أعلن الفيلسوف رفائيل إينتوفن تحدّيه لبرنامج الذكاء الاصطناعي شات جي بي تي. فبعد أن يجتاز تلاميذ البكالوريا الفرنسية امتحان مادة الفلسفة يوم 14 حزيران/يونيو المقبل، سيواجه إينتوفن البرنامج حول أحد الموضوعات التي ستطرح في امتحان البكالوريا لسنة 2023، على أن يعود التحكيم ليس لإنسان وآلة، وإنما لأستاذين في الفلسفة، أحدهما ليس بعيدًا عن وسائط البث الاجتماعي شأن ر. إينتوفن نفسه.
لن نهتم بما يحمله هذا اليوم، يوم امتحان الفلسفة في البكالوريا، من دلالة في فرنسا، حيث تنقل محطات الأخبار جميعها نصوص الأسئلة المقترحة باعتبارها حدثًا من أحداث تاريخ فرنسا ومن معالمها. ما يهمنا هو طبيعة هذا التحدي الذي يعتبر ثاني تحدّ من نوعه يواجه بين الإنسان والآلة على مستوى الفكر. إلا أن هذه المواجهة الجديدة تختلف عن نظيرتها الأولى التي تقابَل فيها بطل لعبة الشطرنج الروسي كاسباروف ضد حاسوب، حيث خسر البطل الدورة الأولى، لكنه انتصر في مقابلة الإياب.
تساءل بودريار في مقال حول لعبة الشطرنج مع الكمبيوتر: "ما الذي جعل كاسباروف ينتصر؟" فيردّ إن أول جواب نجده عند البطل نفسه عندما صرح: "أنا ألعب من غير أن أفكر، يداي تفوقان تفكيري سرعةً"
المباراة ضد الحاسوب كانت حول لعبة، أما هذه فستكون مباراة "أدبية": معالجة قضية فلسفية غالبًا ما ستتعلق بقضايا لها علاقة بالقيم وبمفهومات مجردة، وسيراعى ولا شك في تقويمها، إضافة إلى الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية، أسلوب الكتابة، ودقة التعابير، والقدرة على الربط بين المفاهيم، وتوظيف الاقتباسات في السياق الملائم.
لن يتعلق الأمر إذن باستعمال القواميس لنقل نص من لغة إلى أخرى، كما أنه لن يتوقف عند مجرد استعمال الخوارزميات وتوظيف القدرة على حساب الاحتمالات الممكنة، وإنما سيتطلب إعمال الفكر بكل وظائفه، وربما اتخاذ موقف، والميل إلى رأي وتفنيد آخر.
كان جان بودريار قد حاول في مقال قيّم الوقوف عند مواجهة البطل الروسي، و"تفسير" انتصاره في مقابلة الإياب. فانطلق من إثبات التنافس والرغبة في السيطرة التي ما فتئ الإنسان يبديها إزاء الآلة. ففي الوقت الذي يحلم فيه الإنسان باختراع آلة تفوقه ذكاء، يحاول أن يثبت لنفسه أنه سيبقى دائمًا سيدها المتحكم. "وهكذا يحشر الإنسان في يوتوبيا نسخة تتفوق عليه، غير أن عليه أن يهزمها إنقاذا لشرفه".
يتساءل بودريار: "ما الذي جعل كاسباروف ينتصر؟" فيردّ إن أول جواب نجده عند البطل نفسه عندما صرح: "أنا ألعب من غير أن أفكر، يداي تفوقان تفكيري سرعةً". إضافة إلى تدخل الإنسان بكل جوارحه في اللعب، وفضلًا عن أن بإمكانه أن يراوغ ويتماطل وينصرف بذهنه خارج اللعبة، ويبتعد عن منطق الحساب، فإن الاختلاف الأساس بالنسبة لكاسباروف، وما يميزه أساسًا عن الآلة، هو شعوره بأنه أمام خصم، وأنه في مواجهة آخر. الحاسوب كائن "طيب" أو لنقل على الأقل، إنه لا يستطيع أن يراوغ ولا أن ينصب المكائد. يمكن أن نقول إنه ذكي، لكنه بالرغم من ذلك بعيد عن الحيل، فهو دائما غارق في حساباته، لا يكترث بما حوله، بل لا يمكنه أن يخرج عن منطق الحساب، الحاسوب محكوم عليه أن يلعب بأقصى ما يمكنه، لا نقول ليس من حقه، بل لا يمكنه أن يزيغ عن ذلك المنطق. إنه لا يمكن إلا أن يلعب Jouer بينما الإنسان يمكنه أنDéjouer الإنسان يمكنه أن يسلك أكثر من طريق، يمكنه أن ينهج، أثناء اللعب، استراتيجيات خارج كل منطق، أو على الأقل، خارج المنطق الذي يعتمده الحاسوب، منطق الحساب.
هل سيواجه فيلسوف إذاعة فرانس-الثقافية هذه المرة آلة في مثل هذه "الطيبة"؟ وهل سيتمكن من أن يفسد على برنامج الذكاء الاصطناعي لعبته هو كذلك، خصوصًا وأن الملعب الذي ستجري فيه المباراة هذه المرة، ليس ملعب الشطرنج وحساباته واستراتيجياته، وإنما ملعب الآداب ومجازاته واستعاراته!؟