"لا أعتقد أنَّ حكومة ثورية في أي مكان في العالم، أدخلت الشعر في جدول أعمال مجلس قيادة الثورة، ومناقشات مجلس الوزراء، وفي خطط التنمية والأعمار، مثلما فعلت الحكومة العراقية". هذه الكلمة التي ألقاها الشاعر نزار قباني في مهرجان المربد عام 1985، تشخّص بدقة ملامح الشعر السائد في زمن السلطة الشمولية؛ فالشاعر الذي صنعته الماكينة البعثية لم يكن صانع جمال ولم تكن قصائده موجهة للشارع والإنسان البسيط، بل كان موجهًا للحزب والسلطة، يتغنى بالحرب التي ولد من رحمها لتزدحم فيه كل معاني القبح.
الشاعر الذي صنعته الماكينة البعثية لم يكن صانع جمال ولم تكن قصائده موجهة للشارع والإنسان البسيط، بل كان موجهًا للحزب والسلطة.
لقد كان باختصار مجردًا من أي قيمة إنسانية أو جمالية أو إبداعية، فالقصائد كانت أغلبها "تعبوية"، تحاكي مشاريع الحزب والقائد واشتراطات الحرب ومثلت مضامين المؤسسة، أمّا الوطن فأصبح عندهم "ثكنة عسكرية كبيرة"، حتى إنَّ الكلمات التي كان ينطقها صدام حسين في لقاءاته ومهرجاناته سرعان ما تتحوّل إلى فلسفة عند الشاعر والناقد، وتنظم شعريًا، فحين يقول صدام حسين "القلم والبندقية فوهة واحدة" تلك الكلمة التي كانت تطبع على أغلفة الكتب وجداران المدارس والجامعات، سرعان ما تتحول إلى أصل معرفي في النقد والشعر والحياة، فمثلًا "يرى الشاعر علي جعفر العلاق في معرض شرحه لهذه الكلمة التي تفوه بها الدكتاتور فيقول: "قصيدة الحرب الحديثة في العراق قد قدمت إنجازًا يوازن بين ضرورات التعبئة واشتراطات الحداثة". أصبحت عنده هذه الكلمة إلى معيار وأصل معرفي، تستمد منها بأكملها عملها الكتابي! أما الشاعر حسن النواب فقد ترجم كلمة فوهة البندقية والقلم إلى نص شعري: "لكَ أن تأتي / مشتعلًا / بالشعر الخاكي/ أو تبقى في دوامة/ نيران الحرب/ ملاكًا ابدًا".
اقرأ/ي أيضًا: حوار جماعي | الشعر في زمن الثورة.. هل للدم في فم الشاعر طعم الاضطهاد؟
لقد وقف الشعر في تلك المرحلة إلى جانب المذبحة والعمل في إطار المشروع المؤسساتي معلنًا خدمته الدائمة للحرب، لقد أفرغ تمامًا من لغة المشاعر، فصار لا يحمل من الشعر إلا اسمه لقد كان خطابًا عسكريًا صبَّ قسرًا في قوالب الشعر، فشعراء تلك المرحلة يجدون في الحرب متعتهم وفي القتل هواية شخصية ولم يتركوا طريقة للقتل أو للإعدام او للتعذيب إلا وضمنوها في نصوصهم، لقد كانت موسيقاهم المفضلة صوت الرصاص والدوشكا، والمدفعية صوتهم العالي.
يقول الشاعر كزار حنتوش: "القناصون المهرة/ ورماة الدوشكا/ عزفوا لحنًا شعبيًا" ويقول شاعر السُلطة كاظم الحجاج: "في أم الرصاص/ رصاص الاغتيال/ لم نزل نذكر في البصرة موالًا يقول: خلْ عدوك يعبر الشط وانتظر/ من يصير بصفحتك/ لازم يموت/ ولهذا فاطمئنوا".
تجتمع هذه النصوص الدموية بعدة ثيمات منها "تمجيد الحرب، مدح القائد، تصوير الحرب على إنها جنة المأوى، ودفع الناس إلى المحرقة، انعدام قيم التسامح، تمجيد القتل والإعدامات في الساحات والشوارع، التفنن بالقتل والتعذيب، تخوين كل صوت يغرد خارج السرب، توظيف كل شيء لصالح الحرب لقد كان شعرًا مؤدلجًا بامتياز فقد كل خصوصية الشعر، وشق عبر الكلمات انهارًا من الدم، فهي نصوص تجمع على مائدة الرداءة حينما تطالعها لا يتردد إلى سؤال واحد في ذهنك "أي نص أكثر وحشية من غيره".
تبريرات.. وتزيف للحقيقة
بعد سقوط نظام صدام حسين في نيسان/أبريل 2003، برّر الكثير من الشعراء مواقفهم السابقة من النظام، وركوعهم الدائم أمام أقدام صدام ومنظومته الحزبية، وكان التبرير الأكثر تكرارًا هو أنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وأنَّ كتاباتهم هي عربون يدفع للسلطة من خلاله يضمنون حياتهم!
بعد سقوط نظام صدام حسين، برّر الكثير من الشعراء مواقفهم السابقة من وركوعهم الدائم أمام أقدام منظومته بأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم
في كتابه "الخاكية"، يتساءل عباس خضر في ضوء هذه التبريرات "ألم يسمع بعضهم بمحمود البريكان في العراق، ألم يكن من الصامتين الذين عجزت وحشية السلطة عن استنطاقه لصالحها... والأمثلة من الثقافة العالمية كثيرة. الكثيرون ممن نعرفهم شخصيًا، امتنعوا عن النشر في أروقة الحكومة وعكفوا على العمل الصامت، اختار البعض منهم مهنًا أخرى، فقط للحفاظ على الذات من مشاركة الطاغية في إتمام الخراب".
اقرأ/ي أيضًا: صمود الشعر في عالم يتهاوى.. لا تتبعوا الشعراء لكن صدّقوهم
وعن تبرير الكتابة لأجل تحصيل لقمة العيش يقول خضر: "لا أظن بأن العراقيين يومها كانوا جميعًا من الأغنياء، ولم يكونوا قبلها ولا اليوم أيضًا، وليس الفقر شهادة براءة من الجريمة... وأغلب كتّاب العراق المعروفين بمواقفهم من الطاغية، جاؤوا من عوائل فقيرة، ولم يبيعوا أقلامهم بسبب الفقر، ولم يقطعوا بسكين الطريق على العابرين".
ويعتقد خضر: "أن حجة الحاجة والفقر في مثل هذه الحالة من أوهن الحجج ومن أكثرها مثار للسخرية، لا بد من الاعتراف أن خلف ركوع النص للطاغية يوجد استعداد نفسي لبيع الذات يتمتع به هذا الاديب أو ذاك".
حذف واستحداث!
في كتابه "الجراحات والمدارات"، يتحدث سليم دولة عن ما أسماه بـ"المثقف الزئبقي" فهو بحسب ما يصفه: "يساري مثلًا على صعيد الشعارات التي يرفعها، سلفي السلوك، يميني الطموحات، أسطوري/ خرافي النظرة الى العالم".
هذا الوصف ينطبق تمامًا على حالة الشعراء بعد 2003 فعلى سبيل المثال حينما نتتبع سيرة الشاعر العراقي كزار حنتوش، نجده قد وظف أغلب نصوصه لمديح الدكتاتور وتمجيد الحرب، وبعد سقوط النظام كتب القصائد للحزب الشيوعي في عام 2004، ومن ثم كتب الشعر في مديح الشخصيات الدينية، ومنهم مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري في الوقت الذي كانت ميلشياته موغلة في دماء العراقيين.
ونجد شعراء آخرين حذفوا بعض الكلمات التي كانت ترتبط بالنظام السابق وصدروها على أنها قصائد جديدة، ومنهم عدنان الصائغ الذي يقول في قصيدته: "ومكي/ أيدخل خيمتنا/ في المساء كعادته/ يحدثنا عن بطولات تشرين والقادسية". فقام الشاعر بحذف كلمتي تشرين والقادسية ووضع بدلًا عنهم كلمة "عذاباته"، وبحسب عباس خضر "إن عدنان الصائغ فعل ذلك مع أغلب قصائده الخاكية بعد خروجه من العراق! وهناك بعض القصائد التي قام هذا الشاعر بحذفها تمامًا من مجموعته "انتظريني تحت نصب الحرية" كقصيدة أحاديث الموقد التي يتغزل فيها بقناصة، القناصة لا غير".
"المثقف الزئبقي" بحسب سليم دولة: يساري على صعيد الشعارات التي يرفعها، سلفي السلوك، يميني الطموحات، خرافي النظرة الى العالم
وبعضهم لم يكلف نفسه كثيرًا عناء التغيير فقام بحذف كلمة صدام من قصائده ووضع بدلًا عنها أحد رجال المرحلة، سواء كان رجل دين صاحب نفوذ او سياسي يسيل لعابه أمام كلمات المديح.
الخاكيون الجدد
في 10 يونيو/ حزيران 2014، اجتاح مسلحو تنظيم "داعش" الموصل، ثاني كبرى مدن العراق بعد بغداد، وسيطروا عليها خلال ساعات، بعد انهيار قوات الجيش، لم يكن حدث سقوط الموصل أمرًا مفاجئًا بل كان متوقعًا بسبب إساءة استخدام السلطة من قبل رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، وطريقة تعامله مع أهالي المناطق الغربية بطائفية مقيتة؛ حيث استخدم السلاح والبراميل المتفجرة للقضاء على الحراك الاحتجاجي الذي نشأ هناك، كما أنَّ السلطة أصبحت وقتذاك مشخصنة، اندمجت كليًا بالمالكي، وأول من تأثر بهذه الشخصنة المؤسسة العسكرية التي تربت على الطائفية وحماية المقدسات، ولم تتبلور فيها الهوية الوطنية ربما حتى يومنا هذا، سقطت الموصل وكل المؤشرات تدل على أنَّ هناك مؤامرة مدبرة لسقوطها، خصوصًا إذا عرفنا ماذا ترتب على هذا السقوط.
اقرأ/ي أيضًا: طفلٌ لاعب باللاهوت.. عن الشعر والتشيّع
كانت أغلب الفصائل المسلحة الموالية لإيران موجودة على أرض الواقع وتمتلك السلاح والمال، وبمقدورها محاسبة أي شخص خارج قانون الدولة، لكنّ الشرعية هي ما كانت بحاجته هذه الفصائل المسلحة، حتى تعطيها المقبولية في عيون العراقيين وتعطي دفعة معنوية للشباب العراقيين للانتماء إليها.
في حزيران/ يونيو/2014، أصدرت المرجعية الدينية في النجف فتوى "الجهاد الكفائي"، وعلى ضوء ذلك التحق الآلاف من المتطوعين إلى الحشد الشعبي لمحاربة تنظيم داعش، وأول من أيد هذه الفتوى هو المرشد الإيراني علي الخامنئي إذ وصفها وقتذاك بـ"الإلهام الإلهي"، مع وجود رجال دين ونخب مثقفة في الداخل رفضوا هذه الفتوى وقالوا إنها تعزز الطائفية وتعمق من الأزمة بدلًا من حلها، كما أن لها نتائج كارثية تظهر في المستقبل.
عمومًا ما فعلته الفتوى هو دفع الشباب إلى التطوع في صفوف القوات الأمنية، وأعطت الشرعية للفصائل المسلحة التي كانت موجودة على أرض العراق، وتدفع بعض مقاتليها للدفاع عن نظام الأسد في سوريا تحت ذرائع طائفية. كما أنَّ الفتوى رفعت من معنويات الجيش العراقي وأعطت معنى لتضحياته وهو مفهوم الشهادة، بعد انزياح مفهوم الوطن والمواطنة في عراق ما بعد 2003، فقد نصت فتوى السيستاني إنَّ من يقتل في هذه الحرب فإنه سوف يكون شهيدًا.
عمومًا مهما تكن حرب تحرير الموصل التي لا تزال غامضة المعالم حتى يومنا هذا، بانتظار اليوم الذي تكشف فيه جميع أوراقها، إلا أنه لا يختلف أحد على أنَّ الحرب تحمل كل قيم البشاعة حتى وإن تغلفت بمعاني القداسة، دور الشاعر والمثقف هو بيان تلك الحقيقة للناس، بيان بشاعة الحرب ومآلاتها ولا يشعل حربًا ثانية على أرض اللغة، ويوظف الشعر الذي هو اشتغال جمالي وإنساني ليقوم بدور هذه المعركة؛ وبذلك لا يصبح الشعر شعرًا ولا الشاعر إنسانًا بل هو أقرب إلى المسخ يقدس طقوس الموت، ويرقص على صدى صوت الرصاص والمدافع!
في كتابه "خريف المثقف العراقي"، يقول محمد غازي الأخرس: "إنَّ منطق الثقافة العراقية بعد سقوط دولة البعث ظل كما كان عليه قبل الحدث المزلزل"
في كتابه "خريف المثقف في العراق"، يقول محمد غازي الأخرس: "إنَّ منطق الثقافة العراقية بعد سقوط دولة البعث ظل كما كان عليه قبل الحدث المزلزل... الحال إن اللحظة السابقة استعيدت وسار اللاحقون على خطى السابقين حذو النعل بالنعل".
اقرأ/ي أيضًا: العراق ثورة
كلام الأخرس على صعيد الشعر نجده ماثلًا أمامنا إذا طالعنا ديوان "إلى فتية القمح.. تراتيل في حضرة الحشد المقدس" من إصدارات منتدى أدباء وكتاب المدينة، وبدعم من حركة حزب الله في العراق، التي تمتلك جناحًا مسلحًا باسم سرايا الجهاد تعمل في العراق وسوريا.
ضمَّ الديوانُ 73 نصًا لشعراء عراقيين وعرب تغنّوا ببطولات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة وأشادوا بتضحيات العراقيين والقادة في مواجهة داعش في حروب التحرير. أبرز ما دفع الشعراء إلى المشاركة في هذا الديوان هو الجائزة المالية الضخمة للنص الفائز، وهي أربعون مليون دينار عراقي.
لا تختلف أغلب نصوص هذا الديوان عن نصوص شعراء حقبة البعث، ذات اللغة والمفردات والثيمات، لا يوجد غير المديح وتمجيد الحرب ودفع الشباب إلى الاحتراق في حطبها وتخوين الآخر وغياب تام للقيم الإنسانية والجمالية، وتحضر أسماء السلاح في كل أشكالها، فالشعراء هنا لا زلوا يرقصون على صدى صوت الرصاص كما كان يفعل شعراء البعث، أغلب قصائد هذا الديوان هي من الشعر الموزون، الذي يتحمل هذه المهمة مهمة المديح والذم والتعبئة، وإشعال الحرب في اللغة، والقيام بمجزرة ثقافية عمادها القتل الرمزي.
بعض القصائد كانت تعد الشعراء بالحور العين وملامسة أنامل الرب مثل قصيدة الشاعر باسم الحسناي: "يصافحُ بالروح الشهيد ربهُ/ فلا شيء إلا ربه وأنامله/ فطوبى له إذ قاب قوسين إذ دنا/ وطوبى له إذ حورُه وخلائلهْ"، أما الشاعرة جنان المظفر فقد مثلت الدم بالإيقاع والنبض للقصيدة تقول في قصيدتها إيقاع الدم: "الدم إيقاع ونبض قصيدة/ تلك القصائد تشتهي أشعارها".
وبعض الشعراء اضفى القداسة على "البسطال" الذي يرتديه المقاتل في الحشد واعتبر الرصاص كلام الله! "المانحون بساطيلًا مقدسة/ هذا التراب كرامات من السير/ هم النبيون جدًا في تصورهم/ إن الرصاص كلام الله للكفر/ يطبرون رؤوس الداعشيين بما/ قد ألهموا من حسين الله بالفكر".
ثمة ديوان شعري دعمه الحشد الشعبي لا يختلف شعراؤه في تمجيدهم الحرب عن شعراء زمن صدام حسين
أما الشاعر زمن الجراح فيقول في قصيدته متهمًا الآخر بابن الزنا وهي صفة غالبًا ما يطلقها الصدرييون على خصومهم ولها جذر في كتب التراث، "من وارث كرهة لحيدرةٍ/ غير ابن أمٍ زنت ومأبون".
اقرأ/ي أيضًا: أن تكون في بغداد
أما الشاعرة زينب الخفاجي فقد مثّلت في الشبابَ وهم يهرولون إلى الحرب برحابة صدر ويتحول عندها التابوت إلى مهد والأسى زغردة وعرس تقول في قصيدتها: "وحشد الله/ يهرول نحو الشهادة/ بسعة صدر/ وطنًا يموت الموت/ ويتحول التابوت إلى مهد/ والأسى زغرودة عرسٍ". وهناك من الشعراء في هذا الديوان من يشرب نخبه دمًا مثل الشاعر سيروان محمد الذي يقول: "في الحرب نشربُ أنخابًا معتقة/ من الدماء فلا شلت أيادينا". وهناك من يشبه موت الشباب بالذي يشرب التبغ بشفاه مبتسمة: "راحوا يلوكونَ تبغ الموت/ باسمةً شفاهمْ".
وعلى طريقة زغردة الشاجور والرقص على صدى صوت الرصاص التي مر ذكرها في مرحلة شعراء البعث يستخدم الشعراء هنا ذات الكلمات وذات التوظيف: يقول الشاعر غانم العيساوي: "لو زغرد الشاجور كنت نشيدهُ/ لو يرقص الشاجور كان غنائي/ زفي إليه الموت مثل عرائس". وتشترك معه قصيدة شاعر آخر في ذات الوصف والتوظيف: "أناملُ اليافعين السمر تُشعلني/ على الزناد.. وتشدوني أذا عزفوا".
ولم يسلم الأطفال الرضع من التوظيف للتعبئة الحربية في هذا الديوان فتقول قصيدة محمد السويدي: "فطمنا على صوت الرصاص رضيعنا/ وأكبرنا ليس المنايا تقامره". وليس غريبًا في ظل هذه الثقافة السائدة والمرجعيات الأيديولوجية التي يتكئ عليها الشاعر أن نجد أحدهم يرغب بتعبيد الطريق بالجماجم بلغة عنيفة قد تزاحم وحشية خطابات "الجماعات الإرهابية" فنجد في قصيدة وسام الحسناوي: "نعبدُ دربًا بالجماجمِ تارةً/ وأخرى دمًا من نزفهِ نخنقُ النهرا/ نلاقي وحوش الذبحِ بالذبحِ أينما/ تخفوا وفي قيعانهم نحرزُ النصرا".
من المضحك المبكي أنَّ أحد الشعراء الذي نشرت قصائدهم برعاية الحشد الشعبي، كان يعاتب أباه لأنه لم ينجب له ألف أخ ينذرهم في طريق الموت ويشاركونه القتال
ومن المضحك المبكي أنَّ أحد الشعراء كان يعاتب أباه لأنه لم ينجب له ألف أخ ينذرهم في طريق الموت ويشاركونه القتال، كما تقول قصيدة ضياء الخاقاني: "كم كنتُ أحلم أن يضمَّ البيتُ ألفَ/ مقاتلٍ، لمَ يا أبي؟ هذا عتابي".
اقرأ/ي أيضًا: 13 شاعرةً من العراق.. فصل الدم عن الماء (1 - 2)
إن مضامين هذا الشعر لا تختلف كثيرًا عن مضامين شعراء البعث، الكلمات ذاتها الوظيفة ذاتها والوحشية ذاتها، كما أنه يتماهى معه بكونه يفقد كل مقومات الشعر فكانت نصوصًا تعبوية تسير جنبًا إلى جنب مع السلطة ومؤسستها العسكرية وتمثل أهدافها ورغباتها.
احتجاجات أكتوبر.. تحرر الشعر من سجون الأيديولوجية
وضعت احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر، التي انطلقت في عام 2019 ولا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، حدًا فاصلًا بين شاعر السلطة وشاعر الشعب، وذوبت المنطقة الضبابية التي تتيح للشاعر التأرجح بين هذه الثنائية.
كما أنها جعلت الشاعر مراقبًا وفعلت سلطة الضمير الأخلاقي وأعطته رسالة: إنَّ من يسخر قلمه للسلطة يزول بزوالها ويصبح لعنة تتجدد على أفواه الناس، وإن مرحلة التنقل من دكان إلى آخر قد ولت وانتهت وكُشفت أوراقها السرية.
يقول عباس خضر واصفًا هذا النمط من الشعراء: "لم يدركوا أن الأرض قد دارت في الذهن البشري، فما زالوا للأسف يعيشون في عقلية البلاط والقوافي الملكية".
لذلك فإن من خصوصية الحدث التشريني هو أفول القصيدة الكلاسيكية وصعود للقصيدة الحديثة، والسبب أن القصيدة الموزونة كانت متهمة طوال تاريخها، بسبب قدرتها على التعبئة والتحشيد وإبداء المديح، وقدرتها على تجاوز الحالة الشعورية للشاعر وتوظيف متطلبات العسكرة وضرورياتها، وتمجيد آلات القتل والتعذيب؛ لذلك فهي قصيدة ربت في أحضان السلطة ولم يطهر أغلب أصحابها مواقفهم إلى يومنا هذا، ولم يجدوا مكانًا محترمًا لهم بين حركة الاحتجاج، وإن غازلوها ببعض القصائد كإسقاط فرض مقابل دواوين كاملة كتبوها في مديح السلطة وما يتصل بها.
يقول عباس خضر عن شعراء السلطة: "لم يدركوا أن الأرض قد دارت في الذهن البشري، فما زالوا للأسف يعيشون في عقلية البلاط والقوافي الملكية"
على عكس ذلك نجد أنَّ قصيدة النثر نأت عن هذا الطريق وذلك لعدة أسباب أهمها أنَّ قصيدة تثير قرف الحكام لعجزها في أن تتحمل أغراض المديح والهجاء ولم تكن لها الريادة في رفد الثقافة "التعبوية"، كما هو شان القصيدة الموزونة التي تطرب أذن الحاكم وتطرز تاريخه شعرًا وتحفل ببطولاته.
اقرأ/ي أيضًا: 13 شاعرةً من العراق: كل ما أدخر من الوجوه (2 - 2)
يقول محمد غازي الأخرس في "خريف المثقف": "أما كتاب قصيدة النثر، فإن القاعدة عندهم هو الابتعاد عن درن النظام الحاكم أثناء الكتابة واللهاث خلف كل ما تكرهه السلطة من أفكار" (ص41).
نلاحظ من خلال القصائد التي كتبت من وحي الاحتجاج التشريني، ما يشبه التأسيس لملامح جيل شعري جديد، يضع خطًا فاصلًا بين السلطة والناس، ويعزز من مفهوم المثقف المستقل، مبديًا احترامه للشعر ووظيفته الإنسانية.
حينما نطالع القصائد التي كتبت نراها تؤمن بالسلم، وتتبنى قيم الجمال واحترام الآخر، فعلى الرغم من العنف الذي استخدمته السلطة والميليشيات فإن القصائد لم تتغنَ بالموت على الرغم من أنها كانت في وسطه، ولم تعبئ الشباب وتدفعهم إلى المحرقة ولم تدعُ إلى رفع السلاح، والرقص على أصوات الرصاص، لقد كانت قصائد تمجد الحياة وتبين بشاعة الموت، وتحاول قدر الإمكان قرع أجراس الضمير في رؤوس القتلة.
كما أنَّ النصوص الشعرية حافظت على عمقها، ولم تقع في منزلق المباشرة والابتذال، مثلت مضامين الاحتجاج لكنها لم تفقد خصوصيتها كقصيدة جمالية تصنع الحياة والوعي، ولها القدرة على أثارة الدهشة وعبور الزمان وبذلك تمكنت من استعادة كرامة الشعر المهدورة بعد أن حررته من سجون الأيديولوجيات وبثت فيه روح الإنسان وهمومه.
هنا أضع لكم ثلاث قصائد كتبها الشعراء من وحي الحراك التشريني، هذه القصائد اراها أنموذجًا للشعر الذي كتب في تلك المرحلة والتي تحمل عدة خصوصيات منها: العمق، السلمية نبذ العنف، وأهمها التحرر من المرجعيات الثقافية السابقة، قدرتها على تجاوز الزمان والمكان، ووفائها للشعر كقيمة جمالية وابداعية.
ثلاث قصائد من وحي الحراك التشريني
1
لن يهزموا الشهيد
قال عجوز يحتضن
صورة مراهق ويقبض على لحيته كأنها هي الأخرى سترحل، ثم تركها قبالة نصب التحرير ومضى. تكاثرت الصور، وُضعت الرايات الدامية والخوذ المهشمة، رُتبت القنابل المنفلقة، وارتفعت رائحة ضريح في المكان.
"لن يهزموا الشهيد"
قال العجوز وقد ازدادت لحيته بياضًا، وهنت يدُه فلم يقبض اللحية، أشعل شمعة أمام صورة ابنه، وشارك زوار الضريح نشيجًا ومضى. كانت الشموع المشتعلة تزداد حتى غدت الصورة من الأعلى كتلة نور طافية.
"ألم أقل.. لن يهزموا الشهيد؟"
من أعلى جبل الثورة تدلت صور الشهداء، غطت واجهات الهواتف وظهورها، ورُسمت على صدور القمصان ودبابيس المعاطف. كان العجوز يحلم أن صورة المراهق انعكست في السماء، وثمة من يمطرها بالنار دون جدوى، ثم ارتقى إليها.
• علي رياض - بغداد
2
مأساة العادي
أيُّ يومٍ من التقويم هذا؟
إنَّه اليوم الذي سأموت فيه،
إنَّه اليوم الذي يتكرَّر كلَّ يوم
وأموت فيه.
بم قايضني العالمُ لكي أحمل كلَّ هذا الألم؟
الحزنُ اسمي الثاني وحصّتي من كنز الشعور،
مبذولٌ لأسمّن كتبَ التأريخ بالوجعِ
وأقبر نفسي كي تتوالد السِّير
قيامي من الفراش قيامةٌ
أسيرُ إلى نهايتي وظِلِّيَ يسبقني
فهل تخجل شمسٌ من هذا الوضوحِ؟
اذكروني لو حرّكت الرّياحُ غصنًا وصاح عصفورٌ بريءٌ،
سأكون محتاجًا لأن تذكروني
يُسأل عني فراغُ الحدائقِ ولا يجيب، كنت زهرتها المضيئةَ،
لكنّْ يدًا عسراءَ أطفأتني،
ورغم إدراكي أنَّ كلَّ فجرٍ يحمل خيانته، لكنّي مصرٌّ على الاستيقاظ، إنَّه شيء يمنعني من الصمت
ومع كل شهيقٍ أشعر أنَّ خنجرًا يتوغَّل في صدري، هذي الخناجر أعرفها، أسئلتي وندمي وشكوكي ولكنَّ لِمَ دمي غريب؟
تبدَّلت صورة خوفي، بطلت دهشة المجهول وصرت أخاف من الّذي أعرف،
أمشي إلى حتفي كمن يملأ فراغًا صحيحًا
وكلًّ الجهات تحمل خبرًا واحدًا:
أنَّى ولَّيت وجهك ستكون ميتتُكَ عراقيةً.
وعليه أبذر حلميَ في القفارِ
وأعرف أن اسمي يرادفُ الضياعَ في حفلة الغربان،
وأنَّ حياتي المنزوعة منِّي لم تكن حياةً
كانتْ وفاةً مؤجَّلةً
وموعدًا مع عدمٍ آخرَ
لا أسمع فيه نداءَ قلبي
حين يخنقه تلٌّ من جثثِ إخوتي،
بقيَ أن أفقد نبضيَ وقد فقدتُه
وحقّقت كمال الموت وبهجتَه،
أنا مغدورٌ
واسمُ قاتلي ينموَ في لافتات الشَّوارعِ.
• مبين خشاني- الكوت
3
مثل أي عراقي سيموت
يتساقطُ المطرُ خجولًا على وجهك الخمريّ
ويمرر الهواءُ شفتيه على شعرك
تمرّ الاغاني هادئة فيك، مثل وردةٍ ناعسةٍ في الليل..
وتبتسمين لي من العالم الاخر الذي تعيشين.
اردّ لكِ الابتسامة والنظرة الخارقة
ابتسم لكِ،
ويتساقطُ من وجهي شفَقة المتعبين من الحياة
شفقةُ الباحثين عن وطنٍ في اي شيء
ولم يجدوا غير قبورِ اصدقائهم تتسلى بهم
يحلقون بالأمل البطيء وبالأيام الحزينة الدافئة
التي كسّرت اجساد من عرفوها
وتركت اسماءهم منقوشةً بحجر المقابر والقلوب.
ابتسمُ لكِ جيدًا،
انا افتشُ عن وطنٍ ايضًا
في ابتسامةٍ عابرة
في خصلةِ شعرٍ تقبلها رياحٌ عابرة
في شفقةِ المتعبين، وفي تساقط المطر الخجول.
تنطقين كلامَكِ بهدوء شجرةٍ خريفيّةٍ عرفتْ حكمة الانتظار المرّ.
واكلمكِ بصوتٍ مختنقٍ بالدخان والرصاص والجثث.
لا املَ من اي شيءٍ،
هي الحياةُ الرديئةُ تبدل وجهها في كل حينٍ.. تقولين.
لا املَ، اقولُ انا، ولكن..
تطبقين شفتيكِ، كمن انتهى من قبلةٍ هائلة قرب بحيرة باردة.
وافتحُ فمي فاغرًا، كمن لمس قنبلة الغاز في رأسهِ
واصمتُ بعدها الى الابد..
واظلّ اسألكِ بجمالك كلّه، ان تجدي لي معنىً لكلّ هذا
ان تلمسي حياتي
او تمسحي بخصلةٍ شقراءَ منكِ
شفقةَ المتعبين من وجهي
تبتسمين لي،
ابتسمُ لكِ، مثل اي عراقيِّ سيموتُ..
وائل السلطان- كربلاء
اقرأ/ي أيضًا:
السردية التعبيرية في مجموعة "عالم الغريب"