في ظل العقوبات الغربية التي تتوالى على روسيا لإضعافها اقتصاديًا بسبب حربها على أوكرانيا، اتفقت غالبية دول الاتحاد الأوروبي بقرار شبه موحد على أهمية خفض إمداداتها من الغاز الطبيعي الروسي خلال الفترة المقبلة. وفي هذا الإطار قررت المفوضية الأوروبية تأسيس منصة لشراء حاجة أعضائها من الغاز الطبيعي بأسعار معقولة في سياق التطورات الجيوسياسية الحالية وللتخلص التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي.
على أرض الواقع، يتضح أن الأمر بالغ التعقيد، ويظهر أن الغزو الروسي لأوكرانيا ألقى بظلاله على ملف الطاقة
وبالفعل أنشأت الدول الأعضاء في المفوضية الأوروبية منصة الاتحاد الأوروبي للشراء المشترك للغاز والغاز الطبيعي المسال والهيدروجين، وعقدت أول اجتماعاتها في 8 نيسان/أبريل الجاري. وشددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على القرار، وكتبت في تغريدة على هامش اجتماع في فرساي الشهر الماضي أن "التكتل يأمل في التخلص التدريجي من اعتماده على الغاز والنفط والفحم الروسي بحلول عام 2027"، مضيفة أنها "ستقترح خطة في هذا الصدد في منتصف أيار/مايو القادم". يشار إلى أن روسيا تورد سنويًا قرابة 178 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا وتركيا من إجمالي صادراتها البالغة قرابة 235 مليار متر مكعب، حيث تستهلك دول الاتحاد الأوروبي نحو 40% من وارداتها من النفط ومشتقاته من روسيا، والتي تصل إلى نحو 6,5 مليون برميل يوميًا من النفط الخام ووقود الديزل.
وإن كان القرار بتخفيض واردات الغاز الطبيعي، فإن دول الاتحاد الأوروبي قد حظرت استيراد الفحم، وتمتلك روسيا 15% من الاحتياطي العالمي للفحم حسب التقرير السنوي لشركة "بريتيش بتروليوم" حول الطاقة، وتشكّل إمدادات الفحم الروسي 45% من واردات الاتحاد الأوروبي مع اعتماد بعض الدول عليه بشكل خاص مثل ألمانيا وبولندا اللتين تستخدمانه لإنتاج الكهرباء.
لكن على أرض الواقع، يتضح أن الأمر بالغ التعقيد، ويظهر أن الغزو الروسي لأوكرانيا ألقى بظلاله على ملف الطاقة، حيث تباينت مواقف دول الاتحاد في مسألة البحث عن بدائل للغاز الروسي، إذ بدأ كبار المستهلكين في أوروبا إجراء مفاوضات فردية مع المنتجين للفوز بعقود جديدة، وهو ما قد يشكل انتصارًا روسيًا غير مباشر يتمثل في إفشال جهود قيادة المفوضية الأوروبية للدفع بمفاوضات موحدة لتوقيع عقود جديدة للغاز الطبيعي مع منتجين آخرين.
وبالفعل، فقد اتجهت ألمانيا منذ آذار/مارس الماضي إلى دول الخليج العربي وبالتحديد قطر للبحث عن بديل للغاز الروسي الذي تعتمد عليه للحصول على 50% من حاجتها من الغاز الطبيعي، بينما ذهبت إيطاليا التي يلبي الغاز الروسي 40% من احتياجاتها إلى القارة الأفريقية وتحديدًا الجزائر وأنغولا ومصر والكونغو ونيجيريا، حيث كان متوقعًا أن يرأس رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي وفدًا للسفر إلى عدة دول إفريقية لتوقيع عقود لتوريد الغاز الطبيعي لولا إصابته بفيروس كورونا الأسبوع الماضي.
أما فرنسا التي يمثل الغاز الروسي 25% من احتياجها، فقد أعلنت عن خطوات لتوسيع محطات لتسييل الغاز، وبناء مخازن أكبر لتخزين مصدر الطاقة والبحث عن مصدّرين جدد من آسيا وإفريقيا. بينما عززت إسبانيا حصتها من الغاز الطبيعي القادم من الجزائر، لكن توتر العلاقات بين البلدين في الفترة الأخيرة بسبب موقف إسبانيا المستجد من قضية الصحراء بالإضافة للعلاقات القوية بين الجزائر وإيطاليا والتي تدعمت مؤخرًا باتفاقيات ثنائية ضخمة في مجال الطاقة، جعل مدريد تخشى أن تذهب حصتها من الغاز الطبيعي الجزائري إلى روما. أما المملكة المتحدة وبعض دول غرب أوروبا فوجدت البديل لتعويض الغاز الروسي في الغاز الطبيعي القادم من الولايات المتحدة الأمريكية.
بالمقابل، يتخوف مراقبون أن تصبح تلك الجهود الفردية عاملًا سلبيًا يقف عائقًا أمام بحث دول الاتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة للغاز الروسي، لأن غالبية الدول تفتقد للعلاقات القوية مع الشركات التي تعمل في مجال الطاقة أو الدول المنتجة له، ما يجعلها في وضعية العجز لتوفير حاجتها من الطاقة.
وهنا تبرز أهمية شركات الطاقة في بناء عقود جديدة للغاز الطبيعي مثل "إيني" الإيطالية التي تنشط في 12 بلدًا أفريقيًا وتوتال" الفرنسية، وبريتش غاز" البريطانية. وأمام تلك العوائق المحتملة يبرز التحدي الأكبر للدول الأوروبية وهو فصل الشتاء البارد الذي أفقدها هذا العام جزءًا كبيرًا من مخزوناتها، والتي تحتاج اليوم إلى تعويضه استعدادًا لموسم الشتاء القادم.
لهذا حدد الاتحاد الأوروبي لنفسه هدفًا لملء مخزون الغاز تحت الأرض إلى 80% من طاقته بحلول تشرين أول/أكتوبر المقبل، وقد يكون ذلك ممكنًا ولكن بتكلفة سياسية ضخمة. إذ سيتعين على الاتحاد الأوروبي الاستمرار في شراء أكبر قدر ممكن من الغاز الروسي كما هو الحال الآن، وهذا ما تؤكده أرقام شركة غاز بروم الروسية في إمدادات الغاز لدول الاتحاد الأوروبي التي لم تسجل أي تراجع، حيث تبلغ كلفة شراء الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي يوميًا حوالي 200 مليون دولار وهو ما يعادل 36 مليار دولار للستة أشهر المقبلة وفق تقرير لصحيفة الواشنطن بوست.
يتخوف مراقبون أن تصبح تلك الجهود الفردية عاملًا سلبيًا يقف عائقًا أمام بحث دول الاتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة للغاز
ومؤخرًا تحدث الممثل السامي للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل بصراحة عن مشكلة شراء الفحم والنفط والغاز الروسي، وقال في تصريحات صحفية "كل يوم تقريبًا ندفع مليار يورو لبوتين لاستيراد الطاقة الروسية (النفط، الغاز، الفحم)، ومن الواضح أن هذا مصدر دخل يستخدم لتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا".