حُسم الأمر وبات واضحًا للاحتلال الصهيوني بأنّ دور الحليف والشريك الذي أراد تكريسه عبر اتفاقيات التطبيع المسماة "اتفاقيات إبراهام" قد انتهى إلى غير رجعة، وهو ما ثبت خلال أيام كأس العالم في قطر، إذ لم يستطع أي مراسل صحفي إسرائيلي الحصول على اعتراف، مجرد اعتراف بإسرائيل، من أي عربيّ ممن حاول مقابلتهم، بل جاءت النتيجة الصادمة أنّ هذه الشعوب ترفض وجود هذا الكيان، وتؤمن إيمانًا عميقًا بفلسطين وحقها وحق أهلها.
لا بدّ من تسجيل عدة نقاط في صالح قطر، رغم خروج منتخبها الوطني من المنافسة مبكرًا، لأنها أثبتت أنّ النتيجة المبتغاة لا تأتي من أرض الملعب وحسب، بل من رؤيتها الاستراتيجية التي أعادت الاعتبار للوجود العربي
حتى عندما حاول بعض المراسلين إخفاء هوياتهم، والتنكر بهويات أخرى، كانت لدى المواطنين العرب العاديين القدرة على اكتشاف تلك الألاعيب، وتعريتها، والسخرية منها. وما من شيء يكشف مقدار صدمة الإسرائيليين بما واجهوه على أرض الواقع من حقائق سوى هذا التنكر، إذ جاؤوا وهم في غاية التأكد أنهم صاروا جزءًا طبيعيًا من المنطقة.
وبما أننا نتحدث عن كأس العالم فلا بدّ من تسجيل عدة نقاط في صالح قطر، رغم خروج منتخبها الوطني من المنافسة مبكرًا، لأنها أثبتت أنّ النتيجة المبتغاة لا تأتي من أرض الملعب وحسب، بل من رؤيتها الاستراتيجية التي أعادت الاعتبار للوجود العربي. وأولى الثمار أنها أعادت القيمة الإنسانية والثقافية للعالم العربي أمام الغرب الذي طالما سعى لحصره ضمن صور نمطية دونية، تتمثل في الإرهاب والعنف والانفعالية والتخلف، ولم يرَ مواطنيه سوى في صورتين لا ثالث لهما: الإرهابيّ واللاجئ.
كان تواجد الإعلام الإسرائيلي في قطر بناء على اتفاقية الفيفا التي تُرغم الدولة المستضيفة لكأس العالم على السماح بتواجد صحفيي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلا أن ما حدث أن الإعلام الصهيوني وجد نفسه عالقًا في بركة رمال متحركة، فكل ما زعمه وادعاه من أنه أنهى الصراع العربي – الإسرائيلي كان محض وهم، فاللقاءات الميدانية والمشادات والمشاهدات كانت بمثابة استطلاع رأي يقول بشكل حاسم إن قضية فلسطين حية في قلوب أهل مصر والخليج والمغرب والشام، وإن الشعوب غير معنية على الإطلاق بما تقوم به الأنظمة.
وفي انتظار أن تصل هذه الأخبار والصور والفيديوهات إلى الإعلام الأوروبي كي يبدأ بموشّح اتهامنا بالمعاداة للسامية، دون أي تمييز لكون الموقف السياسيّ من إسرائيل شيء وكراهية اليهود شيء آخر، ناهيك أن كراهية اليهود متصلة بأوروبا تاريخيًّا، وقد وصلت هذه النزعة المريضة إلى مأساة الهولوكوست التي حدثت لأوروبيين على أراضٍ أوروبية. ويسجّل التاريخ شواهد كثيرة على إغلاق دول أوروبية حدودها في وجه اللاجئين اليهود، مثل سويسرا، في حين فتحت الكثير من البلدان العربية والإسلامية الأبواب لهم، ناهيك عن أمثلة أخرى في الدفاع عنهم وحمايتهم، كما فعل عبد القادر ابن غبريط، مؤسّس مسجد باريس الكبير، الذي أنقذ عددًا كبيرًا من اليهود، من خلال إعطائهم بطاقات هوية على أنهم مسلمون، ما سمح لهم بالتخلص من المطاردة النازية والنجاة من الموت.
لن نكون ساذجين ونسارع إلى القول إن العدّ التنازلي لتفكك الحركة الصهيونية قد بدأ، فهذه معركة طويلة جدًّا، لكن الذي بات واضحًا أمامنا الآن هو انهزام الدعاية الصهيونية، المدعومة بالمال الغربي الوفير، وبفيالق من الذباب الإلكتروني، والتي نشطت خلال السنوات الماضية من أجل محو القضية الفلسطينية واستبدال الحقائق التاريخية بأكاذيب من قبيل إن الفلسطينيين باعوا أرضهم وهربوا، أو إنهم يخدعون العرب ويسرقون أموالهم باسم القضية، وغير ذلك من الأقاويل العارية عن الصدق، من اختراق الوعي واستبدال الحقائق، وهو ما ظنناه قد حقق نجاحًا كبيرًا نظرًا للحملات الإلكترونية الكثيرة التي شهدناها خلال الفترات الأخيرة،
إن جمال وروعة ما حدث ويحدث في مونديال قطر يكمن في الوقفة الأخلاقية والإنسانية في وجه الاحتلال، عبر رفض التعامل مع ممثليه، وعبر رفع للأعلام الفلسطينية في كل مكان
من هنا، فإن جمال وروعة ما حدث ويحدث في مونديال قطر يكمن في الوقفة الأخلاقية والإنسانية في وجه الاحتلال، عبر رفض التعامل مع ممثليه، وعبر رفع للأعلام الفلسطينية في كل مكان، وعبر الغناء والهتاف لفلسطين في الشوارع والملاعب، إلا أن ذلك وحده لا يكفي، بل يحتاج إلى مزيد من العمل اللاحق كالتظاهر والاعتصام والنشر الإلكتروني، إلى جانب الوعي بضرورة مقاطعة الاحتلال الصهيوني بكافة مؤسساته. وقتها فقط سيكون الموقف حاسمًا، وسيشكّل هذا الضغط العربي أملًا لأهلنا في الداخل، وضغطًا على الأنظمة حتى لا تتخلى عن القضية.
وقتها فقط سنقول إن التحوّل الكبير في زمننا جاء من مكان غير متوقع هو الملاعب. وإن المرح والمتعة الرياضية هي من ضخّت الدم في أوردة الأمل الفلسطيني، فجعلت عكاكيز جدودنا، وخصل الشَّعر البيضاء لجداتنا، ومفاتيح بيوتنا المهدمة في قرانا وبلداتنا المحتلة.. تستعيد كرامتها بعد محاولات المطبّعين لإهانتها.