثقافية تتخذ موقفًا نسبيًا إلى حد ما، وتؤكد أن هناك ثقافة أهم من أخرى. ولكنني لا أعتقد هذا، فأقصى ما يريد أن يقوله لنا عالم الأنثروبولوجيا إنه طالما مكث الآخرون في بلادهم وجب علينا احترام طريقة حياتهم.
*
والدرس الحقيقي الذي ينبغي استخلاصه من علم الأنثروبولوجيا الثقافية هو أنه لكي نطلق الحكم بأفضلية ثقافة عن أخرى علينا أن نحدد معايير لذلك. فهناك فارق شاسع بين أن نقوم بتعريف ثقافة ما وبين أن نحدّد الأسس والمعايير التي من خلالها يمكننا الحكم على تلك الثقافة.
هناك فارق شاسع بين أن نقوم بتعريف ثقافة ما وبين أن نحدّد الأسس والمعايير التي من خلالها يمكننا الحكم على تلك الثقافة
فيمكننا وصف ثقافة ما بطريقة شبه موضوعية: هؤلاء الأشخاص يتصرفون هكذا، يؤمنون بالأرواح، أو بقوة إلهية تحتوي في ذاتها على كل عناصر الطبيعة، يتجمعون في عشائر على أساس قواعد معينة، ويرون أن وضع حلقات في أنوفهم أمرًا جميلًا (يمكن أن ينطبق هذا الوصف على الثقافة الشبابية في الغرب)، ويرون أن لحم الخنزير نجس، ويختتنون، أو يربون الكلاب ليأكلونها في أيام الأعياد، أو كما يقول الأمريكيون عن الفرنسيين إنهم يأكلون الضفادع.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو وتجديد روح المثقف
وعالم الأنثروبولوجيا يعرف بوضوح أن الموضوعية تتعرض كثيرًا لأزمات نتيجة لعوامل متعددة. في العام الماضي زرت قبائل الدغون في أفريقيا وسألت صبيًا صغيرًا عن ديانته، أجابنى بالفرنسية أنا أرواحي "Animist" والآن صدقوني إذا قلت لكم إن هذا اللقب لا يُطلق على أحد إلا إذا كان قد حصل، على الأقل، على دبلوم من مدرسة الدراسات العليا في باريس، وبالتالي فهذا الطفل يتحدث عن ثقافته بالطريقة التي وصفها بها علماء الانثروبولوجيا.
وكان علماء الأنثروبولوجيا الأفارقة يقصون عليّ أنه عندما يصل عالم انثروبولوجيا أوروبي إلى الدوغون، كان السكان، الذين أصبحوا على دراية قوية بكل شيء، يقصون عليه ما سبق وكتبه عنهم منذ أعوام عديدة أحد علماء الانثروبولوجيا ويدعى جريول (والذي قص عليه السكان الأصليون أشياء كثيرة غير مرتبطة فيما بينها، واستطاع هو بعد ذلك جمعها في ترتيب ساحر، ولكن مشكوك في صحته)، أو على الأقل هكذا يؤكد الأصدقاء الأفارقة المثقفون.
على كل حال، إذا قمنا بإزالة كل المبالغات وسوء الفهم عن ثقافة "أخرى" يمكن أن يكون لدينا وصف أكثر "حيادية". أما معايير الحكم فهو موضوع مختلف تمامًا، فهي تعتمد على جذورنا وعلى ما نفعله، وعلى عاداتنا وانفعالاتنا، وعلى منظومة قيمنا.
فلنستشهد بمثال؛ فهل نعتبر ارتفاع متوسط حياة الفرد من أربعين إلى ثمانين عامًا قيمة؟ أنا شخصيًا أؤمن بهذا، ولكن يمكن أن يقول لي كثير من النُسّاك إن الفارق بين شخص شره يكمل أعوامه الثمانين وبين القديس لويجي جونزاجا الذي لم يعش سوى ثلاثة وعشرين عامًا، هو أن الأخير عاش حياة أكثر تحققًا. ولكن إذا اعترفنا أن الحصول على هذا المتوسط هو قيمة ما فيجدر أن نقول إن طب وعلم الغرب أفضل بالتأكيد من معارف وممارسات طبية أخرى.
*
هل نؤمن بأن التطور التكنولوجي، والتوسع في التجارة والسرعة في الانتقال أشياء ذات قيمة؟ الكثيرون يرون هذا، ولديهم الحق في أن يقولوا عن أن حضارتنا أفضل من الناحية التكنولوجية. ولكن في داخل هذا العالم الغربي يعيش أولئك الذين يعتقدون أن القيمة الأولى تكمن في حياة متناغمة، وبيئة غير ملوثة، ولذلك فهم على استعداد للاستغناء عن الطائرات والسيارات والثلاجات ليعيشوا في أكواخ، وليتحركوا سيرًا على الأقدام من قرية إلى أخرى حتى لا يتسببوا في ثقب لطبقة الأوزون. ومن هنا يتضح أنه لتعريف ثقافة أفضل من الأخرى لا يكفي أن نصفها (كما يفعل الانثروبولوجي) ولكن يلزم استدعاء منظومة من القيم التي نؤمن بها ولا نستطيع الاستغناء عنها. وعندئذ فقط يمكن أن نقول إن حضارتنا، بالنسبة إلينا، هي الأفضل.
أولئك الذين يعتقدون أن القيمة الأولى تكمن في حياة متناغمة، وبيئة غير ملوثة، هم على استعداد للاستغناء عن الطائرات والسيارات والثلاجات ليعيشوا في أكواخ
وقد شهدنا، في هذه الأيام، مدافعات مختلفة عن ثقافات مختلفة على أساس معايير يمكن مناقشتها. بالأمس قرأت خطابًا موجهًا إلى جريدة يومية كبيرة يتساءل مُرسله بسخرية كيف يفوز بجوائز نوبل الغربيون فقط وليس الشرقيون. وبخلاف واقع أن من كتب هذه الرسالة ليس سوى جاهل لا يعرف كم من جوائز نوبل للأدب نالها أشخاص سود أو من كبار الكتّاب المسلمين، وأن جائزة نوبل للفيزياء عام 1979 نالها الباكستاني عبدوس سلام، فإن تأكيد أن الاعتراف بالعلوم يحصل عليها بصورة طبيعية من يعمل في مجال العلوم الغربية كمن يكتشف الماء الساخن، لأن لا أحد يشك أبدًا في أن علوم وتكنولوجيا الغرب اليوم في الطليعة. ولكن طليعة ماذا؟ طليعة العلوم والتكنولوجيا. ولكن هل يمكن أن يكون معيار التطور التكنولوجي مطلق؟ فباكستان لديها قنبلة نووية وإيطاليا لا. هل نحن بذلك حضارة أقل؟ هل من الأفضل لذلك أن نعيش في إسلام أباد وليس في اركوري؟
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟
إن مساندي فكرة الحوار يدعوننا لاحترام العالم العربي ويذكرونا بأن هذا العالم منحنا رجال مثل ابن سينا (والذي ولد في بخاري، بالقرب من أفغانستان) وابن رشدـ ولكن من المؤسف أنهم يذكرون الاثنين فقط، وكأنه لا يوجد غيرهما، ولا أحد يتحدث مثلًا عن ابن الكندي، وأبو بكر بن باجه، وسليمان بن جبيرول، وابن طفيل. أو عن ذلك المؤرخ العظيم الذي عاش في القرن الرابع عشر: ابن خلدون، والذي يعده العالم الغربي أول من بدأ علم الاجتماع. يذكروننا أن العرب في إسبانيا كانوا يهتمون بالجغرافيا والفلك والحساب والطب، في الوقت الذي كان العالم الغربي فيه متأخرًا جدًا. وكلها أشياء حقيقية بالفعل، ولكنها ليست موضوع مناقشة، لأننا لو فكرنا بهذه الطريقة، يجب أن نقول إن فينشي، المقاطعة التوسكافية المعروفة، أفضل من نيويورك، لأن ليوناردو وُلد في فينشي بينما في منهاتن ظل أربعة هنود جالسين على الأرض لمدة تزيد عن مائة وخمسين عامًا حتى وصل إليهم الهولنديون واشتروا منهم شبه الجزيرة بأكملها بأربعة وعشرين دولار. ولكن الواقع، ودون إهانة لأحد، هو أن مركز العالم اليوم هو نيويورك وليس فينشي.
الأشياء تتغير، ولا يلزم أن نتذكر أن عرب إسبانيا كانوا متسامحين مع المسيحيين واليهود بينما كانوا يهاجمون الحارات اليهودية لدينا، أو أن صلاح الدين عندما استعاد القدس كان أكثر رحمة على المسيحيين من الغربيين على العرب عندما استولوا هم عليها. كلها أشياء صحيحة، ولكن في العالم الإسلامي اليوم توجد نظم متطرفة، ثيوقراطية لا تتسامح مع المسيحيين، وابن لادن لم يكن رحيمًا على نيويورك.
كانت منطقة باختر نقطة التقاء بين حضارات عظيمة، ولكن حاليًا يقوم أتباع طالبان بهدم تماثيل بوذا بطلقات المدافع. وعلى العكس، كان الفرنسيون هم الذين نفذوا مذبحة ليلة القديس بارتيلماوس، ولكن هذا لا يعطى الحق لأحد لأن يقول عن الفرنسيين اليوم أنهم همج.
لنترك التاريخ في سلام لأن التاريخ سلاح ذو حدين؛ كان الأتراك ينفذون الإعدام عن طريق الخوازيق (وهو شيء بشع) ولكن الأرثوذكس البيزنطيون كانوا يخزقون أعين أقارب من يعدونهم خطرين، وحرق الكاثوليك جوردانو برونو؛ كان القراصنة العرب يرتكبون الكثير من الفظائع، ولكن قراصنة صاحبة الجلالة البريطانية، وبسماح من السلطات، كانوا يحرقون المستعمرات الإسبانية في الكاريبي؛ وبن لادن وصدام حسين عدوان متوحشان للحضارة الغربية، ولكن بداخل تلك الحضارة الغربية كان لدينا هتلر وستالين (وكان ستالين شريرًا إلى حد أنهم عرفوه بالشرقي، حتى وإن كان قد درس في معهد لاهوت وقرأ ماركس).
ليست مشكلة المعايير أنه لا يتم وضعها على أسس تاريخية، بل على أسس معاصرة ولا شك. وحاليًا أحد الأشياء التي تُمدح في الثقافات الغربية (الحرة ومتعددة الثقافات، وهي القيم التي نتمسك بها ولا نتخلى عنها) هو أنها أدركت منذ وقت طويل أنه يمكن لنفس الشخص أن يناور بمعايير مختلفة ومتناقضة باستمرار حول مسائل مختلفة. على سبيل المثال، الجميع يعتقدون أن إطالة متوسط العمر شيء جيد بينما التلوث البيئي أمر سيئ، ولكننا نعرف جيدًا أنه لتكون لدينا معامل كبيرة والتي من خلالها تتم دراسة كيفية زيادة متوسط العمر يجب أن تكون لدينا وسائل اتصال والطاقة اللازمة لتنفيذ ذلك، والتي بدورها تنتج التلوث. فلقد استطاعت الثقافة الغربية أن تعمل على طرح تناقضاتها بحرية وشفافية. ربما لا تنجح في حل هذه التناقضات، ولكنها موجودة، وتصرّح بها. في نهاية الأمر فكل الجدل حول قبول أو رفض العولمة يكمن هنا، بغض النظر عن رأى رجال الدين في هذا الأمر.
لا يلزم أن نتذكر أن عرب إسبانيا كانوا متسامحين مع المسيحيين واليهود بينما كانوا يهاجمون الحارات اليهودية لدينا
كيف يمكن احتمال بعض من أبعاد العولمة في صورتها الإيجابية مع تجنب المخاطر والظلم الذي يمكن أن تسببه العولمة المضادة، كيف يمكن زيادة نسبة العمر أيضًا لملايين من الأفارقة الذين يموتون بسبب الإيدز (وفي الوقت نفسه إطالة النسبة الخاصة بنا نحن أيضًا) دون أن نقبل اقتصادًا عالميًا يُميت المرضى بالإيدز جوعًا ويدفعنا لأن نلتهم أطعمة ملوثة؟
اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال
إن نقد المعايير هذا هو بالتحديد ما يتبعه الغرب ويشجعه، وما يفسّر لنا كيف أن مسألة المعايير أمرٌ دقيقٌ. هل من العدل والتمدين حماية الأسرار المصرفية؟ الكثيرون يؤكدون ذلك. ولكن ماذا إن كانت هذه السرية تسمح للإرهابيين بالاحتفاظ بنقودهم في مدينة لندن؟ إذًا الدفاع عما نطلق عليه "الخصوصية ـــ" هل هي قيمة إيجابية أم لا – أمرٌ يمكن مساءلته؟ إننا نُخضع معاييرنا دائمًا للنقاش.
إن العالم الغربي يفعل ذلك إلى الحد الذي يسمح لمواطنيه بأن يرفضوا معيار التطور التكنولوجي كشيء إيجابي، وأن يتحولوا للمعتقدات البوذية أو أن يذهبوا ليعيشوا في المجتمعات التي لا تُستخدم فيها إطارات السيارات، ولا حتى للعربات التي تشدها الأحصنة. يجب أن تتولى المدرسة تعليم وتحليل ومناقشة المعايير التي تقوم عليها طروحاتنا الانفعالية.
*
المشكلة أن الانثروبولوجيا الثقافية لم تحل مشكلة ما يجب عمله عندما يأتى إلينا أحد المنتمين لثقافة ما (ربما نكون تعلمنا كيف نحترمها) ليعيش في بلدنا. في الواقع أن أغلبية ردود الفعل العنصرية في الغرب ليست نتاج أن "الأرواحيين" يعيشون في مالي (يقول حزب رابطة الشمال: يكفي أنهم مكثوا في بلادهم)، ولكن لأن هؤلاء الأرواحيين جاءوا ليعيشوا في بلادنا.
وما نقوله عن الأرواحيين نقوله عمن يرغبون الصلاة في اتجاه مكة. ماذا لو أرادوا أن يرتدوا الشادور، وأن يختنوا إناثهم أو (كما يحدث لبعض الجماعات الدينية الغربية) رفضوا نقل الدم لأبنائهم المرضى. ماذا أيضًا لو أراد آخر ممن يأكلوا لحوم البشر في غينيا الجديدة (بفرض أنهم مازالوا موجودين) أن يهاجر إلى بلادنا وأن يشوى شاباً ليأكله، على الأقل كل يوم أحد؟!
بالطبع جميعنا متفقون بشأن آكل لحوم البشر، فسوف نضعه في السجن (ولكن ذلك يرجع بالتأكيد لأنهم أقلية)، أما عن الفتيات اللاتي يذهبن إلى المدرسة بالشادور فأنا لا أعرف لماذا نصنع من هذا الأمر مأساة إذا كنّ هن معجبات بما يرتدينه، أما فيما يتعلق بالختان فما يزال الأمر موضوع نقاش (إلى حد أنه يوجد من كان غاية في التسامح واقترح أن تتم العملية في وحدات محلية للتأكد من سلامتها من الناحية الصحية). ولكن ماذا سنفعل على سبيل المثال بطلب أن تتمكن النساء المسلمات من وضع صورهن على جوازات السفر وهن بالنقاب؟! لدينا قوانيننا، وهي تنطبق على الجميع، وذلك لتحديد هوية المواطنين ولا أظن أننا يمكننا مخالفة ذلك.
لقد كرس الغرب أموالًا وطاقات لدراسة عادات وتقاليد الآخرين، ولكن لم يسمح أحد فعليًا للآخرين بأن يدرسوا عادات وتقاليد الغرب
عندما زرت أحد الجوامع خلعت حذائي، لأنني كنت أحترم قوانين وعادات البلد المضيف. كيف يمكن أن نضع صورة لامرأة وجهها مغطى على بطاقة هوية؟!
اقرأ/ي أيضًا: غير دانتي وأمبرتو إيكو.. 5 كتاب إيطاليين يجدر بك القراءة لهم
أعتقد أنه في هذه الحالة يمكن التفاوض، ففي نهاية الأمر لا تكون صور جوازات السفر أمينة بل وتستخدم في أشياء كثيرة، وحاليًا تتم دراسة استخدام الكروت الممغنطة والتي تعمل على أساس بصمات الأصبع، ومن يريد أن يحصل على تلك المعاملة المتميزة يجب عليه إذًا أن يدفع تكاليفها الباهظة.
وإذا التحقت السيدات بمدارسنا فيجب أيضًا أن يعرفن حقوقهن، الحقوق التي ربما لم يعرفنها كلها، هكذا كما ذهب الكثير من الغربيين إلى مدارس القرآن وقرروا بكامل حريتهم أن ينضموا للإسلام. إن التفكير في معاييرنا يعنى الإقرار بأننا على استعداد لأن نتسامح في كل شيء، إلا أن هناك بضعة أشياء لا يمكن التسامح فيها.
لقد كرس الغرب أموالًا وطاقات لدراسة عادات وتقاليد الآخرين، ولكن لم يسمح أحد فعليًا للآخرين بأن يدرسوا عادات وتقاليد الغرب إلا في بعض المدارس التي يديرها الجنس الأبيض فيما وراء البحار، أو من خلال السماح للآخرين الأكثر ثراء بالذهاب والدراسة في إكسفورد أو في باريس ـ ونحن نعلم ماذا يحدث ـ يدرسون في الغرب ثم يعودون إلى بلادهم لينظموا حركات متشددة لأنهم يشعرون بالتعاطف والتضامن مع أهل بلادهم الذين لم يتمكنوا من الدراسة مثلهم (وهذه قصة تاريخها قديم، فمن حاربوا لتنال الهند استقلالها هم المثقفون الذين درسوا مع الإنجليز).
وقد درس الرحالة العرب والصينيون القدماء أشياء عن بلاد الغرب، ولكننا لا نعرف عن هذا سوى أقل القليل. كم انثروبولوجي أفريقي أو صيني أتوا لدراسة الغرب وليحكوا ليس فقط إلى مواطنيهم بل ولنا أيضًا، وأقصد هنا أن يقصوا علينا كيف يروننا؟
منذ بضعة أعوام تأسست منظمة دولية تُدعى Transcultura، وهي منظمة تجاهد لتأسيس نوع من "الأنثروبولوجيا البديلة". وقد دعت المنظمة دارسين أفارقة لم يسبق لهم قط المجيء إلى الغرب ليصفوا المقاطعة الفرنسية والمجتمع في بولونيا. وأؤكد لكم أن ما قرأناه نحن الأوروبيين أصابنا بالدهشة بسبب اثنين من ملحوظاتهم: الأولى تتعلق بأن الأوروبيين يأخذون كلابهم في نزهة، والثانية بأنهم يجلسون عراة على شاطئ البحر. وأعتقد أنه بسبب هذه الدراسة بدأت النظرة المتبادلة فعاليتها بين الطرفين، ونتج عنها مناقشات غاية في الأهمية بيننا.
إن المعلم في أي مدينة إيطالية، يجب أن يُعلّم تلاميذه لماذا يصلى أطفال آخرين بطريقة مختلفة ولآلهة مختلفة
ومن المتوقع أن يكون هناك مؤتمر ختامي سيتم عقده في بروكسل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، ولهذا الغرض يقوم ثلاثة من الصين: فيلسوف، وأنثروبولوجي وفنان بإنهاء رحلتهم (ماركو بولو) العكسية، إلا أنهم بدلًا من أن يضيفوا للمكتبات المزيد من الكتب سيسجلون ويصورون أفلامًا.
اقرأ/ي أيضًا: "حوارات لقرن جديد".. الروايات وأسرارها
وفي النهاية لا أعرف ماذا ستفسر ملحوظاتهم تلك للصينيين، ولكن أعرف ما الذي يمكن أن يفسروه لنا. فلتتخيلوا أن تتم دعوة الأصوليين الإسلاميين لإجراء دراسات حول الأصوليين المسيحيين (وهذه المرة لا أتحدث عن الكاثوليك، ولكن عن بروتستانت أمريكا، وهم أكثر تعصبًا من أتباع آية الله، ويحاولون حتى إلغاء أي أثر لداروين في المدارس).
حسنًا، أنا أعتقد أن الدراسة الأنثروبولوجية لأصولية الآخرين يمكنها أن تساعدنا في تفهم طبيعتنا. ليأتوا ليدرسوا مفهومنا للحرب المقدسة (ويمكنني أن أقترح عليهم العديد من القراءات المهمة جدًا، والحديثة أيضًا) ربما هكذا يستطيعون رؤية الحرب المقدسة في منازلهم، بعين أكثر نقدًا.
إن أحد القيم التي تتحدث عنها الحضارة الغربية كثيرًا هو قبول الاختلافات نظريًا، نحن جميعًا متفقون على ذلك، أمام الجميع، وتطبيقًا لهذه السياسة نقول علانية عن شخص ما أنه مثلي، ونتظاهر بقبوله، ولكن في منازلنا نقول أشياء أخرى بطريقة ساخرة. كيف إذًا يمكننا أن نُعلم قبول الاختلافات؟
إن الأكاديمية الكونية للثقافات (L’Academie Universelles des Cultures) قدمت موقعًا فيه موضوعات مختلفة تصلح لمناقشة (الألوان، الأديان، العادات والتقاليد... وما إلى ذلك) لمعلمي كل الدول الذين يرغبون تعليم تلاميذهم كيف يمكنهم قبول من هم مختلفين عنهم. في البداية قررت الأكاديمية أنه لا يجب أن نكذب على الأطفال ونقول لهم إننا جميعًا متشابهون. فالأطفال يدركون جيدًا أن بعض جيرانهم أو زملائهم في الدراسة ليسوا شبههم، بل جلدهم لونه مختلف، وأعينهم تشبه اللوزة، وشعورهم إما أكثر نعومة إما أكثر خشونة، ويأكلون أشياء غريبة ولا يتقدمون للمناولة في الكنيسة.
ولا يكفي أن نقول لهم إننا كلنا مخلوقات الله، لأن الحيوانات أيضًا مخلوقات الله، ولكن لا توجد معزة تدخل الكنيسة وتعلمهم الكتابة. إذًا يجب أن نقول للأطفال منذ البداية أن الناس مختلفون ومتباينون فيما بينهم، ونشرح لهم باستفاضة في أي شيء تكمن تلك الاختلافات لنعرفهم بعد ذلك أن تلك الاختلافات يمكن بدورها أن تكون مصدرًا للثراء.
يُفتتح مانيفستو عام 1848 بإشادة متحفظة للتوسع البرجوازي، لا يدعو فيه ماركس لتغيير المسار والتوجه نحو طرق الإنتاج الآسيوي، بل يقول إن من عليهم التحكم في تلك القيم وذلك التفوق هي الطبقة العاملة
إن المعلم في أي مدينة إيطالية، يجب أن يُعلّم تلاميذه لماذا يصلى أطفال آخرين بطريقة مختلفة ولآلهة مختلفة، ولماذا يعزفون موسيقى مختلفة. وبالطبع يجب على المعلم الصيني أن يفعل الشيء نفسه مع الأطفال الصينيين الذين يعيشون بجوار مجتمع مسيحي. والخطوة التالية لذلك هي أن نثبت لهم أنه يوجد شيء مشترك بين ما نسمعه من موسيقى وما يسمعه الآخرون، وأن دينهم يطلب منهم أشياء جميلة.
اقرأ/ي أيضًا: 5 روائيين يجيبون عن سؤال: كيف تكتب رواية؟
الاعتراض المحتمل مواجهته: نحن على استعداد لفعل ذلك في فلورنسا، ولكن هل سيفعلون الشيء نفسه في كابول؟
حسنًا، أعتقد أن هذا الاعتراض بعيد تمام البعد عن قيم الحضارة الغربية، فنحن حضارة تعددية لأننا نسمح أن تُبنى الجوامع في بلادنا، ولا يمكن أن نتخلى عن هذا لمجرد أنهم في كابول يضعون المبشرين في السجون؛ فإذا فعلنا ذلك سنتحول بدورنا إلى طالبان.
من المؤكد أن معيار التسامح حول الاختلاف هو المعيار الأقوى والأقل مناقشة ونحن نحكم على ثقافاتنا بأنها ناضجة لأنها تستطيع أن تتسامح مع الاختلاف، ونعتبر من لا يحترم الاختلاف ممن ينتمون إلى ثقافاتنا بأنه همجي، ويجب أن نكتفي بهذا، لأن أي رد فعل آخر سيعني وكأننا قررنا أنه إذا كانت هناك في منطقة ما على الأرض شعوب آكلي لحوم البشر علينا أن نذهب لنأكلهم لنلقنهم درسًا.
ونحن نتمنى أنه نظرًا لأننا نسمح ببناء الجوامع في بلادنا أن يسمحوا يومًا ما هم أيضًا ببناء الكنائس في بلادهم، وألا يطلقوا القذائف على تماثيل بوذا. هذا إذا كنا نؤمن بجودة معاييرنا.
*
ما أكثر الاضطراب تحت الشمس. وهذه الأيام أشياء كثيرة عجيبة تحدث. وعلى ما يبدو أن الدفاع عن قيم الغرب أصبح هو راية اليمين، بينما اليسار، كعادته، موال للإسلام إلى حد ما. والآن بغض النظر عن واقع أنه يوجد يمين وأنه توجد أيضًا نزعة كاثوليكية نزيهة تنصف العالم الثالث وتدافع عن العرب، لا ننتبه إلى ظاهرة تاريخية واضحة للجميع وهي إن الدفاع عن قيم العلم والتطور التكنولوجي والثقافة الغربية الحديثة بصورة عامة كانت دائمًا أحد مميزات الأجنحة العلمانية والتقدمية. ليس فقط ولكن تم دعوة كل الأنظمة الشيوعية لأيديولوجية التقدم التكنولوجي والعلمي. إن مانيفستو عام 1848 يُفتتح بإشادة متحفظة للتوسع البرجوازي، لا يدعو فيه ماركس لتغيير المسار والتوجه نحو طرق الإنتاج الآسيوي، بل يقول فقط إن من عليهم التحكم في تلك القيم وذلك التفوق هي الطبقة العاملة.
من المؤكد أن معيار التسامح حول الاختلاف هو المعيار الأقوى والأقل مناقشة ونحن نحكم على ثقافاتنا بأنها ناضجة لأنها تستطيع أن تتسامح مع الاختلاف
وفي مقابل ذلك يوجد دائمًا الفكر الرجعي، على الأقل بداية من رفض الثورة الفرنسية للتقدم ومعارضتها للايديولوجية العلمانية مؤكدة أنه يجب العودة إلى قيم التراث. إلا أنه توجد بعض مجموعات النازية الجديدة التي تأسست على فكرة الغرب الأسطورية وعلى استعداد لذبح كل المهاجرين في ستونهينج. بينما الأكثر جدية من مفكري التراث (ومن بينهم الكثير ممن يعطون أصواتهم لحزب التحالف الوطني المحافظ) اتجهوا، إلى جانب الطقوس وأساطير الشعوب البدائية أو الدروس البوذية، إلى الإسلام أيضًا كمصدر من المصادر الحالية للروحانيات البديلة. فهم يحاولون دائمًا أن يذكروننا أننا لسنا الأفضل، على الرغم مما لدينا من ايديولوجيات وتقدم، وأن الحقيقة يجب أن نبحث عنها لدى النُسّاك والدراويش. وهي أشياء لا أقولها أنا، بل يقولونها هم، ويكفي أن نذهب إلى المكتبة ونختار الكتب المناسبة التي تتحدث عن ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: توم كريستينسن.. ما الذي يبني الحياة؟ ما الذي يهدمها؟
وبهذا المعنى نجد أن اليمين يفتح الآن فجوة غريبة، ولكن ربما تكون هذه إشارة أنه في أزمنة الاضطراب العظيم (وبالتأكيد نحن نعيش أحد تلك الأزمنة الآن) لا أحد يعرف إلى أى جانب يمكنه أن يقف. ولكننا نحتاج، بالتحديد في تلك الأزمنة، لأن نعرف كيف نستخدم أدوات التحليل والنقد، وكيف ننتقد معتقداتنا الخاطئة كما نفعل بمعتقدات الآخرين.
وغاية ما أتمناه أن تتم مناقشة وتحليل هذه الأمور في المدارس أيضًا وليس فقط في المؤتمرات الصحفية.
اقرأ/ي أيضًا: