ليس جورج أورويل، صاحب مواقف نظرية وسياسية متسقة وواحدة، ولم يكن دائمًا متشائمًا كما كان في روايته الأكثر شهرة "1984"، فقد تحرك الروائي المعروف بخفة بين الأوتوبيا والديستوبيا في رواياته أو في نشاطه السياسي، وبين التعويل على الطبقة العمالية، والشعور بالإحباط منها، وتحميلها مسؤولية ما يقع لها. كانت حياته غنية بكثير من التحولات على صعيد الآراء والمواقف السياسية. قاتل ضد الفاشية في الحرب الإسبانية، وعادى الستالينية، وكان مهووسًا بالحديث عن سلطة الطبقة العمالية والانتصار الحتمي على الرأسمالية، ومع ذلك، وقف آخر الأمر مع الولايات المتحدة في الحرب الباردة ضد المعسكر السوفياتي، بينما يُرجح أنه لعب دورًا، خاصة مع رواية 1984، في الدعاية الغربية ضد الاشتراكية. تركز السيرة المعروفة لأورويل على هذا الجزء الأخير، لكن حياته كانت حافلة بأفكار أخرى.
كان جورج أورويل واحدًا من أكثر الكتاب تأثيرًا في القرن العشرين، إلا أن القليل فقط يُعرف عن كتاباته وسياساته الاشتراكية
في هذه المراجعة الموسعة التي كتبها صمويل فاربر لكتاب "الأمل يكمن في الطبقة الكادحة: جورج أورويل واليسار"، لجون نيوسنغر، إطلالة على الشق المرتبط بمناصرة الطبقة العمالية والاشتراكية في حياة الروائي المشهور.
كان جورج أورويل واحدًا من أكثر الكتاب تأثيرًا في القرن العشرين. وبينما يمجده الكثير من اليمينيين وينتقده الكثير من اليساريين، إلا أن القليل فقط يُعرف نسبيًا عن كتاباته وسياساته الاشتراكية.
في كتابه "الأمل يكمن في الطبقة الكادحة: جورج أورويل واليسار" Hope Lies in the Proles George Orwell and the Left، يقدم الباحث الاشتراكي جون نيوسنغر لمحة عامة عن عمل جورج أورويل ومساره السياسي. وإدراكًا منه للصعوبات السياسية التي فرضها أورويل مع الجماهير اليسارية - مثل دعمه للحرب الباردة - يواجه نيوسنغر مهمته بشجاعة سياسية، ويقدم لنا الكاتب الإنجليزي بكل تفاصيله وعيوبه.
بالنسبة إلى نيوسنغر، كان جورج أورويل، حتى وفاته، اشتراكيًا ديمقراطيًا ينتمى بعمق إلى الطبقة العاملة، التي اعتبرها العامل في التحول الاشتراكي. وحتى في أكثر لحظاته تشاؤمًا، رأى في الطبقة العاملة الاحتمالية الوحيدة للبشرية، باعتبارها الطبقة التي ستحقق أكبر استفادة من إعادة بناء المجتمع. وفقًا لنيوسنغر، يمكن تفسير أعمال جورج أورويل وسياساته من خلال معرفة نجاحات وإخفاقات نضال الطبقة العاملة في عصره.
في رصيف ويغان
ظهر كل هذا للنور في كتاب جورج أورويل "الطريق إلى رصيف ويغان The Road to Wigan Pier" الذي صدر عام 1937، وهو سرد للحياة في مجتمع الطبقة العاملة في شمال غرب إنجلترا. ووفقًا لما ذكره نيوسنغر، فقد كتبه جورج أورويل كعمل سياسي يُظهر أنه على الرغم من تعافي الاقتصاد البريطاني وخروجه من أعماق الكساد، إلا أن البطالة في شمال إنجلترا، بكل ما تحمله من بؤس، ما زالت منتشرة. وركز على عمال المناجم في المنطقة، الذين بدأوا فقط في التعافي من فشل الإضراب العام لعام 1926، واستنكروا ظروف عملهم الخطيرة وما صاحب ذلك من خسائر سنوية من الحوادث والوفيات.
لكن يرى نيوسينغر أن تعاطف جورج أورويل الواضح وارتباطه بعمال المناجم في "رصيف ويغان" كان يشوبه التشكيك في إمكانياتهم السياسية، ويرجع ذلك إلى خيبة الأمل لغياب أي إشارة لثورة وشيكة. يقول نيوسنغر، هنا طرح أورويل للمرة الأولى السؤال الذي حفز الكثير من حياته المستقبلية ككاتب سياسي: لماذا لا يتمرد العاطلون والأقل أجرًا في ظروف مثل تلك الموجودة بين عمال المناجم في شمال غرب إنجلترا؟
كان جورج أورويل، حتى وفاته، اشتراكيًا ديمقراطيًا ينتمى بشدة إلى الطبقة العاملة، التي اعتبرها العامل في التحول الاشتراكي.
في حالة "رصيف ويغان"، اعتبر جورج أورويل أنه كان من الممكن قمع التمرد هناك، وكذلك أي تمرد في بريطانيا في ذلك الوقت، عن طريق "المذابح العقيمة ونظام القمع الوحشي". ولكنه يُرجع غياب روح التمرد بين العمال ضد إدماجهم في أشكال الاستهلاك الجديدة التي تلت ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، إلى توافر "الكماليات الرخيصة"، مثل السمك والرقائق والجوارب الحريرية الملونة والسلمون المعلب والشوكولاتة الرخيصة والأفلام والراديو والشاي الثقيل وملاعب كرة القدم، كمصادر للارتياح اللحظي.
ربما كانت لدى جورج أورويل وجهة نظر منطقية في ذلك. ومع ذلك، فإن تحليله كان محدودًا بسبب عدم وجود منظور تاريخي شامل لإيجابيات وسلبيات وتعقيدات الوعي لدى الطبقة العاملة. لقد أخفق في التعرف على كيفية تأثر هذا الوعي في بريطانيا وأماكن أخرى بالحرب، والوطنية، والكساد الاقتصادي، والنزعة المحافظة لكل من النقابات العمالية والبيروقراطيات الاشتراكية.
وألقى "أورويل" باللوم أيضًا، في الجزء الثاني من "الطريق إلى رصيف ويجان The Road to Wigan Pier"، على ما وصفه بـ "يسار الطبقة الوسطى"، و"اليساريين الذين يمتنعون سرًا عن الكحول ولديهم ميول نباتية"، والذين، بحسب قوله، قاموا بإبعاد الطبقة العاملة، وجذبوا جميع أنواع المهاويس، ولأن جورج أورويل يعكس تحيزاته الخاصة، فقد وضع قائمة عشوائية بأنواع مختلفة تمامًا من الناس مثل "شارب عصير الفاكهة، والمتعري، ومرتدي الصنادل، والمهووس بالجنس، وأعضاء جمعية الأصدقاء الدينية Quaker، ودجال المداواة الطبيعية، والسلمي، والنسوي".
يعتقد نيوسنجر أن جورج أورويل كان يجب أن يركز بدلًا من ذلك على معنويات الطبقة العاملة الناجمة عن الخيانة الواسعة لحكومة حزب العمال في 1929-1931، عندما انشق زعيم حزب العمال السابق رامزي ماكدونالد وانضم إلى المحافظين من أجل قيادة حكومة وطنية رجعية، حيث قام بتطبيق تخفيضات الإنفاق الضخمة التي تسببت في مشقة كبيرة بالنسبة للملايين من الطبقة العاملة.
يجب أن أعترف أنه عندما قرأت "الطريق إلى رصيف ويغان The Road to Wigan Pier" للمرة الأولى كجزء من تعليمي الاشتراكي المبكر، كنت متعاطفًا بشدة مع انتقادات جورج أورويل "ليسار الطبقة المتوسطة". وحيث أنني من دولة - كوبا ما قبل الثورة - لا تظهر فيها الاختلافات السياسية من خلال التعابير الثقافية وأسلوب الحياة، فلم أتمكن من فهم السبب في أن قطاعات اليسار في الولايات المتحدة وإنجلترا تريد أن تزيد من عزلتها وهامشيتها عن بقية المجتمع من خلال تبني أنماط حياة مختلفة بشكل واضح.
في وقت لاحق، تعلمت عن السياسة الثقافية والدور البناء الذي لعبته أحيانًا في الحركات والسياسات اليسارية. فعلى سبيل المثال، اختلقت العديد من الحركات الشيوعية والديمقراطية الاجتماعية الأوروبية عوالم اجتماعية بديلة. مثل هذه العوالم الاجتماعية لا يمكن إلغاؤها بالكامل. لكني ما زلت حذرًا من أي محاولة لتحديد اليسار بأسلوب حياة ثقافي معين. إذ يؤدي نهج التيارات اليسارية في ما بعد الستينيات، مع التزامهم بـ "الثقافة المضادة" إلى عزل ذاتي ثقافي في أفضل الأحوال، أو الطائفية والنخبوية في أسوأ الأحوال.
إن برنامج اليسار الذي يهدف إلى الوصول إلى السلطة لإحداث تغيير كبير، يتمثل في تحرير الطبقات والمجموعات والأفراد من الاستغلال والقمع القائم على أساس الطبقة أو العرق أو الجنس أو الأصل القومي، ولا يتعلق بدعم أنماط حياة معينة.
إن أنماط الحياة البديلة بحد ذاتها لا تتحدى النظام بالضرورة. ومن الأمثلة على ذلك الظاهرة البوهيمية التي تطورت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حيث تسمح الوفرة النسبية، على الأقل بالمقارنة مع البلدان الأقل نموًا، بإنشاء مساحات لأنماط الحياة البديلة.
كما يشير المؤرخ غيرولد سيغل في كتابه "البوهيمية الباريسية: الثقافة، والسياسة، وحدود الحياة البرجوازية"، (Bohemian Paris: Culture, Politics and the Boundaries of Bourgeois Life 1830-1930)، تطورت البوهيمية الباريسية جرّاء الحاجة العامة إلى إطلاق العواطف والمشاعر المكبوتة في الحياة البرجوازية اليومية. قامت مملكة بوهيميا في أطراف المجتمع، غالبًا في ظروف الفقر التي تمنعها من النجاة من تهديد البقاء المادي.
لكن، كما يشير سيغل، لم تمثل هذه الظروف أبدًا تهديدًا للبرجوازية والرأسمالية. بل إنها تطورت بسبب فجوات هذا النظام. ومن المثير للاهتمام أنه في أغلب مناطق أمريكا اللاتينية الأقل نموًا اقتصاديًا، تشير "الحياة البوهيمية" إلى الأشخاص الذين يتمتعون بقضاء حياتهم الاجتماعية في وقت متأخر من الليل في الحانات والمقاهي والنوادي الليلية، وذلك بسبب جداول العمل والفراغ غير معتادة. لا يعني ذلك أي نقد للمعايير الاجتماعية البرجوازية بحد ذاتها.
الطبقة العاملة الإسبانية في القتال
بينما رأى جورج أورويل في "الطريق إلى رصيف ويغان" أن الطبقة العاملة الإنجليزية المهزومة ما زالت في موقع دفاعي، وجد عند وصوله إلى برشلونة بعد ذلك بوقت قصير خلال الحرب الأهلية الإسبانية، "مدينة" كما وصفها في كتابه "الحنين إلى كاتالونيا"، "حيث كانت الطبقة العاملة على صهوات الجياد". كان وضعًا ثوريًا حيث "استولى العمال عمليًا على كل مبنى من أي حجم ورُفعت عليه الأعلام الحمراء أو العلم الأحمر والأسود للأناركيين (الفوضويين). نُقش على جميع المتاجر والمقاهى مما يدل على الاستيلاء عليها، كما تم تجميع ماسحي الأحذية وطُليت صناديقهم باللون الأحمر والأسود. كانت عبارة عن مدينة انقطعت فيها الطبقات الغنية عمليًا عن الوجود".
ا
انضم جورج أورويل في برشلونة إلى حزب العمال الماركسي المتحد (POUM)، الذي كان بجانب الفوضويين، بمثابة أكبر قوة يسارية في معسكر الجمهوريين. لقد كانوا يقاتلون ضد الانتفاضة العسكرية الفرانكوية في عام 1936، التي جلبت الفاشية الإسبانية الفلانخية والتيار اليميني التقليدي الديني والملكي معًا لوضع انقلاب عسكري ضد الحكومة الجمهورية المنتخبة.
كان المعسكر الجمهوري منقسمًا بصورة كبيرة. من جهة، أيد الأناركيون وحزب العمال للتوحيد الماركسي شبه التروتسكي، الثورة الاجتماعية التي نظمها العمال الحضريون، والحرفيون، والمزارعون بعد وقت قصير من إعلان الجمهورية في عام 1931. وعلى الجانب الآخر كان الليبراليون والديمقراطيون الاجتماعيون، ولا سيما الشيوعيين الإسبان، الذين اتبعوا سياسات الجبهة الشعبية لستالين - وبمساعدة ودعم مادي كبير من الاتحاد السوفييتي - واتفقوا على أن تتخلى الجمهورية عن الثورة الاجتماعية. لقد اعتقدوا أنه يجب أن تقتصر الجمهورية على الدفاع عن الديمقراطية السياسية ضد الفاشية، لتجنب استبعاد الطبقات المتوسطة الإسبانية والحلفاء الدوليين المحتملين مثل فرنسا والمملكة المتحدة.
انضم أورويل في برشلونة إلى حزب العمال الماركسي المتحد (POUM)، الذي كان بجانب الفوضويين، بمثابة أكبر قوة يسارية في معسكر الجمهوريين
انحاز نيوسينغر لحزب العمال للتوحيد الماركسي والفوضويين، أن سياسة الجبهة الشعبية فشلت فعليًا، وذلك بسبب عدم قيام بريطانيا وفرنسا مع حكومة الجبهة الشعبية، بفعل أي شيء لمساعدة الجمهورية الإسبانية، وبالتالي مكّنوا من هزيمتها. بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى أن الثورة الاجتماعية التي عارضتها الجبهة الشعبية كانت صراعًا قائمًا بالفعل، وكان الأناركيون وحزب العمال الماركسي يريدون دعمه وقيادته، وليس اختراعًا لدعايتهم.
على نحو مماثل، يجادل نيوسينغر بأن استراتيجية حزب العمال الماركسي لاستكمال الثورة وتشجيع التمرد في المستعمرات الإسبانية التي تسيطر عليها القوات العسكرية، والتي كانت بمثابة القاعدة التي غزت بها قوات فرانكو إسبانيا عام 1936، كانت خيارًا سياسيًا قابل للتطبيق لا يمكن رفضه واستبعاده.
تركت تجربة الحرب الأهلية الإسبانية علامة لا تُمحى على سياسة جورج أورويل ونقلته بوضوح إلى اليسار. إن مشاركته في التمرد العمالي والشعبي في برشلونة كعضو في ميليشيا حزب العمال الماركسي الخالي من الانقسامات الطبقية في صفوفه، أعطته، كما وصف نيوسينغر، "لمحة" عن المجتمع الاشتراكي المتكافئ الذي آمن به. وأكدت هذه التجربة للمرة الثانية على توجه أورويل للطبقة العاملة والتعرف على الفقراء.
كما عاود جورج أورويل التأكيد على معاداته للستالينية بعد تدخل الزعيم السوفييتي لصالح الجمهوريين مكرسًا مفوضيه السياسيين وأجهزة الاستخبارات في العمل على بناء السجون واغتيال المعارضين اليساريين مثل زعيم حزب العمال للتوحيد الماركسي أندريه نين. وكان أورويل في الأصل قد طور معاداته للستالينية أثناء وجوده في حزب العمال البريطاني المستقل (ILP)، وهو حزب صغير ولكن مهم للغاية على يسار حزب العمل. كما أعادت الحرب الأهلية الإسبانية التأكيد على السياسات المناهضة للإمبريالية وتعزيز التضامن مع "الطبقة العاملة من ذوي البشرة الملونة (غير البيض)" والتي طورها استنادًا على خبرته كشرطي إمبريالي في بورما الواقعة تحت سيطرة بريطانيا حينها.
وكما قال جورج أورويل بعد عودته من إسبانيا، كان من المهم أن نضع في الاعتبار أن "الجزء الأكبر من البروليتاريا (طبقة العمال) البريطانية لا تعيش في بريطانيا، بل في آسيا وأفريقيا"، مشيرًا بذلك لاستغلال بريطانيا المطلق للهند، والذي كان يمثل "النظام القائم الذي نحيا به جميعًا".
لكن يشير نيوسنغر إلى أن جورج أورويل لم يتبنَّ الماركسية الثورية أبدًا، حتى وإن كان قد توصل، في عديد من المناسبات مثل حالة إسبانيا، إلى استنتاجات عملية تتفق مع هذا الاتجاه مثل أهمية الثورة. ووفقًا لنيوسنغر، فقد تأثرت التركيبة السياسية لأورويل بحزب العمال البريطاني المستقل، والذي انضم إليه في الثلاثينات مع العديد من اليساريين الآخرين الذين رفضوا خيانة حزب العمال للطبقة العاملة.
تركت تجربة الحرب الأهلية الإسبانية علامة لا تُمحى على سياسة جورج أورويل ونقلته بوضوح إلى اليسار
وبتوجيهات من الحزب، انضم جورج أورويل لمليشيات حزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM) عندما ذهب لإسبانيا للقتال ضد فرانكو. اقترح حزب العمال البريطاني المستقل، والذي حقق نفوذًا وتمثيلًا عاليًا في البرلمان في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، طريقًا برلمانيًا نحو الاشتراكية. وعلى هذا الأساس، أيد أورويل فكرة الوصول للاشتراكية عبر الأغلبية في البرلمان، ولكن في ضوء تواجد المقاومة الحتمية المسلحة المتمثلة في الرأسمالية وأنصارها، سيتعين على الأغلبية في البرلمان اتخاذ كل التدابير اللازمة لدحر تلك المقاومة.
خيبة أمل أورويل
كانت هزيمة الجانب الجمهوري في الحرب الأهلية وبداية الحرب العالمية الثانية بمثابة علامة على بدء انخفاض توقعات جورج أورويل للقدرة الثورية للطبقة العاملة.
يقتبس نيوسنغر إصراره، في عام 1942، على "الطبيعة الأساسية" للعمال. وفي محاولة للتمسك بإيمانه بقوة الطبقة العاملة، خلال أوائل الأربعينات، يرى جورج أورويل أنه على المدى الطويل، سيؤول الأمر في نهاية المطاف للطبقة العاملة للكفاح من أجل عالم أفضل. كتب جورج أورويل "إن نضال الطبقة العاملة يشبه النبات في نموه، فالنبات غبي وأعمى، لكنه يدرك أن عليه المواصلة بارتقائه نحو النور، وسيفعل ذلك حتى في مواجهة الإحباط اللا متناهي".
وحتى بعد سنوات من ذلك، أصر أورويل من خلال روايته الديستوبية (1984)، متحدثًا عبر شخصية وينستون سميث التي كانت تعكس العديد من أفكاره، أن الـ "البرلس - prols" (تُمثل الطبقة العاملة في الرواية) هم من لديهم القدرة على نسف الحزب الحاكم الشمولي. ولكن كانت المعضلة، كما كتب في الرواية، في أنهم لن يتمكنوا من التمرد إلا إذا أدركوا قوتهم، ولن يدركوا قوتهم إلا إذا تمردوا.
أدى قلق أورويل المستمر بخصوص قوة الطبقة في بداية الحرب إلى النظر في نمو "الطبقة المتوسطة" في البلدان المتقدمة اقتصاديًا كبريطانيا، وكيف تتناسب مع نضال الطبقة العاملة. وهو ما نشره عام 1941 في مقال له بعنوان "الأسد وأحادي القرن"، حيث دعا لتشكيل حزب اشتراكي جديد نظرًا لعدم قدرة حزب العمال البريطاني المستقل (ILP) على أن يصبح حزبًا رئيسيًا.
اعتمد ثِقل الحزب بالأساس على النقابات التجارية، ولكنه استمال أيضًا من وصفهم بالطبقة الوسطى المتنامية: عمال مهرة، خبراء فنيون، طيارون، علماء، مهندسون، معماريون، وأخيرًا الصحفيون؛ وهم الأشخاص الذين سيصبح معظمهم "دماغ الحزب الموجهة". وشملت ما يسميها جورج أورويل "الطبقة الوسطى التقنية الجديدة" على ما يعتبره الماركسيون قطاعات رئيسية للطبقة العاملة مثل العمال المهرة. واعتبر أورويل دعمهم حاسمًا لنصرة القضية الاشتراكية.
ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، وبّخ جورج أورويل المُحبَط العمال أنفسهم بسبب الهزائم التي عانت منها الحركات العمالية في جميع أنحاء العالم منذ الثورة الروسية، ويؤمن جورج أورويل أن هذه الخسائر كانت بسبب العمال أنفسهم. وفي بلد تلو الآخر، سُحقت الحركات المنظمة للطبقة العاملة بعنف، بينما كان يقف العمال في الدول الأخرى موقف المتفرج دون فعل أي شيء. أما بالنسبة للطبقة العاملة في بريطانيا، يرى أورويل أن المجازر التي تعرض لها رفاقهم في فيينا وبرلين ومدريد قد بدت أقل أهمية في نظرهم من "مباراة الأمس لكرة القدم". أما الأمر الأكثر تخييبًا للآمال في نظره هو الافتقار التام من جانب العمال الإنجليز للتضامن مع العمال "ذوي البشرة الملونة" في المستعمرات.
قرر جورج أورويل دعم الحرب والتركيز على محاربة الفاشية، مبتعدًا بذلك عن المنظور الثوري الذي اكتسبه في برشلونة ومعلنًا أنه "منظور مبالغ فيه". انتهى الأمر بأورويل باستنتاجات جديدة مبنية على الاعتراف بضعف اليسار في بريطانيا داخل معسكر مناهضة الفاشية، بجانب حقيقة أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قد أنقذوا بريطانيا من الهزيمة. ثم قرر الانضمام إلى معسكر اليسار من حزب العمل، والذي اعتبره أفضل ما يمكن توقعه ضمن علاقات القوى القائمة في بريطانيا. وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 1943، أصبح محررًا أدبيًا لصحيفة حزب العمل اليسارية (تريبيون - Tribune).
ومع عدم استعداده للتخلي عن الطبقة العاملة، استمر في الانخراط، كما ذكر نيوسنغر، مع أفكار اشتراكية أكثر راديكالية. على سبيل المثال، في مجلة Partisan Review الأمريكية انتقد ضعف حكومة حزب العمل برئاسة كليمنت أتلي في مواجهة الرأسمالية، وتمنى بأسى لو أن حكومة حزب العمال تستطيع الانتصار على الطبقة الرأسمالية في المستقبل.
ومع ذلك، قال نيوسنغر متحسرًأ إن جورج أورويل لم يكن قادرًا على الهروب من منطق الدفاع عن الوضع القائم لحركة اليسار. وفي التريبيون، ساير زعيم حزب العمل اليساري أنورين بيفان، وحث على استخدام القوة لكسر إضراب سائقي الحافلات حتى يتمكن عمال المناجم من الذهاب إلى العمل. وأثناء الأزمة الاقتصادية في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، تمسك تمامًا بخط التقشف الحكومي. وكما يخبرنا نيوسنغر، بمجرد أن احتضن حزب العمال بشكل كامل قرار "إدارة الرأسمالية بدلًا من إلغائها"، لم يكن جورج أورويل قادرًا على مقاومة الضغوط ليتماشى مع سياساته.
بعد الحرب فقط عاد أورويل إلى الاشتراكية وإلى آماله في إنشاء مجتمع لا طبقي. فعل ذلك من خلال الدعوة في التريبيون لفكرة الفيدرالية الاشتراكية في أوروبا. لقد اعتقد جورج أورويل بسذاجة أن الولايات المتحدة، التي رآها أفضل من الاتحاد السوفييتي بسبب نظامها السياسي الديمقراطي، ستدعم تلك الفكرة.
عندما اندلعت الحرب الباردة بين الكتلة السوفيتية والقوى الغربية في أواخر الأربعينات من القرن العشرين، أظهر جورج أورويل دعمًا للغرب باعتباره أقل الشرور
تناقض جورج أورويل مع تفاؤله بشأن الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، حيث كتب في Partisan Review أن الولايات المتحدة تقف عقبة أمام الاشتراكية، وأن وضع الاشتراكيين كان ميؤوسًا منه. بالنسبة لنيوسنغر، كانت هذه النظرة التشاؤمية هي التي ميزت جورج أورويل الذي عانى من خيبة أمل في الطبقة العاملة.
السنوات اللاحقة
عندما اندلعت الحرب الباردة بين الكتلة السوفيتية والقوى الغربية في أواخر الأربعينات من القرن العشرين، أظهر جورج أورويل - مثل الكاتب الأمريكي اليساري دوايت ماكدونالد، الذي تحدث معه على نطاق واسع - دعمًا للغرب باعتباره أقل الشرور. وكما يشرح نيوسنغر، فإنه على الرغم من فظائع النظام الرأسمالي الذي تعرض له بشدة في كتاباته، كان يراه ديمقراطيًا سياسيًا، على النقيض من الستالينية.
ولكني أعتقد أيضًا أن براغماتية "أورويل"، وحساسيته تجاه المنظور السياسي طويل الأمد، لم تكن تسمح له بالتفكير في موقف "المعسكر الثالث" أي "لا واشنطن ولا موسكو"، والذي كان موجودًا بالفعل ولكنه كان ضعيفًا من الناحية السياسية والتنظيمية.
إن العملان الأكثر أهمية له في سنواته الأخيرة - "مزرعة الحيوانات" (1944) و"1984" (1949) - يجب فهمهما في سياق معارضته المتنامية للستالينية، التي نمت لتصبح مصدر قلق عام مع الشمولية. ظل جورج أورويل متمسكًا بمنظور اشتراكي في "مزرعة الحيوانات". فقد افترض فيها بوضوح وجود جناح يساري، إن لم يكن بديلًا ثوريًا صريحًا للوضع الرأسمالي الراهن. وأصبح منظوره الاشتراكي ضعيفًا في رواية "1984"، حيث كان بديل الطبقة العاملة أملًا بعيدًا.
تم استغلال هذه الكتب من قبل القوى الغربية في صراعها الإمبراطوري مع الاتحاد السوفييتي والشيوعية الدولية. كتب نيوسنغر عن مطالبة وكالة المخابرات الأمريكية بمراجعة فيلم "مزرعة الحيوانات" البريطاني، الذي كانت الوكالة قد مولته، مما أدى إلى إلغاء مشاهد الاحتجاجات الجماعية الراديكالية من الكتاب.
لكن هذا التلاعب لم يكن مفاجئًا لأورويل. فقد شارك عن علم في جهود الدعاية الغربية للحرب الباردة.
في عام 1948، أنشأت حكومة كليمنت أتلي العمالية إدارة أبحاث المعلومات البريطانية (IRD) لمواجهة الدعاية الشيوعية في المملكة المتحدة والإمبراطورية البريطانية. وكما يروي نيوسنغر في تقريره المفصل بدقة عن تعاون جورج أورويل في حقبة الحرب الباردة، وافق جورج أورويل على استخدام كتاباته من قبل إدارة أبحاث المعلومات للدعاية المضادة للشيوعية. ربما كان قد تم حثه للعمل مع إدارة أبحاث المعلومات لأن برنامج الوكالة طرح الديمقراطية الاجتماعية، كما تجسد في حزب العمل، كبديل إيجابي للشيوعية.
وفقًا لنيوسنغر، أصبح جورج أورويل "قلقًا للغاية" بعد نشر رواية "1984"، وهي الأكثر تأثيرًا من بين أعماله، كما كتب إلى ناشره فريدريك فاربورغ عن التلاعب السياسي بتلك الرواية.
من خلال وكيله الأدبي ليونارد مور، في 22 يوليو/ تموز 1949، كتب جورج أورويل إلى اتحاد عمال صناعة السيارات (UAW) وإلى جريدة الحزب الاشتراكي الأمريكي (Socialist Call) قائلًا بوضوح إن رواية 1984 "لم يقصد بها الهجوم على الاشتراكية". بل كان يقصد بها، كما قال أورويل، فضح "انحرافات الاقتصاد المركزي، والتي تم تحقيقها جزئيًا في الشيوعية والفاشية". الرواية تعارض "الأفكار الشمولية" وتدور أحداثها في إنجلترا لإظهار أن البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية لم تكن في مأمن من هذا الخطر.
كان الجزء الأسوأ من تعاون جورج أورويل في الحرب الباردة هو تسليمه أسماء أنصار الشيوعيين والمتعاطفين المعروفين والمشتبه في تعاطفهم إلى إدارة أبحاث المعلومات. عندما بدأ أورويل بالعمل مع إدارة أبحاث المعلومات، كانت تلك الوكالة تحاول تجنيد اليساريين المعارضين للستالينية. رشح جورج أورويل أشخاصًا مثل فرانز بوركينو، وهو كاتب يساري معروف في ذلك الوقت من مناهضي الستالينية. كما قام بتزويد إدارة أبحاث المعلومات في 2 مايو/ أيار 1949 بقائمة بأسماء أشخاص اعتبرهم غير موثوقين بحيث لا يتم تعيينهم، لأنهم، في رأيه، كانوا من المدافعين عن الاتحاد السوفييتي. وقد استخرج هذه الأسماء من قائمة أكبر بكثير تضم "المسافرين الآخرين" التي قام هو وزميله بتجميعها لمعلوماتهم الخاصة.
كان الجزء الأسوأ من تعاون جورج أورويل في الحرب الباردة هو تسليمه أسماء أنصار الشيوعيين والمتعاطفين المعروفين والمشتبه في تعاطفهم إلى إدارة أبحاث المعلومات
من الواضح أن نيوسنغر يرى أن سلوك جورج أورويل لا يمكن تبريره. ومع ذلك، فهو يسعى إلى فهم أفضل لأفعال المؤلف. يشير نيوسينغر إلى أنه لا يوجد دليل موثوق على أن القائمة أضرت على الإطلاق بفرص العمل لأي فرد معين خارج إدارة أبحاث المعلومات (أما بالنسبة لعملهم داخل إدارة أبحاث المعلومات، فإنه من غير المرجح أن تقوم الوكالة على أي حال بتوظيف أي شخص أعرب عن أي تعاطف مع الشيوعية). الأهم من ذلك، يضيف نيوسنغر، في الوقت نفسه الذي كان فيه جورج أورويل يسلم قائمته إلى إدارة أبحاث المعلومات، شارك بنشاط في معارضة أي مطاردة مكارثية للشيوعيين، وتقليص حرياتهم المدنية.
مع إدراكه لموقف العديد من اليساريين الغامض تجاه الشيوعية، فصل نيوسنغر بين نقده لأورويل ونقد اليساريين الذين كانت أجندتهم المعروفة هي تقويض مصداقية جورج أورويل كمعارض للستالينية، لأنهم كانوا يؤيدون الكتلة السوفييتية باعتبارها "اشتراكية" أو على الأقل تقدمية. يقول إن هؤلاء الأشخاص هم من النوع غير الراغب في التحدث نيابة عن ضحايا الستالينية، أولًا خوفًا من خسارة حليف مناهض للنازية، وثانيًا لتجنب أن يصفهم اليساريون الآخرون بأنهم دعموا الغرب في الحرب الباردة.
في هجومهم على جورج أورويل، يجادل نيوسنغر بأنهم تجاهلوا حقيقة أن معارضة جورج أورويل اضطهاد الشيوعيين في بريطانيا كانت دعمًا للحريات المدنية للأشخاص "الذين كانوا سيبتهجوا لو أنه اعتقل، وأُجبر على الاعتراف بأي وسيلة، وقدم للمحاكمة وأعدم رميًا بالرصاص".
من المفيد أيضًا التفكير في مدى ارتباط تعاون جورج أورويل مع الجهات الحكومية بتشاؤمه السياسي فيما يتعلق بإمكانية حدوث تغيير اشتراكي أو حتى تقدمي. كما يتضح من رواية نيوسينغر، لم يكن دعم أورويل لحزب العمل، حتى بالنسبة لجناح التريبيون اليساري، متناسبًا من حيث النوعية والكثافة مع دعمه السابق لحزب العمل المستقل، وحتى أقل من ذلك بالنسبة للطبقة العاملة الإسبانية في الثلاثينات. ربما أثار فيه تشاؤمه، والمرارة التي أثارتها هجمات الشيوعية المنظمة ضده، درجة من رهاب الستالينية الخارج عن إرادة انضباطه السياسي الداخلي. ولم يكن لديه نظرة إيجابية تجاه المستقبل تنقذه من رد الفعل هذا.
إن تعاون جورج أورويل المتأخر مع جهاز الدعاية للإمبريالية الغربية هو أمر مؤسف ومحزن ولا يمكن تبريره. ومع ذلك، كان هناك شيء ما جعله مختلفًا عن أيديولوجيي الحرب الباردة الليبراليين مثل سيدني هوك، وآرثر شليزنغر الابن، والمثقفين المنتمين للمنظمة الليبرالية "أمريكيون مع العمل الديمقراطي". ربما يكون قد تخلى عن إمكانية قيام ثورة عمالية، واستقر بدلًا من ذلك في يد يسار التريبيون في حزب العمال، ولكن على خلاف المعتدلين التقليديين، لم يشارك أبدًا في الإجماع الموالي للرأسمالية المتنامي في سنوات ما بعد الحرب.
إن تعاون جورج أورويل المتأخر مع جهاز الدعاية للإمبريالية الغربية هو أمر مؤسف ولا يمكن تبريره، مع ذلك، كان هناك شيء ما جعله مختلفًا عن أيديولوجيي الحرب الباردة
وكما يجادل نيوسنغر، فقد اعتقد خطأ أن دعمه ومشاركته في مؤسسات الحرب الباردة مثل إدارة أبحاث المعلومات البريطانية هو حماية لاحتمال قيام الاشتراكية الديمقراطية، بدلًا من الرأسمالية، ضد الاتحاد السوفيتي وأنصاره. وعلى الرغم من خيبة أمله في الطبقة العاملة كعامل محدث للتغيير، إلا أنه ظل مخلصًا لحقيقة أن "الأمل يكمن في الطبقات العاملة"، حتى في روايته "1984" التي تنتمي إلى أدب الديستوبيا.
نعم، أيد جورج أورويل الحرب الباردة وتأديب حزب العمال للطبقة العاملة من أجل الاستقرار الاقتصادي للرأسمالية. لكنه ألهم الكثيرين، كما قال نيوسنغر، "من خلال دعمه وانخراطه في ثورة العمال، ومن خلال حمل السلاح ضد الفاشية ومعارضته للستالينية.. ما كان مهمًا هو أن الطريقة التي تحدثت بها كتاباته من ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين إليّ وإلى الآخرين لا تزال وثيقة الصلة بمخاوفنا في العصر الحالي".