في كثير من الأحيان يكون الإبداع نوعًا من الهدم والتدمير للقوالب والأشكال النفية القديمة كافة. الإبداع هو موت وفناء القديم، والتمرد على القيم السائدة، والحرب المفتوحة ضد كل الأطر والسياقات التي تقمع رغبة الإنسان في الحياة والحرية والسعادة.
الإبداع عملية خلق لأشكال وصور وأساليب جديدة من منظور جديد يرى من خلاله الفنان العالم والحياة والبشرية، وذلك في محاولة لإعادة بناء العالم وصياغته وفق قوانين جمالية وخيالية جديدة ومبتكرة. بينما كان الفن في العصور القديمة ذا أهداف محددة، فكثيرًا ما ارتبط بالسيطرة على الطبيعة والآلهة، بمعنى أنه كان أقرب وألصق بالطقوس الدينية، أو توافق مع السلطات البشرية وتفرغ لتناول الحرب والأعداء.
يمكن فهم حاجة الفنان لإدراك العالم من حوله وسبر أغواره وفهم هذا العالم عبر الفعل به والتغيير فيه، وعبر إعادة بنائه من جديد بأساليب جديدة في كل مرة
لا يعني ذلك نسف الماضي، بل أنّ هذا التاريخ الطويل من التطور الإنساني والحضاري في كافة المجالات، والذي تطلب مساهمات وتراكمات، لا يمكن القفز من فوقها والحنين إلى الماضي في الصحراء والإبل، على الرغم مما يحمله ذلك من جمالية.
لا تعني الأصالة نفي للحداثة، ولا يجب أن تعني الحداثة التخلي عن الأصالة.
تبعًا لذلك يمكن فهم حاجة الفنان لإدراك العالم من حوله وسبر أغواره وفهم هذا العالم عبر الفعل به والتغيير فيه، وعبر إعادة بنائه من جديد بأساليب جديدة في كل مرة. وفي كل مرة كانت رغبة الفنان في إيجاد المعنى وإنتاج القيمة في ميادين الفن والجمال.
شرطة على الشعر!
يريد صاحب صفحة الأمالي، في حلقة على يوتيوب بعنوان "الشعر والحداثة.. أوهام شائعة"، أن يفتح حربًا على الشعراء المزيفين الذين يدعون زورًا أنهم شعراء، بالرغم من نفيه أنه يفتح حربًا، بل جل ما يريده التمييز بين الشعر الجيد والرديء، فيبدأ تبعًا لذلك بسوق الأمثلة التي تدل على الشعر الجميل والشعر الرديء، ومن ثم يدخل إلى معالجة إشكالية أيهما أقرب إلى القارئ: الشعر القديم أم الحديث؟ محاولًا عبر أمثلته الاستنتاج بأن الشعر القديم جميل لأنه مفهوم، بينما الشعر الحداثي أقرب إلى الخزعبلات. ويعترف بأن معركته ليست مع الشعر الحداثي بل مع طلاسمه، وحتى لا نبدو متحاملين عليه نقول إن شعر الحداثة لا يخلو من غموض، لكن الغموض مختلف عن الإبهام، وبهذا المعنى فالشعر القديم فيه الكثير من الغموض. مشكلة شعر العصور كلها مع الإبهام لا الغموض. وانطلاقًا من هذا التقسيم يمكن أن نمد صاحبنا بعشرات الأبيات الشعرية الغامضة لشعراء العمود ونقول عنها المثل. فهل هذا عادل؟
يتحدث صاحب الأمالي الإلكترونية عن الشعر وكأنه معزول عن العالم والمجتمع واللغة، فيدعونا إلى تذوق الشعر الجميل ذي القواعد والنظم والقوانين، أي الشعر الخليلي، بدلًا من التلهي بالترهات التي يلقي بها الشعراء هنا ومن هناك. ناسفًا بذلك إنجازات ما يقارب قرنًا من الحداثة الشعرية العربية، التي لولاها لما كانت لغتنا على ما هي عليه الآن.
لا يشك أحد في أن هناك كثيرًا مما يسمى بشعر ليس كذلك، لكن من هو المخول بمراقبة نفوس الشعراء وتأدية مهمة الرقيب والشرطي على الشعر، لا سيما التجريبيين منهم، إن لم يكن يفهم هذه التجارب من داخلها؟
الفن الحديث تعبيري يصور الحياة ويحمل دلالات خفية بالرغم من بساطته. وهناك شعر صادر عن عاطفة ذاتية، وهناك شعر تجريبي أصحابه يحاولون قول شيء ما للعالم وحسب.
لا نرفض النقد الأدبي والثقافي، لكن على طريقة صاحب صفحة الأمالي الذي يبدو مضادًا لكل ما في الحاضر، ويخلق صراعًا وهميًّا بين زمنين هما في الحقيقة امتداد لبعضهما البعض، ولا يجوز لأحدهما أن يطغى على الآخر. فلا يحق لنا نرى شعر وأدب القدماء انطلاقًا من فهمنا اللاحق المعقد، ولا أن نتخلى عن حياتنا وأسلوبنا ونتبنى رؤى القدماء.
ما الشعر؟ ومن الشاعر؟ أسئلة لا طائل منها. الشعر يفرض نفسه بقوته الداخلية، بما يحمله من أسلوب وخيال وفكر. لا ضرورة للدفاع عن الشعر الجيد لأن قرّاءه يعرفونه ويعيشون معه. وما من جدوى في مواجهة من ينتحلون صفة الشعراء، فهذه من أدوات النقد القديمة التي تعود إلى أزمنة قدامة بن جعفر والجرجاني وغيرهم من نقّاد العصور الخالية، بينما نمتلك اليوم أدوات نقدية أشدّ اتساعًا.
الشعر يفرض نفسه بقوته الداخلية، بما يحمله من أسلوب وخيال وفكر. لا ضرورة للدفاع عن الشعر الجيد لأن قرّاءه يعرفونه ويعيشون معه
الجدوى الحقيقية هي أن نعاين مدى مساهمة الشعر الحديث في حياتنا المعاصرة، ودور شعرائه في تطوير الذوق العام، واللغة، والخيال، وتطويرهم لنقد السلطة، والمساهمة في بلورة المفاهيم مثل الشعب والمقاومة.. ضمن رؤية جديدة لا تستند إلى النقد القديم الذي يبحث عن جزالة اللغة وقوة التراكيب وعذوبة المنطق، بل إلى التعبير العميق عن الذات المجروحة، وعن المجتمع الذي تنتهكه السلطة والمال والقوى الكبرى، من خلال لغة تشبه زمانها، وأسلوب حيوي، وفكر متقد.
يضاف إلى ذلك، أن هناك مواجهات أخرى أشد يجب التنبه لها، تكمن في العزوف عن القراءة عند الجيل الجديد، وتراجع قيمة الكتاب الورقي بشكل عام، وعدم الإقبال على الشعر عند الناشئة، وفوق ذلك كله تراجع العلاقة مع اللغة ككلّ لصالح بناء علاقة مع الصورة.
إمتاع ومؤانسة
يغفل صاحب صفحة الأمالي قيمة أساسية في الفن والأدب، ألا وهي المتعة. لكن أي متعة يمكن أن يجنيها الجمهور العريض حين يأتيه من يحدثه بلغة عربية بائدة، وينكر عليه التطور اللغوي الهائل الذي حدث للغتنا وأعطاها الخفة والرشاقة والحيوية، كي تتوافق مع روح الأزمنة الجديدة، التي تحيا بمفاهيم الحقوق والاحترام والحوار، لا بالإملاء والفرض.
ولأن اللغة في الأدب تحمل الفكرة وتشكل السياق الذي تتحرك في داخله الأفكار، يغدو مستحيلًا كتابة رواية أو قصيدة، أو حتى مقالة، بلغة المتنبي أو أبي تمام فهذه هي التي ستكون متاهة الإبهام والغموض التي نضع فيها المتلقي.
وطبعًا ليس لنا إلا أن نوافق صاحب الأمالي على التقيد بأصول النحو والصرف، فهذه بديهية في الكتابة.
اللغة وسيلة للفهم
من ناحية الشكل، أبدع الفن المعاصر الحداثي أساليب شتى مبتكرة، استطاعت أن تصل إلى أذواق الناس بمختلف فئاتهم، وطالت إبداعاته كافة المجالات، كالشعر الحر وقصيدة النثر وفن السينما والمسرح والفنون التشكيلية والتصوير والرقص، وترافق كل ذلك مع ثورة علمية لقحت الفنون كافة، وأكبر دليل على هذا التلاقح هو التغير الجذري في الرسم الذي أدى إليه اختراع الكاميرا، والفنون البصرة التي أدخلت إلى المسرح، والتقنيات الحديثة التي أثرت في السينما، وبالتالي، وجدت مساحة شاسعة للخلق والابتكار والابداع، ولم تكن اللغة العربية بعيدة عن التأثر بالحداثة الغربية والتفاعل معها، وإن بقدر سلبي أكبر من الإيجابية.
ومن ناحية المضمون، استطاع الفن المعاصر الحداثي التعبير عن روح العصر، فلم يكن هناك سبيل للاكتفاء بما أنتج في الماضي للتعبير عن قضايا الحياة المعاصرة وعبثيتها، وبذلك صار الفن المعاصر أكثر تحفيزًا للخيال والتخييل. لكن المضمون يعني الفكرة والأسلوب وهي عناصر فنية يجب أن تصل إلى المتلقي وإلا لفظها وابتعد عنها.
عالم اليوم يعتمد على الفكرة المقدمة بسهولة وبساطة، على أن تحمل عمقًا فنيًا وطرحًا مبتكرًا وأصيلًا. واللغة العربية الآن، وبالرغم مما يظنه البعض، قادرة على حمل الفكرة العميقة والمركّبة، والدليل على ذلك شعر الزجل الذي يفيض بالجمالية، وأشعار محمود درويش أو نزار قباني، أو شعراء الأجيال اللاحقة كأمجد ناصر وبسام حجّار ووديع سعادة، ممّن طوعوا اللغة لخدمتهم ولم يكونوا أسرى لمفاهيم منقرضة.
عالم اليوم قائم على التلاقي والتجاور، إنه عالم الحوار والتفاهم. تحت تغريدة في تويتر عن المتنبي هناك فكرة لشابة أو شاب عن شأن حياتي أو أدبي. وإن كان هناك من يريد أن يلغي أجزاء الزمن لصالح الماضي فليس بوسعنا سوى أن ندعوه إلى مراقبة التجاور العظيم في الشاشات لنقول له: هذه هي الجدارية الأجدر بالحياة.