كان إي . ف . ستون (1907 ـ 1989) يكتب في كبريات الصحف الأمريكية، ولكن هوامش الحرية في تلك الصحف، على اتساعها، ضاقت بمقالات الرجل اللاسعة وريبورتاجاته النارية، فراحت تعتذر الواحدة تلو الأخرى عن استضافة كلماته.
لم يذهب ستون إلى بيته ليمضي تقاعده بكتابة مذكراته، بل أنشأ، وبكل بساطة، صحيفته الخاصة، أسماها "ستون ويكلي"، وراح يحررها ويطبعها ويوزعها بنفسه. وقلائل هم الذين أخذوا ذلك على محمل الجد، فأن توجد مطبوعة يقوم بكل شؤونها رجل واحد وسط مئات المؤسسات العملاقة التي تضم آلاف المحررين والمراسلين والفنيين.. هو أمر أقرب لأن يكون مغامرة دونكيشوتية لا تخلو من هزل.
اعتاد إي . ف . ستون أن يقول لطلابه إن الدرس الأول في الصحافة مؤلف من كلمتين ذهبيتين مفتاحيتين: الحكومة كاذبة. ما يعني بالتالي تحديد الموقع الذي يجب على الصحافة أن تقف فيه: ضد الحكومة، أو بدقة أكثر: في مواجهتها
لكن ما حدث هو أن مطبوعة "ستون ويكلي" احتلت، حسب استطلاع للرأي، المرتبة السادسة عشرة من بين أكثر مئة مطبوعة أمريكية تأثيرًا في القرن العشرين، وصارت مصدرًا شبه حصري لأخبار وتحقيقات لا يمكن قراءتها في مكان آخر.
وفي شبابه، عجز ستون عن إكمال دراسته في جامعة بنسلفانيا، ومع ذلك فقد استطاع، بعد تجربة صحفية مثيرة وغنية، أن يغدو أستاذًا في الجامعة نفسها، وقد اعتاد أن يقول لطلابه إن الدرس الأول في الصحافة مؤلف من كلمتين ذهبيتين مفتاحيتين: الحكومة كاذبة. ما يعني بالتالي تحديد الموقع الذي يجب على الصحافة أن تقف فيه: ضد الحكومة، أو بدقة أكثر: في مواجهتها.
قد يبدو درسًا بلا قيمة إذ أنه قريب إلى البداهة، ولكن واقع الحال في بلدان وأماكن كثيرة يقول غير ذلك. وفي منطقتنا، مثلًا، لا يزال الحديث يدور حول "الصحافة البناءة"، وهي النوع السائد، بل والوحيد، على المستوى الرسمي. و"البناءة" تعني، باختصار، أن تلعب الصحافة دور شاعر القبيلة، فتنافح عن قبيلتنا وتعدد مناقبها وتتغنى بأمجادها، وتهجو القبائل الأخرى وكل من تسول له نفسه الحاقدة أن ينال من قبيلتنا ولو بكلمة. والقبيلة هنا ليست الوطن ولا أهله، إنها تحديدًا الحكومة الرشيدة، مالكة الصحافة وولي نعمتها.
ولقد اعتقد البعض أن الإعلام الجديد سوف يجبر وسائل الإعلام التقليدية الرسمية على مراجعة نفسها وتغيير وظيفتها وتوسيع أفقها، ولكن ما حدث هو خلاف ذلك، فقد أضافت هذه الوسائل مهمة جديدة إلى مهامها، وهي دحض وتكذيب وتفنيد كل ما يرد في الإعلام الجديد ويمس الحكومة بسوء.
أتاح الفيسبوك وتويتر واليوتيوب وغيرها مساحة واسعة للقول، وهي تضخ كل يوم الكثير الكثير من الأخبار والمعلومات والأفكار وتضعها في متناول الجميع.. الجميع بكل معنى الكلمة. وكان هذا ليحفز وسائل الإعلام التقليدية الرسمية (وشبه الرسمية) على أن تنحو هذا المنحى، فتوسع من مساحة القول لديها، وتتخذ المسافة الكافية عن دوائر الحكم ليتنسى لها ذلك. ولكن سيدها (الحكومة)، الذي رباها على مهمة واحدة ودور وحيد (المنافحة عنه)، لم، ولن، يتيح لها تحولًا مثل هذا.
وبالمقابل فإن هذه الوسائل قد سعت إلى مجاراة الإعلام الجديد في أمور أخرى: الخفة والتبسيط المخل والكبسولات المعرفية الفاسدة.. وفي المحصلة فقد حازت كلا النقيصتين: الكذب المتجهم والتفاهة!.
ولا تزال "الصحافة البناءة" عندنا مصرة على عكس درس إي ف ستون، مؤكدة: الحكومة صادقة.. حتى وهي تكذب كل يوم ألف ألف مرة.