في 25 أيار/مايو 1933، نشرت صحيفة أم القرى السعودية، مقالًا حول "مراسم البيعة للأمير سعود بن عبدالعزيز آل سعود وليًا للعهد، والدور البارز الذي قام فيه الأمير محمد بن عبد الرحمن، ولي العهد السابق وشقيق الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، في الإعداد لهذه المراسم". تلك العبارات الواردة في مقال صحيفة أم القرى، تبدو قريبة من مشهد تقبيل محمد بن سلمان لطرف جلباب ابن عمه محمد بن نايف، عقب عزل الأخير، وتصعيد الأول لمنصب ولي العهد، ويكتمل المشهد بمقولة ابن نايف: "سأرتاح أنا الآن".
الحقيقة التاريخية التي يخفيها آل سعود دائمًا منذ 84 عامًا، أن الأمير محمد بن عبدالرحمن، لم يكن راضيًا عن البيعة لسعود بن عبدالعزيز، بل كان يسعى لتولية ابنه خالد بن محمد بدلًا عن سعود، وحاول تصعيد خالد لولاية العهد عقب أخيه، وكان الحل في النهاية أن يموت الأمير خالد، وتردد وقتها أنه اغتيل. لكن النتيجة النهائية والأهم هو استقرار الأمر لسعود بن عبدالعزيز، ليكون أول ملوك السعودية من أبناء المؤسس.
وربما تكون المقارنة ضرورية لتفسير ما يحدث الآن، وواقع عائلة ونظام دولة مر تاريخها منذ تأسيسها بحد السيف أحيانًا، وباتفاقات الزواج أحيانًا اُخرى، بعشرات المؤامرات وعمليات النفي والعزل والقتل، في بعض الأحيان للحصول أو المحافظة على الكرسي. ولعل تلك القصص تُفسّر، أو ربما تبرر لما فعله محمد بن سلمان، بداية من تقليص النفوذ، ثم العزل، ثم ما يُقال من وضعه تحت الإقامة الجبرية.
ماذا حدث لمحمد بن نايف؟
نفي غير رسمي لخبر منطقي. النفي سعودي بغير صفة معلنة، فقط مصدر مجهول، أما الخبر فهو: "فرض الإقامة الجبرية على محمد بن نايف ولي العهد السعودي السابق"، وكذلك منع بناته أن يخرجن من منازلهن، في خطوات أعقبت عزله من جميع مناصبه، وبعد أن كان رسميًا الرجل الثاني في المملكة.
فرضت القيود على ابن نايف مباشرةً بعد عزله، فبمجرد وصوله لقصره في جدة وجد حراسًا تابعين لابن سلمان لتنفيذ قرار الإقامة الجبرية
بدأت التسريبات في الخفاء وغير رسمية ودون مصدر صحفي ذي ثقة أو ثقل، إلى أن راجعت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الخبر، مسؤولين أمريكيين وآخرين سعوديين في دوائر السلطة، لتؤكد على وضع ابن نايف في الإقامة الجبرية بقصره في مدينة جدة الساحلية، ومنعه من السفر خارج البلاد. ووفقًا للمعلومات الواردة، فقد بدأت القيود تُفرض على حركة ابن نايف عقب عزله مباشرة، في 21 حزيران/يونيو 2017، وبمجرد وصوله لقصره في جدة، وجد حراسًا جددًا يقال إنهم تابعون لمحمد بن سلمان، لتنفيذ قرار الإقامة الجبرية.
اقرأ/ي أيضًا: تأسيس مملكة محمد بن سلمان "المتهورة".. الحكاية من أولها
المسؤولون السعوديون والأمريكيون الذين اعتمدت نيويورك تايمز على معلوماتهم، والذين رفضوا الإفصاح عن أسمائهم ومواقعهم التنفيذية، موضحين أن ما يحدث لمحمد بن نايف، محاولة لمنع أي معارضة محتملة ضد ولي العهد الجديد محمد بن سلمان. وقد امتد المنع من ولي العهد السابق نفسه إلى بناته، بفرض إقامة جبرية عليهن أيضًا في منازلهن هن وأزواجهم وأولادهن.
نيويورك تايمز لم تكن الصحيفة الوحيدة التي أكدت أخبار الإقامة الجبرية، إذ أكدت صحيفة الغارديان البريطانية، نقلًا عن مصدرين مقربين من العائلة المالكة، وضع محمد بن نايف تحت الإقامة الجبرية.
في المقابل جاء النفي السعودي على لسان مصدر لم يصرح باسمه، وبحس تآمري كالعادة. وقال المصدر لشبكة "سي إن إن"، إن "ما نقل عن وضع الأمير محمد بن نايف تحت الإقامة الجبرية لا أساس له من الصحة وهي شائعات نشرها حزب الله وإيران"
5 أسباب تدفع "الأمير الطائش" للخوف من ابن نايف
بعد ظهوره مبايعًا لابن سلمان الذي هرول لتقبيل يده وطرف جلبابه؛ يختفي ابن نايف للأبد على ما يبدو، وهو ما يراه البعض الحل الأفضل لصالح ابن سلمان، فيما تأتي الإقامة الجبرية كخيار أكثر أكثر سلمية سواءً من النفي أو حتى القتل، وكلاهما معمول بهما في دهاليز الحكم السعودي تاريخيًا.
وشاهد الجميع عملية نقل السلطة من ابن نايف إلى ابن سلمان، وحتى إن بدت سلسةً، إلا أنها بلا شك تعطي انطباعًا بـ"انقلاب ناعم" أو "أبيض" قاده ابن سلمان مسنودًا على والده الملك. كما أن مشاهد مبايعة ابن نايف لابن سلمان، تكشف بتحليل لغة الجسد عن عدم رضا ابن نايف عما يحدث، وعن أنه مجبورٌ عليه، وليس كما حاول ابن سلمان، المشهور بـ"الأمير الطائش" تصوير الأمر بتقبيل الأيادي وأطراف الجلابيب.
وتعد أبرز المخاوف التي يخشاها محمد بن سلمان من محمد بن نايف، خبرة الأخير مع الأجهزة الأمنية، فهذه الخبرة المتوارثة تعطي ابن نايف نفوذًا كبيرًا في الأجهزة الأمنية السعودية، وتمتد خبرته منذ تعيينه مساعدًا لوزير الداخلية للشؤون الأمنية في 1999، ثم صعد لمنصب وزير الداخلية في عام 2012، ثم في شباط/فبراير 2014، كُلف بتولي مسؤولية النشاطات الاستخبارية السعودية في سوريا، خلفًا لبندر بن سلطان، إلى أن عين في 23 كانون الثاني/يناير 2015 وليًّا لولي العهد، وفي 29 نيسان/أبريل 2015، عيّن وليًا للعهد مع احتفاظه بمنصب وزارة الداخلية، إلى أن أعفيَ من كل مناصبه في 21 حزيران/ يونيو 2017.
من أبرز مخاوف ابن سلمان من ابن نايف، الخبرة الطويلة والنفوذ القوي للأخير داخل الأجهزة الأمنية السعودية
شخصية ابن نايف نفسها قد تمثل تخوفًا لابن سلمان، فمن المعروف عن ابن نايف إصراره وقوته التي أفلتت به من أربع محاولات اغتيال، آخرها كانت كفيلة بالقضاء عليه تمامًا، وتعتبر أشد محاولة اغتيال لشخص بعد عملية اغتيال رفيق الحريري.
اقرأ/ي أيضًا: كيف روجت أبوظبي وواشنطن لمشروع محمد بن سلمان؟
ومن جهة الولايات المتحدة الأمريكية، فلابن نايف علاقات متنفذة هناك، بخاصة مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وهو ما يفتقده ابن سلمان حديث العهد بالسلطة، وما يسعى جاهدًا بدعم أبوظبي، للحصول عليه.
من جهة اخرى، فإن لابن نايف شعبية كبيرة في الشارع السعودي انطلاقًا من الحديث عن الإجراءات الأمنية والحرب على الإرهاب. كما يُفضل البعض أن يُرجع له الفضل في مكافحة الإرهاب في السعودية، حتى كانت تصفه الصحافة السعودية بـ"المطارد الشرس للإرهاب"، بل إن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وصفه عقب عزله بـ"داحر الإرهاب". وهكذا تُدار الأمور داخل العوائل المالكة!
هذا وقد تقاس بعض شعبيته، بتفاعل مغردين سعوديين مع أنباء وضعه تحت الإقامة الجبرية، بالرفض والمطالبة بـ"إطلاق سراحه"، تحت وسم "#الحرية_لمحمد_بن_نايف".
تاريخ مؤامرات الحكم داخل آل سعود
كانت ملامح الأولى للمؤامرات بين أفراد آل سعود منذ بداية التأسيس مع الملك عبدالعزيز، والذي عزل أخاه محمد بن عبدالرحمن من ولاية العهد، وأعطاها لابنه سعود، مع الإعلان الرسمي لتأسيس السعودية، ما دفع محمد بن عبدالرحمن آل سعود للخروج من الرياض، مطالبًا بتولي ابنه خالد بن محمد بن عبدالرحمن ولاية العهد، وظل الأمر معلقًا إلى أن توفي خالد عام 1938 في عمر 36 عامًا، في حادث صيد غير معلوم الحيثيات، ومشكك فيه. وبموته انتهت طموحات تولي الملك من خارج أبناء عبدالعزيز.
بدأت ملامح المؤامرات الأولى داخل أسرة آل سعود في عهد عبدالعزيز الذي نحى أخاه من ولاية العهد وأعطاها لابنه سعود رغمًا عن الأول
وبين أبناء عبدالعزيز لم تكن الأمور هادئة، إذ كانت المنافسة على أشدها منذ البدايات، وانحصرت أوّلًا بين سعود بن عبد العزيز الذي كان وليًا للعهد، وأخيه فيصل الذي كان وزيرًا للخارجية، وأخيهما منصور الذي كان وزيرًا للدفاع حتى اغتيل بالسم في عام 1951، لتضيق دائرة المنافسة على سعود وفيصل.
اقرأ/ي أيضًا: هيئة البيعة السعودية.. أداة الصراع الملكي 3/3
تولى سعود الحكم خلفًا لوالده عبدالعزيز، لكن الصراع مع أخيه فيصل لم ينته، وعمد كل منهما على جذب الأنصار من حوله، فاتجه سعود للقبائل، فيما ركز فيصل على رجال الدين والتجار، وعلى علاقاته الخارجية القوية. في نفس الوقت وجد بعض الأمراء ضرورة لتحول السعودية لمملكة دستورية، ونادوا بالحقوق والحريات، فظهرت حركة عُرفت باسم "الأمراء الأحرار"، أُسست عام 1958.
من أشهر قادة الحركة الأميرية، الأمير طلال، ومعه إخوته مشاري وبدر وتركي الثاني وفوّاز. لكن جميعهم نفوا إلى خارج الأراضي السعودية، ما بين مصر ولبنان، وسُحبت الجنسيات منهم، حتى عُفي عنهم في السبعينات وعادوا لبلادهم لكن بعد أن تنازلوا عن ألقابهم كأمراء، لكن ذلك أيضًا تم التجاوز عنه وأُعيدت لهم ألقابهم، بل إن فواز تولى إمارة مكة لعشر سنوات.
لم يكن اتفاق سعود وفيصل على نفي "الأمراء الاحرار" خطوة نحو توحدهما وإنهاء صراعهما الذي استمر، وإنما كان مجرد استبعاد جديد لأي شخص قد يؤثر على نفوذهما، إلى أن قرر فيصل عزل سعود، بانقلاب أبيض، خرج على إثره سعود إلى لبنان، ومن هناك تحوّل لمعارضة فيصل بشكل واضح وصريح.
ومع بداية تولي فيصل المُلك، ضغط لاختيار شقيقه خالد وليًا للعهد، وكان خالد -الذي أصبح ملكًا بعد فيصل- معروفٌ عنه هدوءه وقلة حيلته في السياسة. وقد قبل محمد بن عبدالعزيز بذلك، فيما بدا أنه على مضض.
أمّا فيصل، والذي عمل جاهدًا على إضعاف كل مراكز القوى من إخوته، وتحجيم معارضته داخل الأسرة، لم يسلم من الانتقام، وتلقى عدة رصاصات من ابن أخيه فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز، أردته قتيلًا. ومما يُذكر أن فيصل كان يمنع ظهور أخيه مساعد بدعوى أنه كفيف ومضطرب عقليًا، لكن ما تردد ويتردد هو أن مساعد كان من معارضي فيصل لعزله سعود.
بعد موت فيصل، لم تنته الصراعات، وإن كانت قد هدأت، فقد عمد كل من فهد وعبدالله على تنحية معارضيهما، وتثبيت أركان الحكم لهما بهدوء، إلى أن جاء سلمان، العاهل السعودي الحالي، وقام بعدة انقلابات ناعمة، نحّى بها إخوته، ومن يليهم في استحقاق المناصب، ليُعجّل بتصعيد نجله محمد بن سلمان الذي يرى في نفسه "إسكندرًا أكبر" آخر، بينما يراه كثيرون مجرد "أمير طائش" يقود بلاده نحو الهاوية.
اقرأ/ي أيضًا: