"في عالم مهتزّ، كل واحد يعتقد أنّه يتقن فن الرقص"
- مالك حدّاد، شاعر جزائري
1) كلمة التاريخ والجغرافيا
لم تكن الزلازل العظيمة وحدها مصدراً كافياً كي نتعلّم نحن المهندسون الإنشائيون كيف نقي أنفسنا والناس من شرورها،ولعل أكبر الأمثلة على ذلك هو زلزال "تانغ شان" العظيم، أحد أكبر زلازل القرن العشرين أثراً، والذي وقع في الصين عام 1976، بمقدار 8 على مقياس ميركالي المعدّل (وهو المقياس الذي يؤثره المهندسون على مقياس ريختر)، لقد تناقلت الأخبار المحليّة آنذاك أخباراً تقول بوصول عدد الوفيات إلى 660,000 شخص.
لقد كان موقع الزلزال مهمًا لتعلّمنا كما لنا أن نلاحظ، فقد كان ينبغي أن يكون في مدن كبيرة ومتحضرة بالمعنى الغربي للكلمة
لم يكن أثر ذلك الزلزال هيّناً على الإطلاق، فقد آلت أمور كثيرة في الصين إلى التغيير بعده، إذ يُنظر عادةً إلى الكوارث الطبيعيّة في الفكر التقليدي الصيني على أنها فاتحة لتغيير عظيم، بل وتغيير في الأسر الحاكمة نفسها؛ ومن هنا، وإثر سلسلة من الأحداث السياسية، جاء إنهاء حكم عصابة الأربعة على يد "هوا جيو فينج"، الذي خلف "ماو تسي تونغ" كزعيم للحزب الشيوعي الصيني.
ولكن في المقابل، على عظمة الكارثة البشرية تلك، والتي أطلت برأسها آنذاك، بل وفتحت أعينها محدقةً في العلماء والدهماء على حد سواء، فقد ظلّت أبحاث المهندسين في هندسة الزلازل تحمّل ثقة المراهق بنفسه، وظلّت مدوّنات الأحمال وكودات التصميم تغطّ في سبات عميق.. فلماذا؟
لقد كان القرن العشرين بأسره قرناً ثميناً وحاسماً حقاً لتطور مدونات التصميم (العالميّة والأمريكية منها تحديداً)، بنضوجها وازدياد عدد صفحاتها.. ولكنه مع ذلك ظلّ تطوّرا خجولاً عندما نتحدث عن مقاومة أفعال الزلازل.. وقد ظل الخجل سيد الموقف حتى بعد مرور ما يقارب العشر سنوات على ذلك الزلزال الصيني، عندما حصل زلزال مدمّر آخر في منتصف الثمانينات (1985) في مدينة المكسيك مهلكاً البلاد والعباد، فراح ضحيته ما يقرب من 45,000 ألف قتيل، وقُدّرت الخسائر الماديّة وقتها بـ 5 مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن زلزالي الصين والمكسيك آنفي الذكر قد أعطيا مهندسي الزلازل مادة زخمة للتعلم والممارسة، بل ولأخذ تصورات عامة عن كيفية فشل المنشآت.. إلّا أن دورة التعلم النظرية ومن ثم ابتكار التطبيقات لم تحصل على زخمها المستحق لحين انتصاف العقد التالي..
فبعد عشر سنوات أخرى، دبّت الحياة مرة واحدة في منحنى التعلم من هذه الزلازل، ولكن ويا للعجب لم تكن قبلة الحياة هذه، بالأحرى قبلة التعلّم، لتهبنا إيّاها زلازل مدمّرة قاتلة، بل كانت زلازل متوسطة الشدة هذه المرّة.. فمع انتهاء القرن، ضرب زلزالان وجه البسيطة مجدداً، لقد كان متوسطي القوة على مقياس ميركالي، نعم، ولكنهما كانا عظيمي التأثير على مدونات التصميم الزلزالية؛
حيث وقع الزلزال الأول في نورث ريدج، في مدينة لوس آنجيلوس الأمريكية الشهيرة، عام 1994 بمقدار (6.7) على مقياس ميركالي، بينما وقع الثاني في مدينة كوبي في اليابان، عام 1995، وبمقدار (6.9)، لقد كان عدد القتلى لا يتجاوز ال 60 شخصاً للزلزال الأول ويقترب من 5،600 شخص للثاني، ولكن قد حملت تلك الزلازل المتوسطة فواجع بيّنة في الأبنية المتوسطة والمرتفعة، وبالتالي في تكلفة الإصلاح، كما هو موضح في الجدول.
وهنا بالذات تحركت قوافل الباحثين والمهندسين لمواقع الزلازل للدراسة، أو بالأحرى فقد تحركت لغاية إنقاذ اقتصادات الكبار. ولكن لا تهمّ النيات كثيراً ههنا، وإنما ما يهم أنه قد أعقبت تلك الزلازل بضع سنوات حاسمة من عمر تطوير وتحديث مدوّنات التصميم والكودات الزلزاليّة، فمع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين حدثت تغييرات جذرية في فكرة التصميم الزلزالي عند الأمريكيين، فأزاحوا كود (Universal Building Code, UBC 1997) عن المشهد، وأبصر كود (International Building Code, IBC 2000) النور، ثم شرعت الملاحق الزلزالية بالتتالي في كودة المنشآت المعدنية بدءاً من العام 2002، وكذلك في كودة المنشآت الخرسانية.
لقد كان موقع الزلزال مهما لتعلّمنا كما لنا أن نلاحظ؛ فقد كان ينبغي أن يكون في مدن كبيرة ومتحضرة بالمعنى الغربي للكلمة ومن ذوات الأبنية المتوسطة والمرتفعة، لا في مدينة خارج دول العالم الأول، أو في تلك الخالية والنائية عن النفوس، كمثال زلزال تشيلي العظيم، أكبر زلازل القرن العشرين، والذي ضرب ساحل المحيط الهادئ.
2) نظرة على سيكولوجية المهندس الإنشائي
لم تخلخل الزلازل الأبنية السكنية وحسب، بل خلخلت كذلك بناء الثقة الكلاسيكية لدى المهندسين القدامى. وأعقب ذلك الأمرَ حالةٌ من الإنكار ظلّت مرافقة لبعض كبار المهندسين من خريجي السبعينات؛ إننا أمام راية مُنكَّسة، والراية المُنكَّسة لا تُرفع، ولا تُورّث، كما يقال.
فالصدمة قد أصابت المُحَنَّكين من المهندسين، وذلك بعد أن ظنوا أنهم أخذوا جلّ احتياطاتهم التصميميّة الممكنة إزاء كل شيء.. ثم ها هي ذي الزلازل ترجرج الأرض من تحت أقدامهم مسويّة أبنيتهم بالتراب، وموردةً سكانَ المعمورةِ المهالكَ.. ومثبتةً قبل كل شيء أن تصاميم الأبنيّة خاصتهم هشّة، بل فائقة الهشّاشة.
هنالك بضعة أمور صنعت فجوة تاريخيّة ما بين خريجي السبعينات وخريجي الألفيّة من المهندسين الإنشائيين، نذكر ثلاثة منها:
1) التطاول في البنيان
2) تعدد الزلازل وتنوعها في نهاية القرن العشرين
3) نموّ كودات التصميم
بل إن هذه الفجوة متعلقة في المقام الأول بالعلاقة مع كودات التصميم كمدوّنة قانونيّة. فخريجو السبعينات كانوا على قدر عال من الحريّة في التصميم والارتجال في اختيار الأنظمة الإنشائيّة، إنهم بلغة الفقه أقرب لأن يكونوا "فقهاء رأي" من كونهم منضبطين بضوابط تشريعيّة محددة.. أما خريجو الألفيّة فقد غادروا مقاعد الدراسة الجامعيّة بعد أن بلغت الكودات والمدونات التصميميّة أشُدها، بل بعد أن تزينت وأخذت زخرفها. وإذا أضفنا إلى ما سبق مسألة تضخم المكاتب الاستشارية العابرة للقارات.. فإن خريجي الألفية من المهندسين أقرب لأن يكونوا "رجال قانون" في التصميم، فهم يعودون دوماً لنصوص في الكودات إما للاستخدام أو للقياس.. بينما مساحة الرأي الحر متضائلة.
إن كود التصميم هو اليوم مدونة تشريعية صارمة ومنضبطة، وإن للحيود عنها تبعات قانونيّة
وخذ على سبيل المثال كود الجمعية الأمريكية للمنشآت المعدنية (AISC-360) الصادر بتاريخ 1923، لقد كان عدد صفحات هذه المدوّنة التصميميّة لا يتجاوز 12 صفحة، على حين أن ذات الكود بنسخة 2022 يقترب عدد صفحاته من 800 صفحة.
إن كود التصميم هو اليوم مدونة تشريعية صارمة ومنضبطة، وإن للحيود عنها تبعات قانونيّة لا مراء فيها. ولم تعد الكودات كما كانت في السابق نحيلة وخجولة وفضفاضة العبارة، وكأنها مجرّد صفحات ورقية الغرض منها هو الاطلاع المعرفي وحسب أو كأنها مكافئة لأي كتاب هندسيّ.. فلا يستشعر المهندس صفة القانونيّ فيها، اللهم إلا في المؤسسات الكبرى وفي أضيق الأطر.
3) إذن، ما الذي تعلّمناه من الزلازل؟
لزلزال من النوع الكارثي لا تعود متانة البناء وجودة التنفيذ هي العوامل الحاسمة في الحفاظ على سلامة المُنشأ -على أهميتها- وإنما مرونة النظام الإنشائي المقاوم للزلازل في التصميم.
ولنتخيّل الزلزال على هيئة طاقة (كهربائيّة مثلاً) يراد تفريغها -وهو فعلا طاقة- فما أفضل نظام لتفريغ هذه الطاقة؟
اليابانيون -في كوكب اليابان- يعزلون الأبنية المرتفعة من أساساتها في الأسفل عن هذه الطاقة القادمة من ظهر الأرض المتحركة تحت تأثير الأحمال الزلزالية: الأرض تتحرك والبناء لا يتحرك، وهذا النظام يبدو لبقية العالم مثل أفعال السحر..
إن مناورة الزلازل وتجنّب مواجهتها هو العنوان الأبرز في إدارة اليابانيين ذلك الصراع المحموم بين الصفائح التكتونية النشطة أسفل البلاد من جهة وتصميم أبنيتهم من جهة ثانية.. حاملين تلك المقولة المأثورة كشعار لهم: "الأشجار التي تنحني كي تمر العاصفة هي التي تبقى".
- فيديو ترويجي لأحد منتجات العزل الزلزالي
بالعودة لكوكب الأرض، فالأمريكان أبسط (والبقية معهم بطبيعة الحال بمن فيهم نحن)، يستحدثون أنظمة إنشائية قادرة على تفريغ/تخميد هذه الطاقة، ويعطون لكل نظام إنشائي قيمة اسمها (R), وتخبرك هذه القيمة كم أن نظامك الإنشائي قادر على تخفيض أثر هذه الطاقة الزلزالية عن المنشأ (ستحدث أضرار للمبنى، نعم) ولكن لن ينهار على رؤوس ساكنيه.
تتراوح قيمة (R) من ١ وهي الأردأ تماماً، لغاية ٨ وهي الأفضل، والرقم ٨ يعني قدرة النظام الإنشائي على تخفيض أثر هذه الطاقة ٨ مرات عن المنشأ.
في الغالب جميع المباني السكنية في عالمنا العربي نظامها الانشائي المقاوم للزلازل هو "جدران القص الخرسانية العادية" (بالعاميّة: بيوت الدرج المصبوبة باطون)، وقيمة (R) لها هي ٣ بحسب آخر نسخة من الكود الأميركي للمهندسين المدنيين، وهي قيمة منخفضة عندما نتحدث عن زلزال كارثي.. فضلا عن كونه مرفوضاً في المناطق النشطة زلزالياً (تقليدياً مدينة عمّان لا تُعد في المناطق الخطيرة زلزالياً بحسب الكود الأردني ورقم ٣ يُعد مقبولاً).
أفضل نظام إنشائي ممكن هو النظام الذي يشتمل على (Pre-prepared Plastic Hinges) أو بعبارة أخرى (Fuses)، نعم كما قرأتها حضرتك: فيوزات مثل فكرة فيوزات الكهرباء، تقوم بامتصاص الطاقة وعزلها عن بقية الأجزاء الإنشائية، وهذه يتم دراستها بعناية ولها ملاحق زلزالية متخصصة يفر منها الاستشاريون -حتى المتميزون منهم- فرارهم من الأسد.. لطول الاجراءات وتعقيدها. ويمكن القول أن أحد أفضل الأنظمة الإنشائية، بحسب الكود الأمريكي، هو الإطارات المعدنية الخاصّة (special steel moment-resisting frames).. لقدرتها على احتواء مثل هذه التفصيلات.
أما في المباني الخرسانيّة وبالإضافة لاختيار الأنظمة الإنشائية، فقد أحدثت بعض التفاصيل الصغيرة في حديد التسليح الفرق الكبير في سلوك المنشآت الخرسانيّة، فعلى سبيل المثال إغلاق الكانات (Stirrups) بزوايا 135 درجة وليس 90 درجة، كما هو موضح في الصورة، كان كافيًا لجعل الفارق في تصرّف البناء عظيماً جداً.. نعم المزيد من الجهد على عمّال المقاول هنا، وكذلك على مهندسي الإشراف واستلام الأعمال.. ولكن تفصيلاً صغيراً كهذا ساهم في منع الخرسانة الداخلية من التحرر ساعة رزوحها تحت نير الزلزال.
4) على سبيل الخاتمة
هذا المقال ليس كل شيء في هندسة الزلازل بطبيعة الحال، ولكنه تبسيط ما لأغراض فهم الإنسان العادي أو المهندس غير المختص أو سواهما، أو أنه مما يقع في خانة: "نهاية المقتصد وبداية المجتهد"، ولتغفر لنا روح ابن رشد استخدامنا لأحد عناوين كتبه في الفقه بصورة فضفاضة هنا.
على أية حال، ما يلي هو على سبيل التلخيص:
- وقوع الزلازل في المدن المكتظة بالسكان والمباني المرتفعة هو ما يُزهق الأرواح ويضر بالممتلكات.
- قوة البناء لا تكفي وحدها لمقاومة الزلازل.. المرونة ضرورية، بل واجبة.
- المسألة هي مسألة تفاصيل ومسألة لمسات مدروسة مسبقاً.. يقول العامّة أن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، ويعيد الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس إعادة إخراج هذه العبارة بحكمة المتدبّر لألطاف الإله فيقول أن "الله موجود في التفاصيل".. بينما نقول نحن في حالتنا هذه أن براعة المهندس تكمن في التفاصيل.