ما يزال مجال القول فيما يخصّ اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعميمها على مجال واسع في قطاعات مثل التعليم والصحافة محدودًا عربيًا، وذلك لأسباب تتعلق بمحدودية تطبيقاتها العملية باللغة العربية، ومدى فائدة المعلومات المقدمة للمستخدم العربي. السبب الأساسي وراء ذلك كما سبق وأشرنا في مقال سابق، عائد إلى الضعف الكمي والنوعي في البيانات النصيّة التي تتوفّر لنماذج الذكاء الاصطناعي الحالية، وأشهرها الآن "تشات جي بي تي"، وعدم بناء النموذج على نحوٍ قادرٍ على المستوى التقنيّ على تعظيم الاستفادة من البيانات المتوفّرة بالعربية ومعالجتها.
لا أحد يستطيع الجزم بما ستكون عليه النتائج في المستقبل، وما هو شكل الكتابة الذي سيسود باللغات التي تدعمها هذه النماذج
يبدو هذا جليًا على نحو خاصٍ مثلًا عند مواجهة هذا النموذج بأسئلة تطلب شرح قاعدة في النحو العربي أو اختبار قدرته على تبيّن أنواع الجمل أو الاستفسار عن أخطاء إملائية وبيانها. فلو سألت عن الرسم الصحيح لكلمة "معاني" في جملة تكون فيها هذه الكلمة في موضع المفعول به، فسيكون الجواب بمثال تكون فيه الكلمة في محل نصب "اسم أنّ"، وهو ما يعني أن النموذج لا يفرق بين حالة النصب وعامل النصب ويخلط بينهما. كما لا يفرق النموذج بين الفاعل والمبتدأ، ولا الجملة الاسمية والفعلية، في الإجابات على أسئلة بسيطة طرحتها أثناء التفاعل مع الموقع لغرض كتابة هذه المقال.
أمّا بالإنجليزية، فالتجربة مختلفة تمامًا. فالنموذج قد يكون هوَ شريكَك اللغوي لو أحببت تعلم الإنجليزية، كما يمكن يؤدي دور المساعد الأسرع لمعلّم الإنجليزية الذي يبحث عن أمثلةٍ على قاعدة لغويّة تناسب مستوى عمريًا معينًا، أو حتى نصًا أدبيًا يناسب متعلمًا يعاني من وضع جسدي أو نفسي حسّاس، ويرغب المعلّم بتدريبه عبر نصّ ملائم. ثم سيعدّ هذا النموذج للمعلم أي اختبار في أي موضوع في غضون ثوانٍ، كما سيساعده لو رغب في تقييم الإجابات. هذه التجربة للوهلة الأولى، ستدفع كاتبًا مثل دانيال هيرمان، في الأتلانتيك الأمريكية، إلى الاعتراف آسفًا بأن النصّ الذي ينتجه لنا "جي بي تي" أفضل بمراحل مما يمكن لأي أستاذ عاديّ في مدرسة أو كليّة كتابته، وأن ذلك يعني نهاية التدريس في صورته شبه التقليدية في القاعة.
قد يكون في كلام الرجل مبالغة في نظر آخرين، كهذه المعلمة التي راحت تبشّر بفائدة النموذج في تدريس الأدب، وارحت تختبر أشكالًا متعددة من التطبيقات العملية عبر "تشات جي بي تي". فمثلًا، في اختبار الأدب الإنجليزي لطلبة المدرسة الثانوية التي تعمل بها، تكلّف المعلمة، واسمها كيلي غيبسون (Kelly Gibson)، الطلبة بقراءة الرواية المقرّرة، ثم تطلب منهم في موعد الاختبار كتابة مقال نقديّ بالاعتماد على فقرة تعبّر عن أطروحتهم الأساسية فيما يتعلق بالنصّ الذي قرأوه، والأفكار التي يعتقدون أن الكاتب يشتبك معها في روايته. بعدها تعمد المعلمة إلى مقارنة ما كتبه الطلبة مع ما ينتجه نموذج "تشات جي بي تي"، باستخدام نفس الأطروحة لكل طالب، والقيام بمراجعة النصّين (بالقلم والورقة)، وتحليل الفارق بينهما.
ترى غيبسون في حديثها عبر حلقة بودكاست من إنتاج موقع "وايرد" أن الداءَ ليس في الذكاء الاصطناعي، بل في "أنفسنا"، وإصرارنا على رفض الواقع الذي ستفرضه حتمًا هذه التقنية الجريئة، وعدم الإقبال على استغلال في تيسير عمل المعلّم والطالب معًا، والاندماج شبه الكامل بين الآلة والمعلم والمتعلّم. شيء أشبه بحكايا الخيال العلميّ وإرهاصاته.
لكن البقيّة من المعلمين والكتّاب (في الفضاء الأنجلوسكسوني)، بخلاف معلمتنا المتفائلة، يشعرون أنّ هذا الذكاء الاصطناعي قد أحاطهم بدائرة من النار بالفعل، وأن على أحد إطفاءها قبل التهام هذه المساحة من العمل الإبداعي الذي لطالما اعتقدنا أنّه بمنجىً عن توحّش التقنية. والقضيّة لم تعد مجرد مزحة أدبية أو نزوعًا للمبالغة من قبل مبغضي التقنية ورافضي الحداثة من أصحاب "الدقّة القديمة"، بل بات تهديدًا حقيقيًا لعمل كثيرين في مثل هذه القطاعات. ولنأخذ مثلًا أعمال التسجيل الصوتي، وهو قطاع كبير نسبيًا تتجاوز قيمته 3.5 مليار دولار أمريكي، ويدرّ أرباحًا ضخمة على شركات كبرى مثل أمازون وآبل وسبوتيفاي وجوجل، والتي تسعى منذ سنوات إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة، لإنتاج مكتبة من الأصوات الرقميّة الشبيهة بالأصوات البشرية الطبيعية، كخطوة نحو الاعتماد عليها بدل الراوي البشريّ. وما ينطبق على هذا القطاع، ينطبق بشكل أكثر وضوحًا وأشدّ سرعة في قطاعات إبداعية أخرى، مثل التصميم والرسم التجاري، حيث تنافس العاملين فيه نماذج مثل "ميد جيرني" (Midjourney)، و"دال.إي 2" (DALL.E 2) وغيرها، ذات قدرة على إنتاج صور ورسومات معقّدة في غضون ثوان معدودة.
بالطبع سيبدو الأمر للمراقب العربي أكثر غرابة في هذا الصدد لو تنبّه مثلًا إلى خبرٍ يقول إن إحدى شركات التقنية في الولايات المتحدة تبحث الآن عن كتّاب مختصّين بكتابة ما يعرف باسم "محفّزات" الكتابة أو "جذاذات" الكتابة (Writing Prompts)، وبرواتب مجزية للغاية تتجاوز 300،000 دولار سنويًا، وذلك لتزايد الطلب عليها من قبل المستخدمين (الطلبة والأساتذة والصحفيين وصناع المحتوى وغيرهم)، لاستخدامها في نماذج الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي.
ولن يقف تغوّل هذه النماذج عند هذه الحدود، فقد بدأ الاعتماد عليها بالفعل في مجالات أكثر دقّة وخطورة، مثل الطبّ، للمساعدة في الكشف عن الأعراض الدقيقة لبعض الأمراض العصبية، عدا عن توظيفها الواسع في عالم التسويق لتحليل أنماط سلوك المستهلكين والبناء عليها. ولعل أحد الشواهد الخلفيّة على كل هذه الإمكانات لنماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية وتناميها هو عدد مقترحات الأبحاث المقدّمة لأحد أهمّ المؤتمرات العالمية في مجال اللغويات الحاسوبية في العام 2022، والذي بلغ 3350 مقترحًا، مقارنة بأقل من 300 مقترح في العام 2000.
لا أحد يستطيع الجزم بما ستكون عليه النتائج في المستقبل، وما هو شكل الكتابة الذي سيسود باللغات التي تدعمها هذه النماذج، سواء كانت الإنجليزية كلغة مهيمنة في العالم أو لغات ثانوية ذات أهمية اقتصادية وسياسية متزايدة، كالصينية أو الإسبانية أو الفرنسية. كيف ستعالج اللغات هذا التحوّل وكيف سينعكس على ألسنة الناس وقدرتهم الطبيعية على التعبير والكتابة، لو حرموا من هذه المحفّزات الآلية بعد فرط الاعتماد عليها؟ ما الضيم الذي ستتركه الآلة على رواية الإنسان الفرد التي ينبغي أن تتمايز عن رواية وصوت من هم سواه؟ وهل ستمنح الأفضلية لطبقة من اللغة على أخرى بكل ما فيها من تحيّزات، وتحكم بالإلغاء التعسفي على خصوبة وحيوية ما سواها، عبر شكل البيانات المستخدمة في تعليم الآلة أو طريقة الاستفادة منها. وما الذي سيعنيه كل ذلك لمستقبل السلطة والسيطرة والرقابة، ومدى الاتصال والانفصال بين الذات وتمثيلها العام المعبّر عنه باللغة والمقدرة على تطويعها، بعيدًا عن الارتهان للآلة.
ثمّة شربة من الحريّة والمرحمة والتنوير تطلبها هذه اللغة لتشفى
أمام كل هذه السيناريوهات والأسئلة، التي أسقطها على الإنجليزية، يتبيّن لي أنني لا أحبّ أن تتكلم الآلة لغتي، ولا أن تتبع إمرتها وتنساق وراء غرورها ونزعاتها الرأسمالية والسلطوية المتوحّشة. كل ما أريده هو أن يُكتب للعربيّة دورة طبيعية من الحياة الجيّدة والفاعلة والحرّة، كاملة الحريّة. أن لا يُجتزأ من ترجمة عربية ولا ينتهك نصّ كاتب لأنه أتى بكلمة أو عبارة "تخدش الحياء" في مجتمعات تُنتهك كرامتها في اليوم آلاف المرّات. أن تحيا العربيّة، بلا عُقد ولا إكراهات ولا أصوليات ولا شوفينيات، وأن يُكتب لها التخلّص من كلّ هذا الملل والعيّ والفشل الراهن الذي أضحى لصيقًا بها.
ثمّة شربة من الحريّة والمرحمة والتنوير تطلبها هذه اللغة لتشفى، وهي الشربة عينها التي يرنو إليها أهلها وما يزالون يعقلونها ويريدونها ويناضلون من أجل تحقيقها يومًا ما وحمايتها. وحتى ذلك الحين، لا أريد لشات جي بي تي أن يتكلّم لغتي.