"هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي". لعلّي أجد هذه العبارة خير مفتتح أبدأُ به كلامي عن شباب الثقافة العراقية الذين يعتقدون بطريقة أو بأخرى أن الثقافة هي مجرد وسيلة للشهرة والمجد والخلود وهذه المصطلحات التي أصبحت مضحكة بمرور الزمن.
أسطورة الدرابين الضيقة
تستطيع أن تلاحظ بصورة واضحة ظهور مجموعة من المثقفين والشعراء الذين يدعون دراستهم في حوزة النجف، هذا الأمر كان وما يزال محيرًا بالنسبة لي، والغريب أنها تدعي التحرر وتمارس عكس التعاليم الدينية الأساسية بعض الأحيان، والبعض يجاهر بالإلحاد خجولًا ومع ذلك يحاول أن يسلط الضوء على تجربته شبه المفتعلة في حوزة النجف، ووصل البعض إلى المبالغة والقول إنه كان ينام لساعات قليلة ويقضي بقية يومه منكبًا على الدراسة، والملاحظ أن أغلب المنتمين إلى هذا النوع يركزون على نقطة التحول وعلى بناء نوع أسطوري سخيف ومبتذل مفاده يقدم شاب للدراسة في النجف من محافظة أخرى، يقتات على ما تيسر من الطعام ويحدث للبعض كشفًا فهم يستخدمون لغة الكشف والعرفان كثيرًا، ومن ثم يتحرر من كل هذه الحياة ويبدأ بالمتاجرة بهذه القصة.
يكفي أن تتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي وستجد ما لذّ وطاب من الكتّاب والشعراء الشباب الذين يكومون النصوص وينشرون بشكل يومي
أعرف شخصًا يكتب أرقامًا وأشكالًا هندسية ويحارب القاصي والداني بسم السوريالية والدادائية، وهو ينثر الكلمات المتقاطعة هنا وهناك على أنها قصائد، ارتدى الزي "الحوزوي" وأخذ يتجول في شوارع النجف الضيقة والضئيلة سائلًا عن كتاب الصوم والزكاة، ثم رجع فخلع الزي واعتبر هذه التجربة شيئًا مهمًا.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة أيمن مارديني
الحوزة التي كانت محاصرة من قبل النظام السابق والتي أصبح لها الشأن الكبير في النظام الحالي، والتي باركت بعض الحكومات وأخذت بعض الأحزاب شرعيتها منها؛ حاضرة في وعي الناس على أنها نظام حياة صارم ودراسة قوية رصينة، وأن أهل الحوزة بهذه القصص التي يستحضرها الوجدان الشعبي وهذه الكرامات التي أصبحت قصصًا للصغار والكبار، وأصبحت كرامات العلامة الفلاني وانطواء الأرض للعلامة الكذائي موجودة وفاعلة جدًا، ومحاولة إنكارها محاولة لإنكار الواقع المعاش، كذلك النجف مدينة اللغة والبلاغة تعطي المشروعية للذين درسوا بها ولو لشهر أن يكونوا فطاحل في اللغة والأدب والعروض، ويستخدم البعض من الشعراء والكتّاب أصحاب هذه المغامرة "عندما كنتُ في النجف قال لي الشيخ". في حين يستعمل الحوزوي "حدثني أحد فضلاء الحوزة". إذًا الدراسة في النجف كما يظن البعض تعطي عصمة خفية نوعًا ما للمدعي أو الدارس بأن يفعل ما يريد، بدون قيد أو شرط فهو قد تعلم في مدينة البلاغة والعلم.
حتى الشعراء والكتاب الذين يفدون إلى النجف في الندوات والمهرجانات يتكلفون جدًا باصطناع لغة صلبة جافة منفرة ويستهلون الجلسة: "ماذا نقول ونحن في مدينة العلم والعلماء والبلاغة والشعراء؟".
الثقافة الثقافة الثقافة
يكفي أن تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وستجد ما لذ وطاب من الكتّاب والشعراء الشباب الذين يكومون النصوص، ومنهم يكتب وينشر بشكل يومي، وستجد بعد ذلك سيلًا من التعليقات الرهيبة تشيد به وتصفه بصفات خارقة للطبيعة وكلمات تصيبني بالرعب.
مرة تتبعتُ صديقًا كان قد وضع نفس التعليق لأكثر من عشرين نصًا، والغريب أن هذه التعليقات تأتي معلبة وجاهزة للاستخدام، فتجد جميع التعليقات تحوي نفس الكلمات ونفس التراكيب وتأتي مشيدة بالنص.
تواجه الثقافة في العراق خطرًا كبيرًا انتشر بشكل سرطاني مما سيساهم في انهيار مفهوم الثقافة بصورة عامة
هذا الإسهال الثقافي جعل بعض الشباب يتشجع على طباعة مجاميع شعرية بائسة، ومجاميع قصصية رثة، وروايات عن الفقد والحنين والحب والظلام والخزعبلات الكلامية، بعضها يأتي مسجوعًا وهو محض كارثة على الصعيد التقني واللغوي، دكاكين الطباعة التي تطبع مائة نسخة أو ما يزيد وتكتب عليها طبعة أولى مقابل مبلغ مادي بخس من قبل الشاب الحالم بتحقيق المجد المؤثل، وطبعًا ظهور مثل هذه الدكاكين كان نتيجة لعدم استقبال الدور الرصينة كتب الشباب على اعتبار أن القارئ لا يغامر بقراءة الأسماء الشابة.
اقرأ/ي أيضًا: أرض تسير نائمة.. ميا كوتو محاكمًا الحرب الأهلية الموزمبيقية
إلا إن هذه الدور تتنازل بكل تأكيد أمام شابة جميلة "يزحف" لها المشهد الثقافي برمتهِ، أذكرُ مرة تناقشتُ بها مع موظف كبير في دار نشر عن سبب طباعة كتاب لشابة جميلة، علمًا أن هذه الدار تعد جيدة نسبيًا ولا تطبع إلا للمخضرمين من الشعراء والكتّاب، عندها قال لي "الثقافة تحتاج وجوه جميلة".
بالرجوع إلى موضوع هذه الدكاكين التي نشرت لكل شخص لديه المبلغ المطلوب، باتت عملية النشر أو وجود كتاب مطبوع ضرورية للبرهنة على ثقافة الشخص، فأنت من الصعب عليك أن تنقد شابًا في مقتبل العمر لديه ثلاثة إصدارات في سيرته الذاتية الصغيرة والذي يظهر كل عدة أشهر يوقع لزملائه كتابه الذي طبعت منه الدكاكين عدة نسخ، والذي أصبح مثقفًا غير قابل للنقد بعد سيل من التبريكات والمنشورات في العالم الافتراضي.
شَافْ ما شَافْ؟!
الثقافة في العراق تواجه نوعًا أخطر من سابقيه بكثير وقد انتشر بشكل سرطاني مما سيساهم في انهيار مفهوم الثقافة بصورة عامة، هذا النوع يختصره مثل عراقي لا أحبذ ذكره نصًّا هنا وسأكتفي بأوله "شاف ما شاف" يختلف هذا المثل العراقي عن سيرة "الذي رأى كل شيء"، فالذي رأى كل شيء تحوي على إشارة ضمنية وظاهرية بعض الشيء على وجود شخص ما له إمكانية الرؤية الخارجية والذاتية، لذلك هناك نتيجة شبه معروفة ويسعى لها الكثير وهي البقاء، فيأتي المقطع "فغني بذكره"، أما المثل العراقي فأجده خارجًا من روح المجتمع ويجب التعامل معه بذكاء، ولعلي كنتُ أريد استخدام كلمة "قدسية" بدلًا من كلمة "ذكاء"، لكن التوجه العام يقصي بعض الجمل ويخصي بعض المعاني.
شاف/رأى/رؤية عينية/رؤية ذات أثر، لكنه وللأسف الذي "شاف" "اخترع" ولعدم وجود معجم يحفظ الكلمات الشعبية لان في ذلك ضرر على لغة عربية تراثية عاجزة عن مجاراة الحياة والواقع، ولا يوجد لها تأثير سياسي أو اقتصادي أو معرفي سوى التغني بها في المدارس، أجدني مجبورًا أن أضع معنى لكلمة "اخترع" وأنا لا أعتقد أنه يطابق الكلمة الأصلية، ولكنه قريب منها هو "انصدم" أو "تفاجأ".
يغالي البعض بجعل بعض الفلاسفة مقدسين يؤمن بهم، وبما يقولون بالحرف الواحد، وتتجلى هذه الظاهرة في مريدي الفيلسوف نيتشه
انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة غريبة من خلال وجود أشخاص يتكلمون بأسماء الفلاسفة والمدارس الفلسفية، وسنوات الطبعات وأسماء المترجمين، ويعرفون حياة الفلاسفة، والبعض يغالي كالعادة بجعل بعض الفلاسفة مقدسين يؤمن بهم، وبما يقولون بالحرف الواحد، وتتجلى هذه الظاهرة في مريدي الفيلسوف نيتشه، فبعض محبيه غالوا في حبهم وانجذابهم على مختلف ثقافاتهم، وحتى غير المطلعين بالفلسفة أعجبتهم شواربه الكثة، فقرأوا له وملأوا المواقع اقتباسات، وأعتقد أن بعض العراقيين سوف يحجون إلى نيتشه مستقبلًا، على الرغم من الميول اللادينية التي يظهرها محبوه.
اقرأ/ي أيضًا: ضوء موجود في ظلام زمن الحرب
معرفة الفلاسفة والمدارس الفلسفية حتى لو كانت مجرد أسماء يمكن اعتبارها ثقافة عامة، ولكن هذه الطبقة اكتسبت سمات الطبقة الشعرية في العراق، فقد أصحبت تنظّر في كل شيء في الفلسفة والاقتصاد والأدب والعلوم الأخرى، ودائمًا ما يكون الرأي بالطريقة القطعية الفقهية، وهذا الشيء موجود لدى الكثير من الشعراء في العراق، فهم كذلك يعرفون كل شيء ولكن يعتقدون أن العالم متخلف ولا يستطيع قراءة الشعر كما كان في العصور المركزية، لكن هذه الطبقة التي قرأت الفلسفة الغربية بشكل اقتباسات أو في موسوعة ذات طابع يميني أو يساري، ولم يجهد نفسه كالشعراء في تعلم قواعد اللغة رحمها الله، فهو يكتب باللغة الدارجة أو اللغة العربية البسيطة جدًا ويؤثر في الكثير.
يمكننا توضيح ذلك أكثر، النقاش الذي يجري وعملية الطرح التي تجري هي مجرد عملية طرح اسم له حضوره التاريخي، وله هيمنته على التاريخ الفلسفي أو المعرفي، وقراءة بسيطة جدًا بلا مبادئ أو أساسيات وبلا تتبع للتطور التاريخي وملاحظته أدت إلى إعطاء إحكام جاهزة وفقهية بعض الشيء، فالمتحاور أو المدوّن لا يتورع أن يحكم على مسيرة فيلسوف، قرأ عنه بموسوعة ذات توجهات معينة أو سمع عنه محاضرة لشخص غير متخصص يتكلم في كافة المجالات الإنسانية، بأنه لا يفهم وبدون تقديم مبررات كذلك يستطيع هؤلاء الشباب وصف فيلسوف أعجبهم اسمه الصعب أو شكله الغريب أو تصرفاته بانه عظيم أو ملهم.
هذه الفئة تستطيع أن تحكم بسهولة على كل شيء، مدعمة ذلك باقتباس أو باسم فيلسوف أو موسوعة عن تاريخ الفلسفة أو من خلال قراءة كتاب بسيط في موضوع ما وتملأ الدنيا تنظيرًا وتحكيمًا.
باتت عملية وجود كتاب مطبوع ضرورية للبرهنة على ثقافة الشخص، فمن الصعب أن تنقد شابًا في مقتبل العمر لديه ثلاثة إصدارات
اقرأ/ي أيضًا: استعادة "رتق الهواء" لوديع سعادة: إنّه مجرّد لَعِب
هذه الحركة أو هذه الهجمة لالتهام الفكر الغربي المترجم، وعلى اعتبار أن كثيرًا من هؤلاء لا يجيدون أي لغة حتى العربية، ولا يستطيعون قراءة الفكر الغربي بلغته الأصلية، أنتج رغبة لدى دكاكين النشر الصغيرة التي لا تستطيع التعامل مع الأسماء الغالية أن تستعين بصغار المترجمين، الذين لا يملكون الثقافة المؤهلة لترجمة الفلسفة وباقي العلوم الإنسانية، وبعضهم لم يلتق بمتحدث أصلي مباشرة، وبعضهم أخذ النص بدون دراسة مسبقة وترجمه والعياذ بالله شر ترجمة، وللأسف هذه الدكاكين موجودة وآخذة بالاتساع.
اقرأ/ي أيضًا: