في شتاء 1983، خطّ عبد الرحمن منيف السطرَ الأخير في الجزء الأول من خماسية مُدن الملح، التيه، وها أنا اليوم، بعد سبعةٌ وثلاثين عامًا، أعيد قراءتها، وأفكّر من جديد؛ من قتل مفضي الجدعان؟
في رواية مدن الملح، مفضي الجدعان كان مثالًا واضحًا للمقاومة. والمقاومةُ لا تبدأ إلاّ حينَ يشعرُ المرء بأن هُناكَ غريبًا يريدُ أن يطمسه
إن أردنا تعداد الشخصيات التي ورد ذكرها في هذه الرواية، فلربما فاقَت الخمسين، وقد تباين وصف مُنيف لهذه الشخصيات وتحليله لها ما بين الشخصيات البسيطة ذات الحضور السريع والخفيف، والشخصيات المركبة المعقدة التي وإن غَيَّبها الكاتب بعد فصولٍ معينة، فإنها تبقى في ذاكرة المكان والشخصيات الأخرى كمتعب الهذال مثلًا.
اقرأ/ي أيضًا: مروان قصاب باشي.. الرحلة الأبدية الأولى
في أواخر رواية التيه، يُكثّف مُنيف حضور مفضي الجدعان، الطبيب الشعبي الذي يُداوي بالكَي والفصد كل الأمراض، يحمل خُرجًا فيه من الأعشاب ما يُذهبُ كل علّة، وحينَ يملُّ من هذه المهنة، يُمارسُ شيئًا آخر، كركوب البحر أو رعي الماشية أو صيد الأرانب والوعول.
مفضي الجدعان كان مثالًا واضحًا للمقاومة. والمقاومةُ لا تبدأ إلاّ حينَ يشعرُ المرء بأن هُناكَ غريبًا يريدُ أن يطمسه، يلغيه ويقتله، وهذا الغريبُ تَمثلّ بظهور الطبيب القادم من الخارح صبحي المحملجي، ووجود الأميركان بدرجةٍ أقل.
وفي تحليلٍ سريع لهذا الطبيب، فإننا سنرى شخصيةً انتهازية فوقية، تعتبرُ نفسها أذكى من الجميع، فيحاولُ الحكيم فرضَ أسلوبَ حياةٍ جديد على البدو وعرب الصحراء، مُستغلًا سُمعته السابقة بكونه طبيب بعثة الحج وأنه تعلّم في أوروبا وعمل في مدنٍ عديدة، ويرافقهُ في هذه المهمّة واجهةٌ إعلامية تتمثل بمساعده محمد عيد.
محمد عيد، المساعدُ البسيط في شخصيته المُعقدُ الدورِ في الرواية، يعملُ كخطّ دفاعٍ ووزير إعلام للطبيب، ينشرُ القصص والأساطير والخوارق التي يقوم بها ربّ عمله، لكي تُمهد له الطريق ليكسبَ ودَ الأمير ونائبه وكبار التجّار في حرّان.
ولم يكن المال أساس الحرب غير المُعلنة بينَ الاثنين، فالنقودُ بالنسبةِ لمفضي لم تكن شيئًا ذا قيمة، فكان يرفضها حينُ يقومُ بعلاجِ أيٍّ كان، بل ويغضب حينَ يُعرضُ عليه المال ويقول: يجي يوم وتبيعون فيه الماء يا أهل حران، إستحوا واتقوا الله يا جماعة الخير. في المقابل، وبعدَ أن أسس الطبيب عيادته ومستشفاه الخاص بدعمٍ من الأمير وقواته، كان يرفضُ استقبالَ أيَّ مريض لم يكن قادرًا على دفع كلفة العلاج. إذًا، الحرب بينهما كانت حرب مبادئ.
ويأخذنا مُنيف إلى تفاصيلٍ كثيرة في هذه الأحداث، لعلَّ من أهمها تعاطفُ ابن نفاع – الشيخُ المثير للجدل في حرّان – وكذلك ابن متعب الهذال، فواز وابن خاله صويلح، الذين كانوا يعملون لدى الأمريكان في الشركة، مع مفضي الجدعان وقناعاته ومواقفه تجاه ما يجري، وما يجري كانَ بالشيء الكبير.
فبعدَ أن ثبّت المحملجي قواعده جيدًا في تلك المدينة، وتأكد أن لكلمتهُ وزنًا عند أميرها المشغول بمتابعةِ نساء الأمريكان وهم يتقافزون شبه عراة على متنِ البواخر الراسية أو لاهيًا بالعفريت الجديد الذي أهداهُ إياه التاجر القادم من الشرق، حسن رضائي، فيجمعُ أهلَ حرّان ليُسمعهم ما ينطقُ هذا الصندوق الأسود العجيب مُتباهيًا بقدرته على ضبطِ الموجات، بعدَ أن أوقنَ الطبيب من أنه أتى ليبقى على الرغم من قوله في حوارٍ مع الدكتور وصفي الذي جلبه من الشام أيضًا مُنتقدًا أهل حرّان والحكومة: الجماعة يا أخي، بدو، حَمير، إذا قُلت لهم ثور، يقولون احلبوه، والحكومة قلنالهم، لكن، يا أخي، كلهم حمير، من فوق لتحت". ولكي يتخلّص المحملجي من مفضي بعد أن تبين عجزه عن معالجةِ كل شيء كما كان يدّعي مساعده، هَمس في أذن الأمير كلماتٍ سريعة، خبيثة، غيّرت مُستقبل حرّان بأسره.
جوهر، قائد حرس الأمير الخاص، والذي أنشأ ما يُسمى بقيادة قوات البادية، نصّبَ نفسهُ نِدًا لمفضي الجدعان، الشَعبي البسيط صاحب الكرم البدوي المشهود له، فبعدَ أن طلب المحملجي من الأمير "أن يتخلص من المشرد"، صارَ جُوهر، لا همَّ له إلاّ مفضي، فكانَ أولَّ سجينٍ في حرّان وربّما في السلطنة كلها، ولهذا دلالةٌ كبيرة على إطاعةِ الأجنبي المقرّب من أولي الأمر ظالمًا ومظلومًا، فالتحول الذي يُصيب جوهر من حيث تعامله مع أبناء بلده حينَ يكون وحده معهم وحينَ يظهر الأمريكي، ينعكسُ على الكثير والكثير من القادة والأشخاص الذين نعرفهم اليوم.
قُتل مفضي الجدعان.
لقد مثّل مفضي الجدعان رمزًا كبيرًا لمقاومةِ الأجنبي وسياساته، فحين قال مُخاطبًا نفسه ومن يسمعه من أهل حرّان: "الفلوس إذا إنعبدت إستعبدت وما أسعدت، وبعيونكم تشوفون، الواحد ياكل أبوه ويقتل أمّه وأخوه، لكن لا شيء يدوم، ولو دامت لغيرهم ما وصلت إلهم، وباكر بعيونكم تشوفون، والله والله لأظل وراهم حتى ألعن والديهم وأنا وهم.. والأيام بيننا"، كأنه كان يُجيشُ الناس ضدَ الظُلم ويحرضهم للمطالبةِ بحقوقهم دون أن يدري، ببساطةِ البدوي الذي يبتسمُ حينَ يُظلم، مؤمنًا بأنه سينتصر، ولو بعدَ حين.
قُتل مفضي.
دمّك يا مفّضي ما يضيع حرّان كلها تطالب
وإنت يابو التل الشمالي تسمع ولازم تجاوب
هكذا هتف أحرارُ حرّان، خرجَ أهلها وعمّال الشركة والجميع، فكانَ شرارةَ ثورة شعبية هي الأولى في وجه الظُلم والأجنبي، وحينَ لم يعرف جوهر وأميرهُ كيف يتعاملونَ معهم، اقترح عليهم الأمريكي إنشاء "غُرفة عمليات" مشتركة لبحث الطُرق الواجب إتباعها معهم، مطالبين بإتباع سياسة "اللا عنف" تجاه المتظاهرين.
في أواخر رواية التيه، يُكثّف مُنيف حضور مفضي الجدعان، الطبيب الشعبي الذي يُداوي بالكَي والفصد كل الأمراض
لم يكن مقتل مفضي الجدعان على يد الرأسمالية الممثلةِ بالمحملجي والدكتاتورية الممثلةِ بجوهر السبب الوحيد لهذه الهبّة الشعبية تجاه الظُلم، بل تراكماتٌ كثيرة بفعلِ نظرةِ الأجنبي الدونية للبدو وعرب الصحراء أفضت إليها، فالصراعُ الذي جسّده مُنيف ما بين هذه الطبقات شكّلَ نموذجًا يُطبَّق حتى هذه اللحظة على أي مُجتمعٍ ينتفض للمطالبةِ بحقوقه، فالظلمُ لا يسقطُ بالتقادم، وعبقرية مُنيف تجلّت في هذا العمل الأدبي الخالد في أنّه استشرف ما سيحدث في "مُدن المَلح" الحقيقية، حينَ يجورُ الحاكم مُستعينًا بالأجنبي –كما يفعل دائمًا- ويقتل كل مفضي سيهبُّ للمطالبة بحقّه وحريته.
اقرأ/ي أيضًا: 8 أعمال روائية من أدب السجون العربي
ولعلَّ مُنيف، حينَ كان يكتب سيرةَ مفضي الجدعان قبل سبعة وثلاثينَ عامًا، وضعَ نظارته على مكتبه، تنهدَ قليلاً وقال:
جوهر خبّر دولتك اللي بنوا البيب سباع
والرجال تحمي حقوقها وماتصير للأمريكان متاع
وهذي الديرة ديرتنا.
اقرأ/ي أيضًا: