شاهدتُ مؤخرًا حلقة من برنامج "متون وهوامش" الذي يعرضه التلفزيون العربي، كان محور الحلقة يدور حول "أدب السيرة الذاتية عربيًا.. فنّ الكتابة ومساحات الانكشاف"، وجاءت تُناقش أدب السيرة الذاتية في السياقات العربية ولتتبّع نشأتها وسيرورة تطورها في تلك السياقات.
كان من ضمن المحاور التي ناقشتها الحلقة محور يتعلّق بعلاقة السيرة الذاتية بالاعترافات، وأكّدت الحلقة بأنّ ولادة السيرة الذاتية في السياقات الأوروبية كانت مرتبطة بتصاعد نزعة الاعتراف لدى مجموعة من الأدباء والفلاسفة الذين كانوا على استعداد لبثّ اعترافاتهم والبوح بها من خلال الكتابة عن ذاتيتهم في لغة واضحة تَفضح وتَكشف عن كلّ ما هو مخبوء وخفي في حيواتهم.
جاءت الأشكال الأولى للسير الذاتية في السياقات العربية مرتبطة أكثر بالتاريخ، وهو ما يُفسّر انحصار حدودها في كثير من الأحيان على سرد الأحداث التاريخية الكبرى التي مرّ بها كاتبها سواء اضطرابات وقلاقل سياسية، أو أزمات روحية تُمثّل امتدادًا لأزمة روحية عامة
ذكرتني الحلقة فيما أوردته حول ذلك الارتباط بين السيرة الذاتية والاعترافات بـ"اعترافات جان جاك روسو"، وما ورد عنها في كتاب "مهمة الناقد" من أنّ الإنسانية ستبقى أبدًا محبة لكاتبها روسو، لأنّه اعترف بذنوبه لا إلى قسيس ولكن للعالم أجمع.
وإنّ نشأة السيرة الذاتية قي السياقات العربية جاءت متأخرة عن نشأتها في أوروبا، وكانت هناك عدة أصناف من الكتابة الشخصية العربية شكّلت بدايات ظهور السيرة الذاتية بعيدًا عن شكلها الصريح وتعريفها الواضح، وعن هذه الأصناف يُورد إحسان عباس في كتابه "فنّ السيرة" بأنّها كانت ثلاثة: صنف إخباري محض، جاء يضم الحكايات ذات العنصر الشخصي سواء أكانت تسجيلًا لخبرة أو مشاهدة، مثل كتب المذكرات التي كتبها الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والصلاح الصفدي، وقصوا فيها أخبارًا عن أنفسهم والأحداث التي صادفتهم. يُضاف إليها مذكرات كتبت لغاية تاريخية مثل ما كتبه القاضي الفاضل، وما نقله الرحالة العرب من عناصر ذاتية كرحلة ابن جبير وخالد البلوي.
والصنف الثاني الذي ذكره عباس هو صنف كان يُكتب للتفسير والتعليل والاعتذار، ومن أمثلة ذلك مذكرات الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيري في غرناطة، وقد تضمنت سيرته كلامًا حول الاضطرابات في العصور التي عاش فيها. والصنف الثالث هو صنف جاء يصور الصراع الروحي الذي عاشه بعض العلماء مثل سيرة ابن الهيثم وكتاب "المنقذ من الضلال" لأبي حامد الغزالي الذي صوّر ما مرّ به من أزمة روحية.
وبحسب عباس فإنّ هذه الأشكال الأولى للسير الذاتية في السياقات العربية جاءت مرتبطة أكثر بالتاريخ وذات طبيعة تاريخية، وهو ما يُفسّر انحصار حدودها في كثير من الأحيان على سرد الأحداث التاريخية الكبرى التي مرّ بها كاتبها سواء اضطرابات وقلاقل سياسية، أو أزمات روحية تُمثّل امتدادًا لأزمة روحية عامة يعيشها الواقع لمحيط.
فالسير الذاتية في السياقات العربية جاءت في نماذجها البدائية تُركّز على مواقف الكاتب المعرفية والدينية والسياسية دون أن يكون هناك تركيز وغوص في ذات وصفات صاحبها وحياته الشخصية، وبحسب عباس فإنّ أول سيرة ذاتية عربية ظهرت في أشكال حداثية في العصر الحديث، وتناول فيها صاحبها حديثًا عن تنقلاته وبعض أحواله هي "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، والتي كتبها في جو من الاستطرادات والمترادفات اللغوية والسخرية والمجون، وهي تلك الأجواء التي حملت عباس على مراجعة حكمه بخصوصها في أوقات لاحقة ليؤكّد على أنّ خصائصها وميزاتها هذه تُخرجها من دائرة السيرة الذاتية بالمعنى الفني للمصطلح.
وإنّ سيرة الشدياق التي شكّك عباس في أحقية تصنيفها كسيرة تُعتبر باكورة انطلاق السيرة الذاتية العربية في أشكالها الحديثة، حيثُ توالت السير الذاتية بعدها تباعًا، وجاءت مترافقة مع بداية النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو الزمن الذي تنامى فيه الإحساس بالمسؤولية والوعي الفردي عند العديد من الكتاب والمفكرين العرب، فأخذوا يكتبون سيرهم ليوثقوا ما عايشوه قي تلك الأيام، وليسردوا رؤيتهم حول واقع عربي متأزم ومتخلّف كثيرًا عن الركب، وحول كيفيات النهوض بهذا الواقع وإيجاد حلول لأزماته المستعصية، ومن هذه السير: "الأيام" لطه حسين، و"حياتي" لأحمد أمين، و"قصة حياة" لإبراهيم عبد القادر المازني، و"سبعون" لميخائيل نعيمة.
وإذا كانت السيرة الذاتية العربية حَملت في ذلك الزمن ملامح جمعت فيها بين الهمّ الشخصي والهمّ العمومي والوطني والأممي، فإنّها تمكّنت في بعض أشكالها اللاحقة والمعاصرة من التخلّص من أثقال السرديات والهموم الكبرى، حيثُ كتبها أصحابها بالتركيز على حيواتهم الشخصية وما فيها من انكسارات وانهيارات بدءًا من مرحلة الطفولة وحتى مراحل الكهولة.
تُعتبر سيرة الشدياق باكورة انطلاق السيرة الذاتية العربية في أشكالها الحديثة، حيثُ توالت السير الذاتية بعدها تباعًا، وجاءت مترافقة مع بداية النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
السيرة الذاتية العربية بدأت بأصناف ذات طبيعة تاريخية، ثمّ أخذت تطوّر في أشكالها وأنماطها، حتى وصلت إلى أشكال معاصرة يرتكز فيها أصحابها على سرد تفاصيل التفاصيل في حياتهم الشخصية منذ النشأة مرورًا بمراحل الصبا والبلوغ ووصولًا إلى سنّ الكهولة، فأصحاب هذه السير أخذوا يَسردون أنفسهم دون خوف وباتباع نهج الاعترافات، فوصلوا بسيرهم إلى أقصى درجات الوضوح والانكشاف.
وهناك العديد من الانتقادات التي تُوجّه إلى سيرة محمد شكري مثلًا "الخبز الحافي" وتأخذ على شكري أنّه استخدم فيها لغة فضائحية إباحية، كما أنّ هناك العديد من الملاحظات التي يوجّهها قراء سيرة "الجندب الحديدي" (السيرة الناقصة لطفل لم يرَ إلا أرضًا هاربة فصاح: هذه فخاخي أيها القطا) لسليم بركات، ويأخذون عليه فيها بأنّه كتبها بطريقة اعترافية كاشفة مبالغ فيها، وهو الذي كتبها ليسرد فيها ملامح وتفاصيل حقيقية عاينها وعايشها في مراحل طفولته المبكّرة في القامشلي، وأكّد في مقدمتها بأنّ توثيقه الدقيق والتفصيلي لهذه المرحلة الحساسة من حياته نابع من كونها بالنسبة له محنة عليه أن يكتبها ليفكّ اشتباكاتها الدائمة معه وليحلّ معضلة وجودها الدائم في حيّز الذاكرة البعيدة فيه "كلّ طفولة ميثاق ممزّق، كلّ طفولة محنة".
وسواء في سيرة "الخبز الحافي" أو "الجندب الحديدي" وغيرها من السير الذاتية المعاصرة، فإنّ طابع الاعترافات التي حملتها هذه السير متأخرة عن أوروبا ربّما، تَجعل منها وثيقة حقيقة، تحمل صيغة اعتراف بشكل أو بآخر؛ ترصد واقع سيء، وتسجّل ذنوب لا أفراد بل ذنوب وخطايا أزمنة وأمكنة كاملة، إنّها سير تتكلّم بلسان صدقٍ يستحقّ أن تُحبّه الإنسانية كما فعلت مع روسو.