هي لعبة الوهم إذًا، لعبة الكلمات التي هي أكثر من صمت ماكر، يلعبها وديع سعادة في كتابه "رتق الهواء" (النهار، بيروت 2005). اختراع لأبجدية الوهم الكبرى. ظلال الأحرف حين ترتسم في الثقوب السوداء للكتابة: الثقوب السوداء حيث الزمان والمكان هيوليّان، مستعادان ومطّاطيان وغير موجودين، كـ"قلب اللوز الذي سقط من يدي فهرسته الدواليب واختفى". هذه اللعبة المضنية تسلّمنا إلى غوايتها المحيّرة منذ القصيدة الأولى، "محاولة لحم أحرف محاولة إكمال كلمة"، من طريق اللافتة العريضة التي يفتتح بها الشاعر القصيدة: "إني ألعب الآن". اللعبة تدور مع الكلمات بالطبع، الكلمات التي فقدت وقارها وجدّتها بالنسبة للشاعر، من دون أن تفقد بطشها: "سقط وقارها وفقدت جديّتها وصارت مجرد لعبة"، ثم يستطرد مسرعًا: "عليَّ أن أستدرج الكلمات للّعب وهي ترفعُ خنجرها عليَّ".
ربما يعود اختيار الشاعر للكلمات كخصم وأداة في آن واحد إلى عجزه عن اللعب مع العالم
يرقص الشاعر مع الكلمات "تانغو" أسودَ. هو المدرك أنه قتيلها لا شك، يحاول أخذ استراحة، والخروج من المعركة غير قاتل، معترفًا بأنه اخترع أكاذيب كثيرة، وبأن ما كتبه لم يكن سوى "ابنٌ لقيط لمخيّلة مجنونة". بل إنه يتضرّع إليها، تلك الكلمات، قاتلة ناطقيها وسامعيها، لتعود ولو لمرة إلى براءتها الأولى، من طريق ممارسة العهر معها.
اقرأ/ي أيضًا: صورة ضائعة مع وديع سعادة
لكن هذا "الاستسلام" الموقّت، والتأرجح بأرجل حافية بين حدود الأحرف السامّة، لا يعدو كونه كمينًا متقنًا. لأن الهذيان اللغويّ مضبوط تمامًا على قياس النسف العنيف الذي يطبّقه الشاعر على المعاني، لتنتظم في ما يشبه بحرًا عروضيًا، لكن على مقاس النثر. فاللغة السيّالة تتبع مجاري حفرها وديع سعادة بنفسه، في "استراتيجيا" نحوية تستدرج الكلمات، تقتلع مخالبها، وتجبرها على العودة إلى براءتها، كي ينتصر الشاعر في النهاية. هذا الانتصار حتميّ، لأنّ الشّاعر ليس واحدًا من الجميع العاجز الّذي "يريد أن يكون حرف وصل وأداة تشبيه"، بل ممّن أدركوا أن لغة حياتهم هي لغة موتهم، القتلى أو الموجودين حقًا، إذ "لا وجود ولا قدرة إلا لجحافل المتمرّدين. وهؤلاء هم، هؤلاء هم القتلى، الذين لغة حياتهم هي لغة موتهم". وربما يعود اختيار الشاعر للكلمات كخصم وأداة في آن واحد إلى عجزه عن اللعب مع العالم "إن لَعِبَ مع الأرض فهي طابة كبيرة عليه"، أو إدراكه عبثيّة الّلعب مع الذات "فهي صغيرة وتنزلق من بين يديه ولن يمسكها أبدًا". وبما أنّ "العالم أوسع مما ينبغي والذات أضيق مما ينبغي"، يختار الأحرف الوحيدة مثله، أو الوحدات التي تكوّن هذا العالم، والأيدي العملاقة التي تمتد إلى عروق الأجساد وتفسد دمها، لتلهو به ويلهو بها. هذا اللهو هو ما يتيح تكبيلها برهة، تسمح للذات الصغيرة بالانزلاق نحو عالمها الآخر: الفراغ.
لكن هذا التكبيل ما كان لينجح لولا وسيلتين: تدوين الكلمات، "على الكلمات التي نحبّها أن تبقى دائمًا في أفواهنا وأن نعيد كتابتها مرارًا على الورق"، والالتفاف الدائم عليها. الوسيلة الأولى "مخادعة" إلى درجة كبيرة، وهذا لا يعيبها بقدر ما يجعلها أكثر فاعلية، لأن ممارسها يقول: "هذه الكتابة لعبة زائفة وللرمي في القمامة، يمكنني أن أنتصر عليها". أما الوسيلة الثانية فهي ترك الكلمات تلتهم نفسها، باستخدام عبارات حلزونية تلتف على ذاتها وتحاصرها، من خلال استخدام التوكيد ثم النفي السريع، مثل "ورحمة... لا ليس رحمة على المشاعر، فهي جعلتهم دائما بؤساء"، أو "اكتب فقط لكي أتسلى. أقول الكلمات لكي أتسلى (...) كذب أني الآن أتسلى. إني أتألم. من ذا الذي يمكنه أن يتسلى؟ هذا هراء". هذه الحركة الحلزونية للغة ليست حركة مقفلة، لكنها تتقدم بمشيئة المعنى الشعري، لنقل إنها حركة دفع ذاتي داخلي دائم لمناخ القصيدة، يعطيه الزخم الهجومي اللازم.
هنا لا بد من ملاحظة استمرار المعجم اللغوي الصوري، الذي رسّخه وديع سعادة في أعماله إجمالًا كصورة الأم والحبقة مثلًا، يقول في كتابه "بسبب غيمة على الأرجح" (1992): "كانتا شبيهتين: الحبقة في الركن/ وأمه". الصورة هنا تتطوّر: تبقى الأم في الزاوية، وتبحث "نقطة الماء الأخيرة التي نزلت من دلوها على الحبقة" عن ترجمتها على الورق.
رسولة الفراغ
تكاد القصيدة الأولى أن تشكّل النخاع الشوكي للكتاب، متبوعة بقصائد أخرى هي أشبه بارتدادات لها، وقصيدة أخيرة تبدو كاسترجاع للنفس المقطوع أثناء القراءة. أبعاد لا منظورة تحاول رسم ثلاثة عناصر، هي كنايات لعدمٍ واحد: الوهم، الخلود، والفراغ. وإذا كان العنصران الأولان مدعوان إلى مائدة الشاعر بعد "لَحْمِ" أضلعهما، "الوهم والخلود ضيفاي"، فإن الفراغ، سيد العالم النقيض، يكتسي وجودًا من نفي الوجود، أي أنه يحتاج إلى ضده، وإلى امتلاء سابق كي يتبلور. وهذا يبدو جليًا في قصيدة "حيرة الذاهب"، حيث يقول وديع سعادة: "ومدّ فراغًا منه إلى الوراء/ كما كان يمد يدًا، لالتقاط شيء/ مدّ تجويف نظرة/ مدّ تخيّل صوت".
يرفض وديع سعادة الثنائيات الساذجة بقوة، بل يعنّفها، من دون أن يعني ذلك تخليه عن فكرة الخالق الجدليّة والجذّابة
الفراغ، الذي بأسمائه وأضداده كافة ينتشر في الصفحات، لا يستثني العنوان، وإن كان العنوان يُغلق الكتاب بدلًا من استهلاله، تمامًا كما تقفل السدّادات المحكمة العبوات المبسترة، لنقل إنه يفصل هواء الخارج عن طريق "رتقه"، عن فراغ الداخل. ولا ينفك هذا الداخل عن بعث مفاتيح عوالمه إلى الواقع: فابنة الفراغ مثلًا عشبة صغيرة "لا يشتاق إلى البيت. لا يشتاق إلى أحد/ يريد فقط أن يعود/ ليرى العشبة". ومفتاح الفراغ مرميّ على الحافة: "كلّ الذين يريدون أن يخرجوا يضيعون/ أو ينزلقون/ في الهاوية". لكن ثمّة رسولة أو دليلة طريق، أفلتت من حارس الفضاء الشّاسع، وذهبت على هواها: "يا ريشتي الصغيرة دلّيني إلى الممر الضيق السري/ أريد أن أتبعك/ يا مربكة الفضاء وحارسه، يا ريشتي التي نفذت/ من جهة إرباك الوهم".
اقرأ/ي أيضًا: "الأركانة العالميّة للشّعر" تختار وديع سعادة
يرفض وديع سعادة الثنائيات الساذجة بقوة، بل يعنّفها، "لا أحب الملائكة ولا الشياطين"، من دون أن يعني ذلك تخليه عن فكرة الخالق الجدليّة والجذّابة: ففي حين يبشّر بثورة التفاح المحرّم: "اسمعوني يا زوّار هذه الأرض القاحلة، ازرعوا تفاحًا وكلوه كله. بذلك، ربما، قد تغيّرون مبدأ الأرض المؤسس على اليباب، ومبدأ الفضيلة المؤسس على النسك"، محذرًا "من يُبقي في أرضه بوصة بلا زرع ولا أكل، يبقي في رأسه فجوة من الدماغ الخرف"، يناجي إلهه للصمود أكثر: "يا هذياني الجميل يا إلهي، ابقَ معي. اسهر معي بعد هذه الليلة". كي يعود بعدها الى تحديه: "يا حارس الفضاء الشاسع الجهات، كم جهة يمكنك أن تحرس؟"، جاعلًا من نفسه خالقًا هو أيضًا، لكنه خالق يقوم بالنقد الذاتي: "ظلمت الموتى حين أعدت عظامهم إلى الحياة، والحياة حين أعدتها إلى الموتى". وعملية الخلق هنا لا تكتمل ما لم يكن المخلوق حرًّا لا مقيدًا، مستوفيًا شروط انتسابه إلى عالم الوهم، فتتم هذه العملية كالآتي: "أخذ من العين غبشًا/ ومن الوهم فضاء/ واخترع طيرًا/ لا يقوى أحد على مطاردته ولا/ على رؤيته".
لكن التماثل الحقيقي بين الشاعر والخالق، يتم من خلال إدراك الأوّل أن الثّاني كان يلعبُ فحسب أثناء عمليّة الخلق، ومحاولته تقليده مع بعض التعديل "البدء كان لعبة والبادئ كان لاعبًا. فلنكمل لعبته برقّة لم يكن يملكها".
غيم في المقلب الآخر
تبدو الأنا عالقة وضجرة، تمحو ملامحها عمدًا، كي تحتفظ بوجودها "نحن ذكرى أنفسنا. إننا فقط ذكرى". هذا المحو، يسمح بانتقالها إلى فردوس الوهم الخالد، بما أن الخلود نفسه ليس أكثر من "ذكرى رائحة، خيال يد في التراب". لذلك يفرّ الشاعر من المعلوم والمحسوس إلى الغائب والبعيد، مراقبًا بشغف لحظات التلاقي الوجيز بين عالمَي المحسوس واللامحسوس، مكررًا أكثر من مرة صورة الطير الذي ينقد نقدة ويطير، أو الصوت الذي يهيم في الفضاء. لا يتمنى الشاعر حياة "أكثف" من لحظات متوهّجة محتفظة ببكارتها كهذه. ولعل مناجاة الأنا للبعيد، "الجمال هو البعيد، البعيد فقط"، عائدة في الدرجة الأولى إلى ضيقها وتبرّمها من المحسوس الذي التصق بها حتى الغيبوبة: "اقتربت مني الأرض فرأيت أحشاءها. رأيت دمها وبولها وبرازها. التصقت الأرض بي فأغماني العفن".
يبدو أن الأنا المصعوقة بضوء الحقيقة المبهر، الذي سلبها مساحة الحلم أو العالم المؤسس على إلغاء عالم اليقظة، محاصرة بشدة، بل تنازع من زحف الواقع الحثيث: "أمشي بلا وهم. محاط بالحقيقة من كل جانب، فمن يقوى على تحمّل هذا؟". الضيق، الذي تسبّبت به استطالة الأرض، يدفع الشاعر الى الصلاة: "فلتعد مستديرة لعلّي أتوهم بعد شيئًا جميلًا في مقلبها لا أراه".
هذا العداء لكل ما هو واقعي يستند إلى حقيقة عامة: الحواس تقتل ما تدركه. هكذا يبرر الكاتب هروبه: "ليس العمى هو المتاهة بل الرؤية. الرؤية يا بورخيس، الرؤية (...) الأشياء ضحايا النظرات يا بورخيس. رأيت كثيرًا فقتلت كثيرًا وقُتلت كثيرًا".
امّحاء الأنا لا يعني أنها غير قوية، بل إنها حاضرة ومحورية، وتفرض على الآخرين أن يشبهوها كي تدخل في تماسٍ معهم
امّحاء الأنا لا يعني أنها غير قوية، بل إنها حاضرة ومحورية، وتفرض على الآخرين أن يشبهوها كي تدخل في تماسٍ معهم، وأن يتخففوا تاليًا، من المادة المُقيّدة. هكذا تظل العلاقة بالآخرين متوترة ما لم ينجزوا خلع أجسادهم وصلات الرحم والقربى.
اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الشعرية الكاملة لبسام حجّار.. كلمات صاحبها الأسى
مضنية هي رحلة التسلّق والهبوط والتسرّب إلى دنيا الروح، التي هامت طويلًا لتعود في القصيدة الأخيرة، "على حجر"، مرتاحةً في جسدها. وإذا صح أن عنوان الكتاب كناية عن فصل النص عن هواء الخارج، فإن القصيدة الأخيرة تضطلع بالدور نفسه، وإن بطريقة تواصلية أكثر، بمعنى أن هذا الإقفال يبدو أكثر تسامحًا.
هكذا، يعود الشاعر من "كون يرتّبه ويسمعه ويراه عدمُ وجوده"، إلى الحياة الحقيقية، التي فيها شجرة ونملة وصوت جار، معلنًا: "لا كنت هناك، ولا عدت". إنها نهاية رحلة المخيّلة إذًا: على حجر في حديقة لم تبارحها. أي على جسم مادي محسوس، وفي مكان واقعي. ليس ذلك فحسب، بل أن الشاعر يعتذر لهذه الحياة "الحقيقية" البسيطة، متطهّرًا من أحلامه الغاشمة: "النافذة التي اعتقدتها تطل على كون جديد، كانت شق جدار في ذاكرتي". ويصل به الأمر إلى نفي وجود أي عالم آخر: "لا كونٌ جديد. كل الأكوان الجديدة رصف أحجار من الذاكرة. فقط هذه الأرض العتيقة، وأريد أن أعود إليها".
لا بد للشاعر في النهاية من الاعتراف بجريمة ما: "الأحلام تقتل الحدائق، تقتل الأحجار والجالسين عليها". هكذا فقط وربّما لأنها هذه الأرض العتيقة.
اقرأ/ي أيضًا: