في الوقت الذي لا تضيع فيه إسرائيل جهدًا في تقديم ذاتها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، هناك من يحاولون نقض كل هذه الادعاءات عبر التشكيك في الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تروج لها منذ قيام دولتها عام 1948 وحتى قبل ذلك، ولعل الأهمية الكبرى لمثل هذه الأصوات أنها آتية من داخل إسرائيل وتسعى إلى نقد الرواية الإسرائيلية الرسمية من داخلها.
يستعرض إيلان بابيه نماذج لمؤرخين وعلماء اجتماع إسرائيليين ساهموا في التأسيس العلمي للرواية الصهيونية
إيلان بابيه واحد ممن ذهبوا إلى أبعد مذاهب المؤرخين النقديين في إسرائيل، أو من اصطلح على تسميتهم في أوائل التسعينيات بـ"المؤرخين الجدد"، يقدم في كتابه الجديد "فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة" (المؤسسة العربية للداسات، 2015، ترجمة محمّد زيدان) تاريخًا عامًا لآليات إنتاج المعرفة الإسرائيلية التي اتكأت عليها الصهيونية في إثبات سردياتها التاريخية، وترسيخ فكرة الدولة الإسرائيلية، متعرضًا لدور المناهضين لتلك الرواية في فضح المغالطات التاريخية والمزيفة لفكرة إسرائيل، في تحدٍّ علني للتيار السائد من الأكاديميين الموالين، ومحاولة لتقويض شرعية الخطاب الرسمي، مستلهمًا فكرة الكتاب من مقالة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد عام 1983 عقب الحرب الإسرائيلية على لبنان، الذي أكد فيها ضرورة نشر الرواية الفلسطينية عن الصراع.
استطاعت الصهيونية تطويع المؤسسة الأكاديمية بجانب السينما والدراما والإعلام من أجل تسويق الرواية الإسرائيلية وتأسيس تاريخ قديم وحديث للدولة الإسرائيلية، رواية مصممة بما يجعل هناك مبررات لعمليات القتل والتهجير التي شنتها العصابات الصهيونية بحق السكان الأصليين من الفلسطينيين.
حاولت السياسات الإسرائيلية بواسطة أكاديميين وباحثين ضمنت الدولة ولاءهم، وقدموا أبحاثًا ودراسات تتناول تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين من منطق رومانسي مثالي، وصورت نجاحها بتحديث فلسطين منذ أن حط بها اليهود، وحاولوا اختلاق علاقة تربط اليهود بأرض فلسطين موظفة كافة الإمكانيات في الترويج لهذه السردية، ومنها إنتاج الخرائط والأطالس التي قدمت معلومات جغرافية دقيقية "منحازة طبعًا" بدءًا من عصور الكتاب المقدس حتى زمننا الحاضر. ويستعرض صاحب "التطهير العرقي في فلسطين" في كتابه الجديد نماذج لمؤرخين وعلماء اجتماع إسرائيليين ساهموا في التأسيس العلمي للرواية الصهيونية عالميًا ومحليًا، وفي بناء الذاكرة القومية الجمعية وترسيخها.
كما يستعرض بجانب تلك النماذج نماذج أخرى على الطرف المقابل لأكاديميين إسرائيليين حاولوا تقويض الخطاب الرسمي وأبرز العقبات التي واجهتهم حتى وصل الأمر إلى تهديدهم بالقتل، وتاريخ حركة المؤرخين الجدد حتى انحسارها بعد الانتفاضة الثانية جراء التهديدات والمضايقات الإسرائيلية، إلا أنها رغم كافة المضايقات استطاعت تفكيك الأسطورة الإسرائيلية الكبرى واجتذاب العالم للرواية الحقيقية، بدءًا من هجرة العرب الطوعية أو خلو الأرض من السكان حتى إلى الصورة المتخيلة في أذهان الإسرائيليين عن الفلسطينيين ببدائيتهم ووحشيتهم، ورفض العرب والفلسطينيين للسلام التي يروج لها الإسرائيليون منذ قيام دولتهم، ووضع الإسرائيليين في مكان الضحية بعد استغلالهم ذكرى الهولوكوست، مستندين بذلك على الأرشيفات التي أفرج عنها بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على إحداثها.
في "فكرة إسرائيل" ثمة تقاطع بين السيرة الشخصية لإيلان بابيه وسيرة مجموعة من النقديين الإسرائيليين
يقول إيلان بابيه في وصف المؤرخين والأسئلة التي يثيرونها: "إن علماء التاريخ والاجتماع والفنانين وكتّاب المسرح وغيرهم ممن اختاروا خلال التسعينيات أن يكونوا صوتًا لضحايا الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل قد قاموا بذلك لأنهم كانوا هم أنفسهم ينتمون إلى مجموعة من الضحايا، أو لأنهم كانوا راغبين بترك الراحة التي كانوا فيها وتوضيح موقف المستَعمر والمحتل والمضطهَد. لقد أضحت فكرة إسرائيل بالنسبة إلى هؤلاء نصًا مطلقًا يقضي بالموت والحياة، وكانوا يتساءلون عما إذا كان من الممكن إعادة كتابته؟ وهكذا لم يعد التفكير بمثل هذا السؤال داخلًا من باب ترف الهويات الفكرية بل كان انخراطًا حقيقيًا في معضلة وجود بالنسبة إليهم" (ص 22).
إلا أننا نلاحظ خلال عرضه لإنجازات حركة المؤرخين الجدد، أن ثمة نظرة لا تخلو من النزعة الفوقية، مجسدة صورة الرجل الأبيض مهما كان نقديًا، رغم أن بابيه نفسه يؤكد على سياسة الدولة الاستشراقية في خطابات التحديث وفي رسم الصور النمطية عن الفلسطينيين، فيرجع بشكل مباشر إلى الاعتراف الدولي بشرعية الرواية الفلسطينية بعد خروج تلك الأصوات من داخل إسرائيل، ضمن إطار لا نعلم ما هدفه إلا أن القارئ يلامس فوقية الرجل الأبيض فيه، هذا عدا عن اعتماده على نظام أخلاقي قيمي يكون فعالًا في أكثر حالاته عند ارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين ويغض الطرف عن حريتهم في مقاومة أعدائهم، حيث لا يتوانى عن وصفهم بحذر بالإرهابيين كما في حادثة الهجوم على إحدى الباصات عام 1954، لكن هذه الاتهامات تذوب فورًا في حالات مشابهة "هجوم مسلح" إن سقط الفلسطينيون المهاجمون.
وعلى الرغم من أن الكتاب لا يقدم مقولات جديدة أو فارقة، إلا أن أهم ما يجيء به هو التأريخ للحركة النقدية في الأكاديمية الإسرائيلية من خلال أحد أهم المؤسسين لها، والذاهبين إلى أبعد خياراتها. إيلان بابيه يقدم في هذا الكتاب موجزًا عن التاريخ الشاق الذي خاضته حركة التاريخ البديل في إسرائيل، ما يجعل أحد أوجه أهمية الكتاب هو التقاطع بين تقديمه كسيرة شخصية لبابيه وسيرة مجموعة من النقديين الإسرائيليين.
في فصول كتابه الأكثر من عشرة، لا يكف بابيه عن تقديم نماذج هامة توضح سطوة المعرفة ودورها في تدعيم وترسيخ السردية الصهيونية بجانب الروايات الأخرى التي حاولت نفيها، دون أن ينسى التعريج على فكرة المقاطعة العالمية وسحب الاستثمارات والإجراءات الإسرائيلية لتقويضها والقضاء عليها، مؤكدًا أن الرواية الصهيونية الكلاسيكية أضحت تعد في أنظار الكثيرين حول العالم نوعًا من البروباغاندا، بينما بدأت حقيقة الذي جرى وما زال يجري في فلسطين تتجلى وترى النور أكثر فأكثر.