هنا ترجمة مقتطفات من حوار منسيّ مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، نشر مؤخرًا للمرّة الأولى على موقع مجلة "لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس". أجرى الحوار مع بورخيس أثناء إقامته في الولايات المتحدة بداية الثمانينات كلّ من الروائي الأمريكي مارك تشايلدريس1، وصديقه الكاتب تشارلز ماكنير.
حين التقيت أنا وصديقي تشارلز ماكنير بالكاتب الأرجنتيني الأثير خورخي لويس بورخيس في نيو أورلينز، كان قد طعن سنتين أخريين في عقد عمره الثامن. كنّا نحن كاتبين ناشئين، تُسكرنا روايات الواقعية السحرية القادمة من أمريكا اللاتينية. وكانت حكايات بورخيس، مثل "حديقة الطرق المتشعبة"، أو "طلين، أوقبار أوربيس تيرتيوس"، بمثابة حبّات الزيتون على أقداحنا الأدبية اللاتينية.
رأى بورخيس النور عام 1899، ثم فقده في خمسينات القرن العشرين بسبب مرض خَلقي. وفي بداية الثمانينات، استحضرته جامعة تولين ليحاضر فيها عن فلسفة الجمال والمعنى. وقد تعلّق بورخيس تعلقًا شديدًا بحانة صغيرة عتيقة في الحي الفرنسي في نيو أولينز، اسمها "بريزريفيشن هول" (Preservation Hall)، وهي من الأماكن النادرة التي ما يزال يمكن للمرء أن يستمع فيها إلى بقايا من موسيقى جاز "ديكسيلاند" التي بدا أن بورخيس يعشقها لسبب ما، فيجلس على طاولة في مؤخرة الحانة، ليستوعب ما أمكن من أمواج الجاز الساحرة.
في أحد الصباحات، عام 1982، التقينا به في جناحه الفندقي في فندق فيرمونت، حيث أقام تحت رعاية ونظر ماريا كوداما، تلك الصبية الأرجنتينية الرقيقة من أصول يابانية، التي صارت لاحقًا زوجته الثانية وأورثها كل تركته حين مات عام 1986.
في اللقاء الذي عقدناه بحضرته، جلس بورخيس على جانب نافذة مفتوحة لتغمره رشقات النور الصباحية الشهباء، سعيدًا كما بدا بالوقع الأغنّ للموسيقى التي ما زالت تدور في رأسه من الليلة الماضية، حتّى أنّه راح يدندن بعدة مقاطع من أغنية " “St. James Infirmary, وكان إيقاعه الموسيقى لا يقلّ دقّة عن إجاباته الإنجليزية التي حبانا بها أثناء هذا الحوار.
- هل حلمتَ ليلة أمس؟
أحلم كل ليلة. أحلم قبل أن أنام، وأحلم لما أستيقظ. حين أتفوّه بكلمات لا معنى لها، فهذا يعني أنني أرى المستحيلات.
أذكر أن أحد الأحلام منحني قصّة. راودني حلم مربك وشديد التعقيد، ولم يعلق في ذهني منه سوى عبارة واحدة: "لقد بعتك ذاكرة شكسبير". وقد كتبت قصة عن ذلك عنوانها "ذاكرة شكسبير".
شكسبير؟ يا لهذا الاسم، صح؟ لكنّه كان شديد الرداءة، ألا تتفقان معي؟ أي رجل هذا الذي يقول: "إنجلترا، قرينة الفردوس"؟1 تبدو العبارة نكتة سمجة، أليس كذلك؟ ما أقصده هو أن شكسبير خيبة أمل دائمة. إنه كاتب متذبذب للغاية، لا يجدر الاعتماد عليه. ففي طرف سطرٍ يعطيك حلاوة، وفي طرفه الآخر لا يعطيك سوى بلاغة بلهاء.
- هل تحبّ مشاهدة مسرحياته؟
أحب قراءة الدراما لا مشاهدتها. القراءة تفصيل مهمّ في حياتي، ولا يسعني أن أنقطع يومًا عنها أو تنقطع عنّي. لقد أدمنت شراء الكتب، والعيش معها، رغم أني لا أستطيع قراءة كل شيء بطبيعة الحال.
بورخيس: القراءة تفصيل مهمّ في حياتي، فأنا أبذل كل ما يسعني كي لا أنقطع يومًا عن القراءة
الكتب هي جوّي، وهي تحيط بي في جلّ أوقاتي. لقد فقدت بصري وأنا أقرأ أسطر الشعر، وقد حدث ذلك كلّه حتى بدا كأنه مجرد فترة غسق قريرة، استطالت في بطء شديد. لم تكن لحظة كرب تثير الشفقة، كل ما في الأمر هو أنّ الناس أمسوا عندي بلا وجه، والكتب بلا رسوم، ولم أعد قادرًا على رؤية انعكاس صورتي في المرآة.
- هل تذكر آخر شيء أبصرته بوضوح؟
آخر ما رأته عيناي كان اللون الأصفر، لأن أوّل لونين انطفآ هما الأسود ثم الأحمر. يعتقد الناس أن الأعمى يعيش في ظلام دامس. هذا غير صحيح، فاللون الذي يختفي أولًا هو الأسود، وأنا أشتاق للأسود والأحمر، وكم أتمنّى لو أرى الخمريّ مجددًا.
أمّا الآن، فأنا أعيش في وسط غبش متوهّج بين الرمادي والأزرق والأخضر، لكنّه متوهّج دومًا.
أصيب والدي بالعمى أيضًا، وجدتي الإنجليزية وافتها المنيّة بعد أن انطفأ بصرها، وجدي الأكبر أيضًا. فأنا في الجيل الأعمى الرابع، وقد عرفت ما كانت تخبئه لي الأيام.
- هل تقرأ الكتب المطبوعة بنظام "بريل"؟
لا، ويا لها من مأساة. لو تعلّمتها لتغيّرت حياتي بأسرها، لكني كبرت كثيرًا، حتى أن يداي لن تستوعبا تلك الكتابة.
- قلت مرّة إنك تتمنّى لو أنك لم تترك أبدًا مكتبة أبيك، فأين اعتاد بورخيس الطفل قضاء وقته؟
دعني أخبرك أنني، في واقع الأمر، لم أغادرها قطّ.، ولم أزل مقيمًا فيها. فأنا هنا أواصل قراءة الكتب التي قرأتها صبيًا، رغمَ أنها تتغيّر في كل مرّة أعيد قراءتها، وهي تغيّرني أيضًا.
في بيتي، ليس لدي أي كتاب لي، ولا أي كتاب عنّي. أنا بالكاد أذكر ما كتبت، لأني أقرأ على الدوام كتّابًا آخرين وأفضل مني. لو أعدت قراءة ما أكتب، لأرهقتني الخيبة وأقلعت عن الكتابة، لكني لا أريد ذلك.
- كيف تكتب الآن؟
أحلم وأرسم خططًا وأفكر بمشاريع طوال الوقت. ثم يأتيني أحدهم، فأملي عليه، ويكتب. هذا كلّ ما يسعني فعله الآن. عملي مبعثر للغاية، يتمّ اعتباطًا كيفما اتّفق، بلا منهج واضح. إنها طريقة متّسقة ربما مع شخصيتي.
ما زلت أحرص على الكتابة بأسلوب بسيط، باستخدام مفردات غير معقّدة. وأبذل ما بوسعي للنظر في القاموس. أعتقد أن البساطة هي سمة كتابتي، وتخالجني رغبة عميقة تحثني على الالتزام بذلك. فأنا أعيش لأشبع هذه الرغبة، التي لا تخبو إلا حين أكتب.
- هل تمكنت يومًا من إشباع تلك الرغبة؟
لا، ولهذا أواصل الكتابة.
- ماذا تكتب حاليًا؟
العديد من الأشياء. سأعيش لأكتب أكثر. أودّ أن أؤلف كتابًا عن سويندبورغ، وديوانًا من القصائد، ومجموعة قصص قصيرة. لقد درست مع ماريا كوداما الإنجليزية القديمة، ثم انتقلنا لدراسة النوردية القديمة، ويا لها من لغات ممتعة.
- ما هي اللغة الأثيرة لديك؟
أحتار ما بين الإنجليزية والألمانية. لكن لو عرفت الآيسلندية لربما كانت هي لغتي المفضلة. أما الإسبانية فأجدها لغة خرقاء. ثمّة حيل في التعبير لا تتيحها بالقدر الذي تتيحه الإنجليزية، خاصة في الشعر. أعتقد أنكما محظوظان، الإنجليزية لغة مذهلة.
- كيف تشعر وأنت تقرأ ترجمة إنجليزية لأعمالك؟
المترجمون يجوّدونها كثيرًا.
- لم لا تكتب بالإنجليزية؟
احترامًا لها. من أنا لأعطي لنفسي الحق بالعبث بالإنجليزية؟
- حين تبلغ العام الأول بعد المئة من عمرك، ستشهد قرنًا جديدًا، كيف تشعر حيال ذلك؟
فلنأمل ألا يحدث ذلك، دعونا من التشاؤم.
بورخيس: أنا بالكاد أذكر ما كتبت، لأني أقرأ على الدوام كتّابًا آخرين وأفضل مني. لو أعدت قراءة ما أكتب، لأرهقتني الخيبة
- لكن سيُنسأ لك في عمرك عبر أعمالك، ألا تعتقد ذلك؟
لن أكون هنا، سأكون غائبًا، في عالم آخر، ولن ينفعني ذلك في شيء. أعتقد أن أعمالي ستجد سبيلها.
- كيف تشعر حيال الشهرة؟ هل يسوؤك أنها تأخرت؟
لا. لا تروقني الشهرة، ولم تعتدها نفسي. كان أبي يحلم بأن يكون ثريًا لا يراه أحد، وكذا أنا. فلا أذهب أبدًا إلى الحفلات وأتفادى المشاركة في تلك اللقاءات التي لا تعدو بالنسبة لي عن كونها مجرّد طقس لمصافحة الأيادي ذاتها، لأشخاص لا أستبين وجوههم، ولا أملك سوى أن أكرر عبارات الترحيب والتشريف الفارغة، مع التكلف بالابتسام وادّعاء الامتنان. يا للفظاعة.
- هل السفر يعيقك عن الكتابة؟
بالعكس، أنا شديد الامتنان لامتلاكي القدرة على السفر، والشعور بالأماكن التي أزورها. لم تتسنّ لي رؤية مصر، لكني زرتها. ولم أرَ اليابان، لكني ذهبت إليها. وقد كانت تلك تجارب فارقة جدًا. لا أدري إن كان للأمر علاقة بالحواس، أو بشيء يتجاوزها. أنا اليوم في الولايات المتحدة، وأكاد لا أستوعب روعة المكان، إذ يبدو لي شديد الاختلاف عن بوينس آيرس، تلك المدينة الغثّة.
الهوامش:
1) مارك تشايلدريس (1957)، روائي أمريكي، صدرت له سبع روايات، من أبرزها رواية "مجنون في ألاباما". (المترجم)
2) من مسرحية "ريتشارد الثاني" لشكسبير، الفصل الثاني/المشهد الأول. العبارة بترجمة محمّد عناني للمسرحية، الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب (المترجم).
اقرأ/ي أيضًا: