ميزت حضارات العالم القديم بين دور المرأة (مجال الداخل: المنزل، الأطفال). وبين دور الذكر (مجال الخارج: الصيد، الغزو) إذ كانت الحياة مفتوحة، تكاد تخلو من أي قواعد اجتماعية أو قانونية مفروضة، فكل شيء ينظّمه إيقاع الفصول. إلّا أن أعوام 4000 قبل الميلاد بدأت في قوننة الأرض وإجراء التعديلات المجتمعية، معلنةً قيام العصر الحجري الحديث.
يعود اهتمام بعض ديانات العصور القديمة بدم الأنثى إلى أن عنصر الدم كان دائمًا في قلب طقوس السحر الباطنية
شاع نظام المجتمعات الأموميّة، حيث المتحدرات من امرأة يبقين في نفس المسكن (الكهف) أما الرجال، فهم من يذهب للعيش معهن. تربت الفتيات والأطفال الصغار في عشيرة الأمهات ونسبوا إليهن. في ذلك الوقت، لم يكن من المتصور أن يصبح للذكور أي سلطة على النساء.
ضمن هذا الإطار، كانت الأنثى تَحضُر بشكل عام في الطقوس السحرية والدينية، وبشكل أدق، كانت تحضر بسبب الدورة الشهرية. ذلك الدم الذي يهرق عفويًا وطبيعيًا على الأرض؛ قد دعى بدايةً للاعتقاد بأن صاحبته تمتلك من القوى ما يمكّنها من تخصيب الحقول. بعد ذلك أوهَم بامتلاكها للقداسة، إلى أن مَوضَعها في مركز المجتمع والقيادة.
اقرأ/ي أيضًا: حقل علمي وأربع مدارس: محاضرات في الأنثروبولوجيا
قام الشامانيّون (دين بدائي من أديان شمالي آسيا) بتحويل المرجعية المجتمعية والدينية الشامانية إلى أيدي النساء. حيث تصدرن المجالس وأقمن الاحتفالات، وكنَّ أول من استخدم إيقاع الطبل كخلفية موسيقية أثناء الرقص المقدس، إذ اعتبر وسيلة رئيسية للتواصل مع أرواح العالمين الأعلى والسفلي. ما دفع الشامانيات إلى رسم صليب متساوي الأضلاع فوق جلدتي الطبل (ترمز أضلاعه الأربعة إلى عدد العناصر والفصول) وفي نهاية كل ذراع، تم رسم نصف قمر. أما الحبر، فقد كان من الدم الشهري.
من الجدير بالذكر أن الشامانية تؤمن بوجود عالم محجوب، فيه الآلهة والشياطين وأرواح السلف. ولا يستجيب هذا العالم إلا للشامان (كبير السحرة والكهنة). والشامانيون أول من زرع التبغ، وأول من استخدم السجائر في الاحتفالات الدينية.
حدد الدكتور جيفري آش (مؤرخ ومحاضر وباحث ثقافي بريطاني) محور التقاليد الشامانية بخصوص الأنثى، حيث خَلص إلى أن النساء في ذلك العصر، لم يتصرفن بدمهن بشكل فردي، فقد أدركن أن قوتهن الداخلية تكون أكثر فاعلية إذا قمن بتأدية طقس الدم بشكل جماعي (أي: من المعروف اليوم، أنه عندما يعيش عدد من النساء في نفس المكان، مثل الأم مع بناتها، يميل الحيض إلى تقديم نفسه خلال الفترة ذاتها). لقد كانت نساء قرية بأكملها تعيش تحت سقف واحد، بغرض الحصول على ذلك الدم في الوقت نفسه، ليخرجن من أجل تخصيب حقول القرية، تحت إشراف كهنة يتم انتخابهم من قبل السكان.
يبدو أن سبب اهتمام بعض ديانات العصور القديمة وعلى رأسها الشامانية، بدم الأنثى، يعود لسبب أن عنصر الدم كان دائمًا في قلب طقوس السحر الباطنية، ومن أجل الحصول عليه، فإن التضحية بالبشر ضرورية، إلا في حالة واحدة: عندما يقدمه جسد المرأة الخصبة شهريًا.
ضمن منحى آخر. اعتبر الشامانيون أنه أثناء الدورة الشهرية، يكون الاتصال بالطاقة القمرية أكثر عمقًا، حيث تتحول الحساسية الأنثوية إلى درجة حادة، لمرحلة تصبح فيها قادرة على التنبؤ. فقاموا بربط تقويمات الدورة الشهرية التي عُلمت عن المرأة مع أدوار القمر، أو أطواره.
كانت السنة تتألف من ثلاثة عشر شهرًا، تمامًا كما كانت لدى النساء ثلاث عشرة دورة شهرية في السنة، وقد وفَّق التقويم العبري لاحقًا بين التقويم الشمسي والأشهر القمرية، إلى أن ألغى الإسلام التوفيق بينهما، وحسم الحسبة خلال اثني عشر شهرًا ضمن السنة التقويمية الدينية.
ضمن منحى آخر. وبعد تمشهد الوجود الأنثوي في الأفق الفولكلوري من خلال قصة الدم، القصة المشحونة بآراء متعاكسة تمامًا. نقل الأدب الإثني إخباريات العصور التي نظرت إلى هذا الدم على أنه شيء مقدس والعكس. وسنقدم هنا بعض المرويات المأخوذة من العمل الضخم "الغصن الذهبي"، وهو دراسة موسعة في الأساطير والأعراف الوثنية، للكاتب الميثيولوجي جيمس جورج فريزر. نستعرض خلالها مدى التباين في معتقدات العصور الماضية وصولًا إلى عالمنا الحديث.
معتقدو القداسة بالدم الأنثوي
- اعتقد الماوريّون (ماوري: العادي أو المألوف. وهم السكان الأصليون لنيوزيلندا وجزر كوك): أن أرواح البشر مصنوعة من دم الأنثى الشهري، ومنه يأخذ الإنسان شكله ويتطور.
- اعتبر أرسطو أن الحياة البشرية تتكون من "جلطة" في دم الحيض.
- في بلاد ما بين النهرين، كان يعتقد أن الإلهة العظيمة نينهوراساج قد خلقت الإنسان من الصلصال وسكبت عليه "دم أنثوي".
- كانت الآلهة تعتمد على القوة المعجزة لدم الحيض في اليونان، حيث أطلق عليها اسم "النبيذ الأحمر الخارق".
- في شرق آسيا. كانت ملابس الحيض الملطخة بالدماء ذات قيمة عالية باعتبارها تشفي إذا ما تم وضعها فوق منطقة المرض.
- وصل الإله أودين (كبير الآلهة في الميثولوجيا النوردية) إلى أرض التنوير والحياة الأبدية بعدما قام بالاستحمام في نهر مليء بدم الحيض.
- أصبح الفراعنة المصريين إلهيين عن طريق تناول دم إيزيس. وكانت علامته الهيروغليفية هي نفس علامة الفرج.
معتقدو الدناسة بالدم الأنثوي
- نشر في وسط أستراليا أنه إذا استحمت امرأة خلال فترة الدورة الشهرية في نهر، فكل الأسماك سوف تموت، والنهر يجف.
- حظر البوشمن في جنوب أفريقيا خروج الأنثى أثناء الحيض من غرفتها، أو النظر إلى أحد الرجال لأنه سيتحول حينها إلى شجرة.
- في قبائل أمريكا الشمالية، كان من المعتاد بالنسبة للأنثى الانسحاب من المخيمات إلى أكواخ منفردة خاصة تم بناؤها لهذا الغرض، من أجل تجنب أي علاقة بالرجال.
-وفق التلمود إذا مرت امرأة، في بداية فترة الحيض، بين رجلين، فإنها حتمًا، سوف تقتل أحدهما.
- بينما ذكر كوليميلّا (كاتب من القرن الأول الميلادي اشتهر بكتاب ألفه الزراعة في حوالي اثني عشر مجلدًا): "إنه لقتل اليرقات الوليدية يتعيّن إحضار امرأة حائض، عارية وحافية القدمين، بشعر مرسل. من ثم أمرها بالمسير ثلاث مرات حول الحقل".
- في الثقافات الفولكلورية لجنوب إيطاليا: "على الأنثى في الوقت الحيض، ألا تلمس الحيوانات أو الجبن أو الأشجار والفواكه أو النبيذ، لأن قوة دمها تقتل وتخرب كل العناصر".
في العصور القديمة كان دم الحيض يعتبر المادة الأكثر قداسة على الأرض، والآن في عالمنا المعقم، يعتبر من المحرمات
من هذا الإطار، بدأت محاولات التخلص من الدم الأنثوي وإبعاده قدر الممكن، ففي عام 1550 قبل الميلاد، وضعت النساء في مصر فوطًا قطنية في المهبل. بينما استخدمت النساء في اليونان القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، كمادات ملفوفة حول قطعة من الخشب. بالمقابل كان الشائع في روما هو الصوف، أما في إفريقيا فقد تم استخدام لفائف من العشب.
اقرأ/ي أيضًا: السحر وامتلاك العالم
سرعان ما وضعت المسيحية حدًا لهذه الممارسات، معتبرة أن إدخال أي شيء في المهبل يعتبر خطيئة. فاستخدمت معظم المراهقات والنساء الأمريكيات، في أوائل القرن التاسع عشر، منديلًا قماشيًا مصنوعًا من القطن والنسيج. إلى أن تم إنشاء المناديل الصحية الأولى في أواخر القرن نفسه.
في العصور القديمة كان دم الحيض يعتبر المادة الأكثر قداسة على الأرض، والآن في عالمنا المعقم، يعتبر من المحرمات. وفي الأصل كان معنى كلمة "المحرمات" مقدسًا، ويبدو أن القدماء قيّموا "الدورة الشهرية" على هذا النحو.
اقرأ/ي أيضًا: