مِن النهاية رسم الكاتب الفلسطيني إبراهيم جوهر خط الفَصلِ لما تحمله الرواية، من اللحظة التي لا يغفل عنها أي شخص عاشر الجبل وساكنيه ولو ليوم واحد، تلك الفكرة التي يثبتها الكاتب، ويعود فيها لنقطة البداية والارتكاز في علاقة سكَان أهل الجبل مع جبلهم، يقصد الكاتب هنا جبل الخليل في فلسطين والقرى التابعة له، والذي لم يكن في أيّ يوم عابرًا في خيال ساكنيه، فقد تطبّعوا بطباعه، وأصبحوا على مدار تلك الأعوام الماضية رمزًا للأصالة والكَرم والعطاء غير المنتهي.
الشك والريبة المصحوبة بالطيبة، الحرص والصد المقترن بالكرم، كلها صفات يتحلى بها أهل الجبال
في روايته "أهل الجبل" (فضاءات)، فتشت بطريقة غير مألوفة عن ملامح ساكني الجبل، تشكلت بداية مِن شخصية أم علي التي تسكن الكهف في أحد جبال الخليل، والتي ما زالت تحتفظ بفلسطين الصغيرة داخلها، فلسطين التي لا تعترف بحدود الجغرافيا الحالية، وإنما بروابط تشيخ دون أن يجعد الزمن ملامحها. كان الرابط بين الجبل وأم علي علاقة تشبه علاقة غسان كنفاني بقلمه، و"بدلة " ياسر عرفات التي كانت من مميزات الكاريزما الخاصة به، إضافة إلى الكرسي المتحرك الذي كان يفترشه الشيخ أحمد ياسين في نهاية حياته. هذه العلاقة اتضحت قوتها حينما عمدت أم علي للاحتفاظ بهذه الملامح الفلسطينية في كهفها في الجبل، اقتنت القلم والبدلة والكرسي، لتبقى مرافقة لها ما دام الجبل قويًا وصلبًا في مواجهة آيات التهويد والاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: ياسين عدنان.. المغرب في كوميديا حيوانية معاصرة
الزيارة التي قرر الكاتب أن يقوم بها إلى جبل الخليل والقرى المحيطة به، لمعرفة علاقة الإنسان الذي يسكن الجبل بالأرض، أراد من خلالها التعرف على مفردات جبلية عقيمة لا قدرة على (هضمها) واستساغتها دون الرجوع لأصلها، مثلًا علاقة إنسان الجبل بالدوالي المتدلية بعناقيدها التي لازمت الكاتب على طول الطريق التي يسير فيها قاصدًا قرية "دورا" جنوب الخليل، مفردة الشك والريبة المصحوبة بالطيبة، مفردات الحرص والصد المقترن بالكرم، التخطيط والمسؤولية الموازية للتواكل، لاحظها الكاتب في جباه أهل الجبل دون غيرهم، كان هذا محور حوار طويل ومُفصل بين الكاتب وأصدقائه في "تلفزيون الجبل". دارت نقاشاتهم حول الجبل ومفاهيمه وسر علاقة أهله به. ظهرت هذه الإجابة من صديق الكاتب وابن الجبل حين قال: "هل تمرمغت بتراب الأرض يا أستاذ؟ هنا السّر. لا تذهب بعيدًا، فالجواب قائم في قربك من تراب الجبل وفي حوارك معه".
شهدت حياة أهل الجبل موجة هجرة إلى رام الله، بعد أن تضخمت الأخيرة خلال العشر سنوات بعد عام 2000، سواء كان التضخم سكانيًّا أو وظيفيًّا، أصبح فيها من الدوائر والمؤسسات والوزارات ما يجعلها قِبلة للباحثين عن عمل.
سعيد الظافر أحد شخوص الرواية وابن الجبل الذي خدعته مظاهر الحداثة والعصرنة، اتجه إلى رام الله باحثًا عن عمل. في يومه الأول في رام الله قرر سعيد زيارة صديقه من أيام الجامعة في مقر عمله في وزارة الثقافة، كان الصديق القديم يجلس خلف مكتبه، غير آبه بتلك الذكريات الماضية التي جمعتهما في الجبل يومًا، ملامحه لم تعد كالسابق، تساءل سعيد في داخله ألهذا الحد تُغيّر هذه المدينة البشر، بتسارع تضخمها تجعل الخيط الواصل بين العاطفة والعقل ينقطع شيئًا فشيئًا؟
إن تخلت المدينة عن أحدهم يومًا فلأن ذلك الضعيف لم يعد يقدم للمدينة شيئًا
في رام الله لا يوجد بناء عائلي مترابط، كما لا يوجد أصدقاء دائمون في مواجهة تقلبات الزمن، العلاقات هناك محسوبة بمعيار الوقت والمنفعة، إن تخلت المدينة عن أحدهم يومًا فلأن ذلك الضعيف لم يعد يقدم للمدينة شيئًا، تنبذه بعيدًا وتستقبل آخر يحل مكانه، بالمقابل في الجبل وفي روابط أهل القرى التي لا تنبذ ابنها مهما كان ضعيفًا، بل تُقوّيه العلاقات وتكسبه القوة تشابكات الأهل والأصدقاء التي لا تقترب للمنفعة من شيء.
من ملتقى عشاق القهوة الذي احتل سعيد الظافر ركنًا فيه، إلى الغرفة التي نزل فيها مع مجموعة من رفاق البحث عن عمل، ثم إلى الجبل الذي خُلق فيه، عاد أخيرًا، الفكرة كانت في الغربة أولًا، إحساس الرحيل عن مكان يحنو على الإنسان في ضعفه قبل قوّته، وفي حزنه قبل فرحه، تجعله مرتبطًا به كي لا يفقد ذاته. تجربة سعيد الظافر المريرة في الحصول على عمل في رام الله كانت فاشلة، لم تكن المدينة ببهارجها وزخرفة التمدن والعصرنة قد أغوته بشيء، بل على العكس، كانت التجربة قد أثبتت أن أبناء الجبل هم أكثر الأشخاص قدرة على التشبث بماضيهم في حال هبت عليهم رياح الغربة، وهم أكثر الأشخاص حفاظًا على هويتهم الاجتماعية في مكان يختلط فيه الحابل بالنابل.
اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال
أحد العناوين الفرعية التي حملتها الرواية "لا دوالي في رام الله"، يُظهر العنوان أن أهل الجبل في الخليل تربطهم علاقة ذات طابع مختلف، تتشابه إلى حد ما مع الدوالي التي تمتد في جبالهم بشكل واضح للعابرين والمقيمين، تُظهر جذورُ العِنب شموخ وتماسك الأهل في القرى، وارتباطهم ببعضهم البعض كارتباط الدوالي بالأرض. فُقدت هذه الملامح في رام الله التي لم تظهر فيها أشجار العنب ولا أي أشجار أخرى، كانت الأبراج واضحة بطوابقها المرصوفة بالزجاج أكثر ما يشاهده المارّون. لم تظهر تلك العلاقة في القُرب، جميع من يقطن رام الله يكتشف مع الوقت أنه يمشي مسافات طويلة دون أن يعرف من يسير إلى جانبه سواء في عمله أو في سكنه، وبأن رام الله اليوم ليست إلا مدينة الضجيج والزحام.
في الجبل رَجلٌ بمثابة موسوعة، أعماله التي شغل بها نفسه طوال حياته كانت أشبه بهوية لإثبات الوجود الفلسطيني قبل أي شيء، مقتنياته التراثية التي تنادي بالحاجة إلى متحف خاص بها ليكون للجبل هوية فلسطينية مختلفة قبل أي شيء، كونها تقارب في عددها الـ500 قطعة أثرية.
تتشابه علاقة أبناء الجبال إلى حد ما مع الدوالي التي تمتد في جبالهم بشكل واضح للعابرين والمقيمين
إسحق الحروب الذي التقى به الكاتب في مدينة دورا جنوب الخليل في قريته دير سامت، تحدث عن الهوية الفلسطينية النازفة على مدار السنوات الماضية، وأَطلعه أن تجربته كانت صعبة في تجميع ما لم يكن في الحسبان ضياعه وسرقته من قبل الاحتلال لينسبوه لدولتهم، لأن أغلب القطع الأثرية التي يقوم بجمعها كانت بأمواله الخاصة، بداية من الأزياء التراثية القديمة جدًا، إلى الدراهم التي توضع على رأس العروس، وامتدادًا إلى قطعة نقدية واحدة يتجاوز سعرها الآن 30 ألف دولار كان قد ابتاعها من منطقة بدوية شرق محافظة الخليل.
الحرب الأخيرة على غزة 2014، كانت مدمرة هوجاء للجموع الغفيرة المتكدسة فوق بعضها البعض في غزة، القتل والدمار والتفجيرات أعاد كل ذلك للطاولة الفلسطينية البحث عن مخرج موحد. طالت الرياح العاصفة الدكتور حاييم مودلفيتش، الطبيب النفسي الإسرائيلي، الذي أشرف في مستشفى "جفعات شاؤول" في القدس على أكثر الحالات سوءًا للضباط والجنود الذين خدموا في الجيش والذين كان لهم يد في تعذيب الفلسطينيين في السجون. اتخذ قراره وغادر إسرائيل إلى موسكو بعد الحرب لما عاناه من أزمة ثقة في ما تقوله الدولة للمواطنين.
أبناء الجبل خليط من بيئة وطقوس تُظهر اختلافهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي عن غيرهم، لهجاتهم المختلفة ومعتقداتهم التي يحملونها في جوانب حياتهم مع مرور الوقت تترسخ أكثر وأكثر كهوية مختلفة عن الهويات الفلسطينية الأخرى. من يمضي ليلة واحدة في الجبل حسب المثل الشعبي الفلسطيني المتداول "مَن عَاشَر القُوم ليلة ويوم صَار منهم" يعطي تلك الصورة السائدة أن من مر من الجبل يومًا سيحمل معه نفحة منه لا يمكن أن تنسى يومًا.
اقرأ/ي أيضًا: