هنا ترجمة مقال الكاتب زيد م. بلباجي، المكتوب أصلًا باللغة الانجليزية. زيد بلباجي يعمل معلقًا سياسيًا ومستشارًا للعملاء الخاصين بين لندن ودول مجلس التعاون الخليجي.
ربما لا يعرف الكثيرون أن الخط القرآني لا يزال يزين الأعمدة الحجرية لبعض الكنائس الصقلية. يمثل نقش "البسملة" المحفور على عمود في كاتدرائية "لا مارتورانا" في باليرمو المثال الأكثر شهرة على ذلك. كانت هذه الدعائم في كثير من الأحيان تشكل أجزاء من المباني الرومانية التي تم دمجها في هياكل جديدة من قبل الفاتحين العرب.
المساجد المثيرة للإعجاب تعد مثالًا هامًا على ثمار التسامح الإسلامي
إن انتشار مثل هذا التداخل الثقافي في العمارة في العالم الإسلامي، يدل على فترة من التاريخ سعت فيها الحركة الدينية الجديدة إلى تبني إنجازات الثقافات القائمة، بدلًا من تدميرها خلاف ما يفعله المتطرفون في عصرنا الحاضر. فبعد ظهور الإسلام، غزت الجيوش العربية نصف العالم المعروف بسرعة فائقة. وقد تم التغاضي عن العديد من الجوانب الإدارية والتنظيمية للحكم نتيجة لسرعة تطور الأحداث. على سبيل المثال، تعكس عملية النقد الإسلامي المبكرة هذا التوجه، حيث وفي ظل غياب بنية تحتية خاصة، كانت المؤسسات النقدية البيزنطية موجودة وتعمل، فاستعملها الفاتحون الجدد في صك أولى عملاتهم النقدية؛ حتى أن بعض العينات النقدية البيزنطية تحمل إعلان الإيمان الإسلامي بمعادلها اللاتيني "ديوس نيسي سولوس ديوس"، أي "لا اله الا الله". هذا الانفتاح الثقافي يعد نقيضًا لما يتبناه المتطرفون في العصر الحديث من ادعاء سيادة التقاليد الإسلامية في الشرق الأوسط، وتفردها عن غيرها.
وفي الوقت الذي استقرت فيه الجيوش العثمانية حول القسطنطينية والبوسفور، ركزت نواة الفرسان في وسط الأناضول جهودها على بناء الدولة، وإدراكًا منها أن المهارات التي تحتاجها غالبًا ما تكون موجودة بين غير المسلمين، فقد سعت إلى جذب المواهب الأجنبية، فتم جلب أهم صناع المخمل من إيطاليا، وأرقى حدادي الصلب من بلاد فارس، وظهرت البوسفور مرة أخرى كمركز للتجارة العالمية يشغلها إلى حد كبير التجار اليهود.
يشير هذا النمط التاريخي الواضح الى أن المجتمعات الإسلامية الناجحة، تقبلت بسهولة نماذج العولمة المتقدمة، متحررة من الخوف وانعدام الأمن الذي تتميز به الدول المنعزلة في العالم الإسلامي اليوم.
وعلى صعيد آخر، فإن المساجد المثيرة للإعجاب في العالم الإسلامي، تعد مثالًا هامًا على ثمار التسامح الإسلامي. فمثلًا بعد أن دخل الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، المتفرقة أصلًا والمتنوعة دينيًا، سعى الفاتحون المسلمون إلى دمج مواهب ومهارات الشعب الأصلي، مما أدى إلى ظهور بعض من أجمل مظاهر الفن الإسلامي. فتم بناء المسجد الكبير في قرطبة باستخدام أسس كنيسة فيسيغوث، وبني مسجد المنتصر على موقع كنيسة مسيحية من القرن الخامس. هذه الأمثلة المذهلة تقف كمزيج مثالي من الأنماط العربية والأوروبية.
الإرث الأكثر إثارة للإعجاب من العصر الذهبي للحضارة الإسلامية هو مقدرتها على التعلم واكتساب خبرات الآخرين
وفي القلب النابض للحضارة الإسلامية، كانت دمشق - موقع الجامع الأموي، الذي اختاره الخليفة الوليد - تعتبر مقدسة بالفعل حيث كانت في الأصل مهدًا لمعبد مخصص لحداد، ثم حل محله معبد روماني مخصص لدوليشينوس، والذي تحول بدوره لكنيسة يوحنا المعمدان.
اشترى الخليفة الوليد الكنيسة مبقيًا على الجدران الداخلية للمعبد الأصلي، الذي أصبح بعدها مدخلًا للمسجد. هذا المدخل المذهل يعد مثالًا على نمط الكنائس البيزنطية بزينتها الفسيفسائية والزخرفية، الأمر الذي لن نسمع به بين الراديكاليين الإسلاميين اليوم. وفي مثال آخر، فقد تم تصميم مسجد سليمان القانوني، الذي يعد أبرز شاهد على رعاية السلطان سليمان للفنون، من قبل المهندس المعماري الشهير معمار سنان. سنان كان إما مسيحيًا يونانيًا أو أرمنيًا، وهو المسؤول الأول عن الروائع المعمارية للإمبراطورية، الى الحد الذي أهّل من تدرب على يديه لتقديم المشورة بشأن بناء تاج محل.
كانت القدرة على استيعاب المواهب والإبداع الأجنبيين، في سبيل الخير الاجتماعي العام، سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية الناجحة، ودرسًا يستحق الاستكشاف في العصر الحديث. على الرغم من أن العمارة بحد ذاتها تعد مقياسًا تاريخيًا فعالًا للحضارات والممارسات الحضارية، فإنه يمكن القول إن الإرث الأكثر إثارة للإعجاب من العصر الذهبي للحضارة الإسلامية هو مقدرتها على التعلم واكتساب خبرات الآخرين والعمل على تطويرها.
يستند العلم الحديث مباشرة على الجهود الإسلامية السابقة لترميم والحفاظ على الأفكار اليونانية والرومانية. ففي قلب الخلافة العباسية، لعبت بغداد دورًا حاسمًا في ترجمة المصنفات اليونانية الحالية إلى العربية، وضمنت ليس بقائها فحسب، بل أيضًا زيادة تداولها.
كانت القدرة على استيعاب المواهب والإبداع الأجنبيين سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية
كان بيت الحكمة في بغداد يعد محوريًا في الجهود المبذولة للبناء على التعلم الكلاسيكي، وجذب علماء النسطورية والزرادشتية واليونانية، وقد تطور مع الوقت ليصبح واحدًا من أهم مراكز المعرفة في العالم. استمر هذا الجهد الكبير في طليطلة، حيث كانت النصوص نفسها تحت الحكم الإسلامي تترجم من العربية إلى اللاتينية لتوفر بذلك حجر الزاوية الفكرية لإنجازات عصر النهضة في أوروبا.
وفي القرن الثاني عشر زار المسافرون من مختلف أنحاء القارة "مدرسة طليطلة للمترجمين"، لدراسة الأعمال العربية المترجمة في مجالات الطب والفلك والرياضيات، وهذا الجهد الواعي لاعتماد إنجازات الحضارات القائمة والبناء عليها، لا يمكن أن يتحقق إلا بثقة صاحبت الحضارة الإسلامية المبكرة والمتوسطة.
كان الفتح الإسلامي في صميمه حاضرًا رياديًا ومبتكرًا، ربط بنجاحاته بين الشرق والغرب. ومن حسن حظنا أن الأمثلة المعمارية لهذه السمات الحضارية ما تزال قائمة
تختلف هذه الفترة من التاريخ الإسلامي بشكل ملحوظ عن العصر الحالي المتميز بانعدام الأمن، الأمر الذي أدى بدوره إلى مآسٍ ثقافية ضمن التقاليد الإسلامية، وشعور متزايد بعدم التوافق بين الدين وعملية التعلم والتي تعد معضلة يعاني منها العالم الإسلامي حاليًا.
كان الفتح الإسلامي في صميمه حاضرًا رياديًا ومبتكرًا، ربط بنجاحاته بين الشرق والغرب. ومن حسن حظنا أن الأمثلة المعمارية لهذه السمات الحضارية ما تزال قائمة، لتذكّر أبناء الحضارة الحديثة بفوائد التعلم من الحضارات الأخرى والتفاهم بين الثقافات.
اقرأ/ي أيضًا: