بعلامة تحذير حمراء فاقعة اللون ولغة صارمة، ومن دون سابق إنذار، يُقال لك "لقد قمنا بإضافة بعض القيود لحسابك"، وتختلف العقوبات المرافقة لذلك الحُكم، بين تقييد النشر أو التفاعل، منع بث المقاطع الحية، أو تقييد الوصول في أفضل الأحوال. أن تتحدث ما تشاء، ونحن نحدد إن كان سيستمع إليك أحد. هذا ما حدث ويحدث مع آلاف المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الأيام، إن وقعوا بالمحظور، وأشاروا إلى إبادة جماعية تحدث على الهواء وتوثقها طائرات التصوير المسيّرة، في ذاك المكان.
في مقالٍ آخر، كنا سنحتاج لفرد المساحة لشرح مفاهيم قمع وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media Oppression) والحجب في الظل (Shadowban) وكيف تعمل، تلك التي ظنَّ المستخدمون عندما استهدفت دونالد ترامب أنها عقوباتٌ للأقوياء، أصحاب التأثير والنفوذ الواسع فحسب. لكن لا حاجة لشرحها اليوم، وكلّنا صرنا تحت سوط جلّادٍ يدعى "معايير المجتمع"، ينفذ مانيفستو "الشروط والأحكام".
في ليلة ماطرة في العاشر من مايو/أيار 1933، في برلين و21 مدينة ألمانية أخرى، احتشد آلاف النازيين لمشاهدة ألسنة اللهب المُستعرّة تلتهم مئات آلاف الكتب السياسية والأدبية والعلمية التي رأت القيادة أنها "غير ألمانية" دون كتابة تعريف واضح لما قد يعنيه ذلك، تمامًا كما قد تُعتبر معلومات ما "زائفة" اليوم، وتغدو "صحيحة" إن تغيرت الصورة المُرفقة معها غدًا، أو مع تغيير لغة النص من لغة تُكتب من اليمين إلى اليسار إلى أخرى.
برزت طرقٌ عديدة للتحايل وإيصال الصوت، ككتابة النص السياسي في صورة وإرفاقها بوصفٍ عشوائي، أو التشفير بإشارات التعجب والنسبة المئوية والخطوط الفاصلة بين الأحرف، أو تذييل النص المُراد نشره بالعلم الأزرق والأبيض ذي النجمة السداسية
بعد تلك الحادثة، ومع فرض وزير الدعاية الألماني جوزيف جوبلز قبضته على كل شيء يُطبع ويُنشر ويُقال، وحتى انتصار "الخير" على "الشر" عام 1945، ظهر نوعٌ جديد من الكتابات الصحفية والسياسية في ألمانيا يدعى "تارنشغيفتن" (Tarnschriften)، أي المنشورات المموهة، وهي صُحف وكتيّبات تحمل أكثر العناوين إثارة للملل؛ مثل دراسة عن أحدث أنظمة المرور لراكبي الدراجات، ودليل حول كيفية حماية البطاطس من الصقيع، وينطوي بداخلها المحتوى السياسي، في محاولة لمراوغة المحقق المشبوه.
نُشر حوالي 10 آلاف "تارنسشيفت" خلال تلك الأعوام الإثني عشر، وبدلًا من إعلام قراءها بكيفية التنقل في حركة المرور في المدينة على دراجة وتقديم النصائح البستانية، احتوت إحدى المنشورات على فكر اشتراكي ومناهض للفاشية، وتساؤلات حول الحرب وسياسات هتلر الحربية، ومناقشة أفضل السبل لدعم السجناء السياسيين وأُسرهم.
كُتيّب مموّهٌ آخر بحجم الكف تجدر الإشارة إليه في هذه الأوقات، كُتب اسم الزعيم النازي والتر بوتش على غلافه، وعُنون بـ "أسس الشعب اليهودي: تصفية حساباتٍ مُلحّة" وفي تناقض صارخ مع محتواه الظاهري، احتوى على رواية عن اضطهاد اليهود في ألمانيا النازية، يُدين بها كاتبه المجهول المجازر الجماعية التي نزلت بهم منذ بداية عام 1933.
يقول كارل ماركس: "التاريخ يكرر نفسه. في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة". بيد أنه يصرّ على المأساة في هذه المرة. خلال الأيام القليلة الماضية، وفي محاولة لمراوغة المحقق المشبوه الذي يُعرف باسم "الخوارزميات"، برزت طرقٌ عديدة للتحايل وإيصال الصوت، ككتابة النص السياسي في صورة وإرفاقها بوصفٍ عشوائي، ككيفية التنقل في المدينة على دراجة مثلًا، أو التشفير بإشارات التعجب والنسبة المئوية والخطوط الفاصلة بين الأحرف، أو تذييل النص المُراد نشره بالعلم الأزرق والأبيض ذي النجمة السداسية مع الوسم الداعم له كما فعل من نسب كتاباته إلى والتر بوتش.
مع بزوغ عصر وسائل التواصل الاجتماعي (التي تُعد ترجمة "الإعلام الاجتماعي" أوفى للأصل)، قبل حوالي العقدين من الآن، قيل إن التقنية ستحوّل كل مواطن إلى ناشر، ونشأ إثر ذلك مفهوم "المواطن الصحافي"، إذ انكسر احتكار الشركات الإعلامية العملاقة على نشر المعلومات، ونزل الحاجز من الحاجة إلى المطابع وأجهزة الإرسال التلفزيونية وأبراج الراديو إلى هاتف محمول واتصال إنترنت لا بأس به. ما جرى في النهاية هو نقل الاحتكار من نادٍ إلى آخر، أكثر قوة وبحجم دول، لا يقول لك ما يريده مباشرةً كما الأول، بل يُرغمك أنت على قوله، أو ليفنى صوتك.
بجانب مئات الكتب والأفلام والمقالات التي خلّدت حادثة حرق الكتب على أيدي النازيين على وصفها رمزًا للاستبداد الفكري، هناك في ساحة بيبيلبلاتز في برلين نصب تذكاري لحادثة إحراق الكتب بعنوان "المكتبة الفارغة"، وبجانبه توجد لوحة قريبة تقول: "حيثما تُحرق الكتب، في النهاية يُحرق الناس أيضًا".
اليوم، لن يكون هناك مشهدٌ شاعري للنار تسرق الكلمات تحت المطر وتترك محلها الرماد، يمكن تحويله للوحات وتُبنى محلّه الصروح التذكارية، بل بضعة تعليمات برمجية مملة تترك خلفها رسالة "المحتوى الذي تبحث عنه لم يعد متاحًا" على كل شاشة، إلا أن حرق الكتب لم يتوقف، اللون الأحمر ما زال حاضرًا، وستجد الـ "تارنشغيفتن" طريقها في كل مرة.