هل يزوّر الروائي الحقائق؟ لأطرح الفكرة بطريقة قد تكون مزعجة لبعض القرّاء. كتب غائب طعمة فرمان روايتيه "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات" بالضد تمامًا من نوري السعيد، كان فرمان شيوعيًا متحمّسًا، والعداء بين الشيوعية والسعيد لا أعتقد أن هناك حاجة لمناقشته.
في الروايتين، عرض فرمان زمن نوري السعيد كأنه زمن مليء بالجوع والمرض والفقر والجهل. زمن لا توجد فيه أية حسنة تُذكر، لكن هل كان هذا هو الواقع فعلًا؟
بشكل ما، نعم هو واقع، لكنه واقع يخص فرمان واتجاهه السياسي.
في نظرة مغايرة سيقول داعمو الملكية أن الزمن كان مبشرًا بخير، وعلى الأرض - خلال الخمسينيات - نهضت الدولة العراقية بمشاريع مهمة وكبيرة. استثمرها رجال ثورة/ انقلاب 1958. وعلى أرض الواقع أيضًا لم يكتب فرمان بالضد من زمن عبد الكريم قاسم، وسنكون مقابل هذا الفعل أمام اختيارين، إما أن فرمان كان يجامل عبد الكريم قاسم لقرب الحزب الشيوعي منه، أو أنه لا يرى أية غلطة حدثت في عراق 1958 - 1963 بالرغم من الأحداث المهمة، وهو أمر يشبه المستحيل.
في رواية "الرجع البعيد"، كانت عدسات الروائي فؤاد التكرلي تتركز وتُهاجم ضمنيًا مرحلة حكم عبد الكريم قاسم
وفي رواية "الرجع البعيد"، كانت عدسات الروائي فؤاد التكرلي تتركز وتُهاجم ضمنيًا مرحلة حكم عبد الكريم قاسم من خلال جميع شخصيات روايته. فهم تائهون ومُعدمون، بلا هوية وطنية، لا يشعرون بأي استقرار. وسنجد في الرواية جُملة تُعبّر عن عداء تام لقاسم يقولها أحد أبطال الرواية "هذه هي الثورة التي ننتظرها كُلّنا". فمن تُمثل كلمة "كُلنا" التي يقولها البطل؟
اقرأ/ي أيضًا: رواية "الغرق" لحمور زيادة.. بشر في مهب العبودية والقسوة
هل زوّر فرمان والتكرلي التأريخ أو تغاضوا عن حقائق؟ قد لا تبدو كلمة تزوير مناسبة، لذا سأستعيد السؤال الذي طرحته بصيغة أخرى. هل يحق للمتلقي أو الناقد أن يقول إن العمل الأدبي هو عمل جيد أو سيئ لأنه "في مضمونه" انتقد نظام الحكم أو مدحه أو أظهر أو أخفى حال مجتمع ما؟
عام 2014 صدرت رواية "ساعة بغداد"، كان الكثير من الجمهور المتلقي غاضب من هذه "الرواية" لأنه يرى أنها جمّلت مرحلة كان أغلب الشعب العراقي يعاني فيها معاناة لا توصف.
أتذكر في مقال كتبته عن هذه "الرواية" أن مشكلتي الرئيسة معها - بغض النظر عن سذاجتها - تتمثل في قول الروائية إن روايتها "تتحدث عن معاناة جيل كامل".
هل غيّرت شهد الراوي الحقيقة؟ بالطبع لم تُغيّر المؤلفة الحقيقة، متابعة بسيطة لجغرافية روايتها - تقع أحداثها في مناطق بغداد الثريّة - ستُعرّفنا أن البطلة "الطفلة - المراهقة" نقلت ما رأت فقط، ولم تنقل معاناة الطبقات المسحوقة لأن عدساتها الروائية لم تُراقب أو تُسجّل مواقعهم الجغرافية ومعاناتهم.
"إن النفوس المُهملة والفقراء هم وحدهم الذين يجيدون المراقبة... إنهم يعرفون كيف يراقبون لأن كافة الأمور تصدمهم. المراقبة وليدة المعاناة، فالذاكرة لا تُسجل جيدًا إلا الألم". كما يخبرنا رائد الواقعية بلزاك.
يتفق أغلب النقّاد والقرّاء أنه يجب على الروائي نقل الحقيقة. لكن أي حقيقة نطالبه بها؟! ولماذا نحن مصرّون على أن الروائي يجب أن يكون صادقًا في النقل؟ بل إلى أي مدى ممكن أن تخدع الروائي حواسه؟
الرواية - بالنتيجة - ليست غير واقع خيالي أو حلم واعي، إننا من الممكن أن نُشرّح الحلم، أن نقول عنه إنه ساذج أو مُمتع. طفولي، أو مضحك، أو بلا معنى ذا قيمة، لكن من المستحيل أن تتم محاسبته كحقائق، وإلا سنكون أشبه برجل الأمن الذي حُكي له حلم رجل بالانقلاب على نظام الحكم فاعتقله بحجة: إن هذه الأفكار الشريرة داخل رأسك من الأساس.
جُملة "واقع خيالي" أعتقد أن هناك حاجة لتوضيحها بمثال. إن جُملة "يملك جورج أورويل منزلًا" يُثبتها في الواقع العقار الذي من الممكن أن نراه ونزوره وندخله، وهو مُسجّل في دوائر العقارات ومديريات الماء والكهرباء. لكن جُملة "يسكن ونستون سميث في شقة" التي ترد في رواية 1984 لن تُمكننا من دخول هذه الشقة إلا بواسطة الخيال. ولن تكون هناك أية مستندات رسمية تُثبت وجودها، فالشقة في الرواية هذه، واقع لكنها واقع خيالي.
أليس من المضحك أن يقول القارئ إن زمن نوري السعيد أو زمن صدام حسين كان جيدًا أو سيئًا، بدلالة مأخوذة من رواية، أم هل الرواية هي التي عرّفتنا بجرائم هتلر؟
تولستوي يرى نابليون إنسانًا متغطرسًا وشريرًا، في حين يعتبره بلزاك رمزًا للشعب الفرنسي
إن تولستوي يرى نابليون إنسانًا متغطرسًا وشريرًا، في حين يعتبره بلزاك رمزًا للشعب الفرنسي وقد يصل لمستوى التقديس "في أنظار الشعب لا يزال نابليون، المتوحد مع الشعب وذلك بمليون جندي من جنوده، هو الملك الطالع من أحضان الثورة، والرجل الذي يضمن للشعب امتلاك الثروات العامة، وقد نقع في تقديسه بسبب هذه الفكرة". الفارق بين نظرة تولستوي وبلزاك لنابليون، هو أن بلد الأول دخل نابليون في حرب معه واحتله.
اقرأ/ي أيضًا: توني موريسون.. الكتابة على إيقاع الروح الأفريقية
هكذا بالضبط تنتقل رؤى الروائي ومشاعر الشخصية وما يراه حقيقة، نحو الأدب.
هناك فكرة اخرى، أستطيع النظر لها بشكل مغاير عما هو مألوف، فبالحديث عن بلزاك، يُشير أغلب النقاد والروائيين أنه كان أفضل من نقل صورة "حقيقية" للمجتمع الفرنسي.
لنقرأ ماذا يقول فيليب برتو في كتابه عن بلزاك "وقد عمد موسى لو ياونك إلى تجاوز الدراسات الجزئية التي تتناول بلزاك والأطباء والطبابة والعلم ووصف في اطروحته الواسعة أمراض الكوميديا الإنسانية... ليستنتج أن أوجاع عالم بلزاك مُطابقة في غالبيتها لأمراض وردت في الجداول الطبية القديمة".
هل هذه عبقرية بلزاك! حسنًا، إن السؤال الذي أود طرحه هو: لماذا نترك الوثائق التي اعتمد عليها بلزاك نفسه في تناوله للأطباء والطبابة ونتمسك برواياته كأنها هي مصدر المعلومة؟
وفي الحقيقة، فإن عبقرية بلزاك لا تتمثل في نقله لواقع المجتمع الفرنسي، بل في نظرته التي تتجاوز الواقع، في عينيه التي ترى ما لا تراه العين الاعتيادية، وفي رمزياته العظيمة الدقيقة، إنه صحفي خبير يعرف كيف يجعل للأشياء قيمة وحياة. إن كل شيء في توثيقه الأدبي مقصود وله معنى، حتى الألوان، فعندما يجعل الموظف يرتدي لونًا رماديًا فهو يقصد أنه موظف مخادع. هكذا تُخبرنا تجربة قراءته.
في كتاب "يوميات كاتب" لدوستويفسكي، يتحدث أديب روسيا العظيم عن تولستوي في مقالين، الأول يصفه فيه - يورد الرأي على لسان صديقه - بأنه "أحد تلك الأدمغة الروسية التي لا ترى بوضوح سوى ما يقف أمام عينيها". وفي مقال آخر يتحدث دوستويفسكي عن الجزء الثامن من "آنا كارنينا" - بعد أن رفضت طبعه هيئة تحرير "البشير الروسي" بسبب الاختلافات بين قناعات المؤلف وقناعاتها الذاتية - ويحدد دوستويفسكي هذه الخلافات بمجموعة نقاط أبرزها أن الشعب الروسي، لا يشارك البتة فيما يسمى الحركة القومية ولا يفهمها، أيضًا إن هذه الدعوات في الجزء الثامن من الرواية مصطنعة عن قصد، فقد اصطنعها أشخاص معينون ثم دعمها رجال الصحافة لجعل الجمهور أكثر إقبالًا على إصداراتهم. وثالثًا: إن كل هذا الذي يسمى نهوض الروح القومية دفاعًا عن السلاف، ليس مصطنعًا من أشخاص معينين وصحفيين مأجورين فحسب، بل هو مصطنع من الأسس نفسها.
يُضيف أن "ليڤين نقي السريرة" وهو نفسه الذي يُمثّل رؤى تولستوي ولسانه في الرواية - كما يعتقد دوستويفسكي - قد "جمح إلى الانفراد وافترق عن الأكثرية العظمى من الناس الروس". وهذا يعني أن تولستوي عكس أفكاره وأمانيه السياسية والقومية وتخيّل نفسه أنه هو الشعب.
يجب ألا نعامل الرواية كمصدر معلومة أو مصدر تاريخي ونتجاهل المصادر الأساسية للعلم والتاريخ
بهذه الطريقة من النقد سيكون دوستويفسكي مخطئًا في تعامله مع رواية "آنا كارنينا"، لأنه يعاملها كحقيقة برغم إعجابه بموهبة تولستوي. لكن ما يُنقذه أن تولستوي نفسه يرى أن رواياته تمثّل فعلًا الحقيقة.
إنني لا أريد أن أقول إن على الروائي أن يُغيّر الحقائق، أو أن يُجمل صورة دكتاتور أو يكون محايدًا، لكن ما أريد قوله إننا يجب ألا نعامل الرواية كمصدر معلومة أو مصدر تاريخي ونتجاهل المصادر الأساسية للعلم والتاريخ. وإلا فمن هو سقراط الذي يذكره أفلاطون في محاوراته؟
اقرأ/ي أيضًا: رواية "بنت من شاتيلا" لأكرم مسلم.. الرمز للاحتيال على البنية
في النهاية فإن ما يُهمني من الأدب، هو إيقاظ روح التأمل، وطرح السؤال، وإيجاد مُتعة لا غير. وألا تتحول الرواية لجسم جريمة كما يقول كونديرا.
اقرأ/ي أيضًا: