لا مكان للتسلية في الجمهورية الجديدة! هذا هو الشعار الأبرز الذي ربما يفرّق بين الجمهورية المصرية في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وبين الجمهورية الجديدة التي أسس لها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وربما كان من سخرية التاريخ أن الكلمة الأبرز التي بقت وتبلورت من مجمل تاريخ مبارك وخطبه، هي جملة "خليهم يتسلوا"، لتصبح تعبيرًا بلاغيًا موجزًا يصف ثلاثة عقود من تاريخ مصر الحديث وطريقة إدارة الحكم في كلمة واحدة "التسلية".
منح مبارك بهذه العبارة الصلاحية الضمنية للمحسوبين على المعارضة المصرية في التعبير عن اعتراضاتهم ومخاوفهم، على سبيل التسلية، كان مبارك يتحدث عن بعض المعارضين ممن قرروا تدشين برلمان مواز، اعتراضًا على التدخل الأمني الفج في انتخابات مجلس الشعب عام 2010، وعمليات التزوير الصارخة في اللجان الانتخابية لتمرير أغلبية برلمانية من أعضاء الحزب الحاكم.
لم يأخذ نظام مبارك المعارضة على محمل الجد، ولا شؤون الحكم نفسها، أدرك النظام أهمية لعب الأدوار في العملية السياسية، وضرورة الحفاظ على منفذ ضيق وأخير، أو "التنفسية" التي تحمي النظام من الانفجار
لم يأخذ نظام مبارك المعارضة على محمل الجد، ولا شؤون الحكم نفسها، أدرك النظام أهمية لعب الأدوار في العملية السياسية، وضرورة الحفاظ على منفذ ضيق وأخير، أو "التنفسية" التي تحمي النظام من الانفجار، وكانت التسلية؛ دع المعارضة تلعب دورها الذي تحب وترغب، على سبيل التسلية والمرح، وليركز النظام في الأمور الجدية.
بعدما قامت ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، أدركت نُظم المنطقة العربية، وليس فقط النظام المصري، أن استمرار عصور التسلية والترفيه لم يعد بالأمر المقبول، فالهزل من الممكن أن ينقلب إلى جد، والسلاح الذي يضعونه في يد المعارضة من أجل المزح والتلويح قد يطعن النظام في لحظة طائشة تتسبب في إطاحته.
إذن، فالتسلية أو "التنفسية" ليست بالحل المرحلي المناسب، وأيضًا كتم الأنفاس ليس حلًا مستدامًا، قد يقي النظام شرور مرحلة ما، أو يعبر به من لحظات الضغط، لكن استمرار كتم الأنفاس سيؤدى، لا شك، لانفجار غير متوقع وغير محسوب العواقب، وربما لهذا وُلدت فكرة الحوار الوطني، عودة مرة أخرى لنُظم تسلية الدولة المباركية، ولكن بشروط جديدة تلائم المعطيات المستجدة، تسلية مضمونة ومستأنسة، لها قيودها ومحدداتها التي تفرضها الدولة نفسها، بل رأس الدولة بشخصه وصفته بما إنه الداعي للحوار، ومؤسسة الرئاسة بكونها الجهة المنسقة والميسرة لهذه العملية.
استلزم الحوار الوطني أكثر من عامٍ من التحضيرات قبل أن يبدأ بشكل رسمي في أيار/مايو الماضي. عام من الترتيبات والمتابعات من الجهة الداعية للحوار، ومن الأجهزة الأمنية التي تدير المسألة من خلفية الأحداث، عام كفيل بتفريغ فكرة الحوار من مضمونها، وغربلة الشروط التي وضعتها الحركة المدنية الديمقراطية في بيان 8 أيار/مايو 2022 (ائتلاف مصري محسوب على المعارضة يضم 12 حزبًا سياسيًا) من أجل الموافقة على المشاركة في الحوار، ثم التوسع في المحاور واللجان الفرعية حتى تتوه الفكرة الأساسية المتمثلة في الأزمة السياسية في البلاد التي دفعت النظام إلى الدعوة للحوار، وعلى رأسها ملف الحبس الاحتياطي، ثم التوسع في دعوات المشاركين من أطياف عديدة ولأشخاص تركوا العمل السياسي منذ سنوات وآخرين ليس لهم علاقة بالعمل السياسي أو الشأن العام من الأساس، كان من الضروري استدعاء هؤلاء الأشخاص لاستكمال المشهد والسيطرة على "التسلية" حتى لا ينسحب الحوار إلى مساحة الجدية الخطرة.
بدأ الحوار الوطني بطيئًا لكنه أوشك على الانتهاء سريعًا بعد شهرين من انطلاقه رسميًا، حتى أن المستشار محمود فوزي، رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني، أعلن في حضرة الرئيس في مؤتمر الشباب منذ أسبوعين، عن بعض نتائج ومخرجات الحوار الوطني، وعرض على الرئيس ثلاث توصيات أولية، ثم طرح سؤالًا مهمًا "ماذا بعد الحوار؟"، وعندما تمت الإشارة إلى ملف سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا، غضب الرئيس ووصف هذا الأمر بعملية "الإنقاذ الوطني".
أوشك الحوار الوطني على الانتهاء دون الوصول إلى أي بادرة حل في الملف الأزمة، قريبًا سترفع التوصيات إلى الجهة الداعية للحوار المتمثلة في رئاسة الجمهورية، وليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وعلينا أن نسأل الأحزاب والحركات والمؤسسات والأفراد الذين شاركوا في هذه العملية عن دوافع وجدوى مشاركتهم، وعن القيمة المضافة التي ساهموا بها.
هناك تقديرات سياسية تخضع لنسبية الخطأ والصواب، وأيضًا هناك مراجعات لتلك التقديرات، وبطبيعة الحال هناك مواقف متغيرة ومتقلبة طبقًا لكل مرحلة، ما دمنا نتحدث عن لعبة السياسة، والدخول إلى هذه المساحة له تبعاته ومسؤولياته، فمن حق المواطن المصري والمتابع للأحداث والمهتم بالشأن العام أن يسأل ويطالب بالوضوح والشفافية، خاصة عن أسباب ودوافع المشاركة والنتائج المرجوة، وهل تحققت تلك النتائج أم لم تتحقق.
استلزم الحوار الوطني أكثر من عامٍ من التحضيرات قبل أن يبدأ بشكل رسمي في أيار/مايو الماضي. عام من الترتيبات والمتابعات من الجهة الداعية للحوار، ومن الأجهزة الأمنية التي تدير المسألة من خلفية الأحداث، عام كفيل بتفريغ فكرة الحوار من مضمونها
تذرع بعض المشاركين في الحوار بمحاولة فتح مساحة ولو ضيقة للتفاوض مع النظام لتفكيك ملف الحبس الاحتياطي والإفراج عن سجناء الرأي، ولكن ما أراه أن العقلية الأمنية لم تتغير وأن وتيرة القبض على المواطنين بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم مستمرة كما هي، وطبقًا للأرقام التي رصدتها المنظمات الحقوقية فإن أعداد المقبوض عليهم منذ الدعوة للحوار أكثر بضعفين على الأقل من أعداد المُفرج عنهم، وأصبح النظام يستغل البروباغندا الإعلامية في كل مرة عند الإعلان عن قائمة للإفراج عن بعض المعتقلين؛ حتى هذه القوائم توقفت منذ مدة.
أؤمن بحسن نوايا بعض المشاركين في الحوار الوطني من الزملاء والأصدقاء من السياسيين والحقوقيين والمهتمين بالشأن العام، وإيمانهم وقناعتهم العميقة بأهمية دورهم وأهمية مشاركتهم، كما أؤمن أيضًا ببحث البعض بشكل براجماتي عن المصالح وعن موطأ قدم وعن دور ومساحة في العمل السياسي داخل الجمهورية الجديدة، كذلك أؤمن بمشاركة البعض الآخر مكرهًا تحت التهديد، فالمشاركة هي السبيل للحفاظ على الأمان الشخصي، المشاركة في الحوار الوطني هي السبيل لعدم دخول السجن.
وهكذا تتحول الجلسات إلى كلمات وخطب مقتضبة يلقيها المشاركين لتبرئة ذمتهم وتسجيل موقفهم، نوع من أنواع التطهر من جانبهم ونوع من مساحة "التسلية" الآمنة التي تسمح بها السلطة، وفي النهاية تُرفع التوصيات التي يرغب فيها النظام من النظام إلى النظام.
نشر الصديق الصحافي والحقوقي حسام بهجت على صفحته الشخصية، صورة ضوئية من افتتاحية جريدة الأهرام يوم 17 حزيران/يونيو 1934 عن معضلة الحبس الاحتياطي، جاء عنوان الافتتاحية "الحبس الاحتياطي في الجرائم العادية وجرائم النشر.. دلالة الإحصاء الرسمي".. 90 عامًا غير كفيلة بحل المعضلة.. كيف وثقنا بسذاجة في إمكانية الحل الآن؟