لو أردنا إجراء مقارنة بين نتائج الحربين العالميتين، الأولى والثانية، بأحداثهما وانعكاسات هذه الأحداث، نعرف إلى أي مدى يمكن أن تكون نتائج الحرب العالمية الثانية كئيبة بالنسبة إلى الفرنسيين. فالحرب انتهت ولم تكن فرنسا من الرابحين، كعنصر أساسي قدر ما كسبت كعنصر داعم ورديف بين العملاقين أمريكا والاتحاد السوفييتي. إلا أنّ مشاركتها الحية في التحرير من الاحتلال الألماني لها أنقذ ما يسميه الفرنسيون "الشرف القومي"، وحتى لو كانت هذه المشاركة عنصر تعزية للذات أكثر مما هي انتصار فعلي.
هذا الواقع الذي نرويه هنا لم يكن بعيدًا عن الواقع الثقافي، وبالتالي الشعري. فالأدباء، كسائر المواطنين الفرنسيين، كانوا في أتون الحرب والاحتلال والمشاركة في المقاومة. وبعضهم، كما حصل في حرب 1914، قد قتل كبول نيزان في 1940، جان بريفوست وسانت أكزوبري في 1944، وبعضهم نفي إلى الخارج، البعض الآخر تواطأ مع الاحتلال النازي، والآخر ناضل في مقاومة هذا الاحتلال. في صف المتواطئين مع النازية كان دريو ده لاروشيل، وقد انتحر في 1945. ومنهم من هاجر: بريتون ذهب إلى نيويورك، وبنجمان بيريه إلى المكسيك، وجورج برناموس إلى البرازيل وسان جون برس إلى الولايات المتحدة، وأندريه جيد إلى أفريقيا الشمالية. أما الذين بقوا في فرنسا وانتموا إلى جبهة مقاومة النازية فمنهم أندريه مالرو، ورينيه شار ولويس آراغون، وبول ايلويار وبيار ايمانويل، والبير كامو وفرنسوا مورياك وجان بولان. المقاومة هذه جمعت مجمل التناقضات من طرف اليمين إلى أقصى اليسار: الشيوعيين والمسيحيين والديمقراطيين الثوريين، طبعًا، مع انتهاء المقاومة تفرق كل هؤلاء.
في فرنسا، كان شاهدًا تاريخيًا والتزامًا يوميًا. كان دور الشاعر فيه المشاركة في التاريخ من خلال أدب المقاومة. كان أداة نضالية وتحريضية، ولهذا لم يستطع أن يعيش، أو أن يصمد بعد انتهاء الاحتلال والحرب
في هذه المرحلة، الشعر كان شاهدًا تاريخيًا والتزامًا يوميًا. كان دور الشاعر فيه المشاركة في التاريخ من خلال أدب المقاومة. كان أداة نضالية وتحريضية، ولهذا لم يستطع أن يعيش، أو أن يصمد بعد انتهاء الاحتلال والحرب. كان بمثابة الزمن الميت للشعر.
في 1945، بدت الحاجة إلى جيل جديد يعقب جيل 1900 (كلوديل، جيد، فاليري) أو جيل 1925 (مورياك، مونتيرلان وجيرودو). وبرز كامو وسارتر كبديلين. لكن إلى أهمية الحضور الذي احتلاه في تلك الفترة من خلال الوجودية، إلا أن هذا المذهب، كان أبعد من أن يلعب الدور الكبير الذي لعبته السريالية في العشرينات أي بعد الحرب العالمية الأولى، لا سيما وأن الوجودية لم تعط أعمالًا مهمة خارج روادها: سارتر، كامو، دوبوفوار. والحزب الشيوعي، بسبب مبالغته في اتجاهه المحافظ، وحرفيته الأرثوذكسية السياسية لم يستطع خلق جماعة أدبية حقيقية.
في هذه الأثناء عاد أندريه بريتون من الولايات المتحدة، وحاول إعادة النفس إلى السريالية، لكن القطار كان قد فاتها، وإن برزت مواهب قليلة أهمها جوليان غريك وأندريه بيار ده مانديارغ، إلى جانب بعض الأصوات القديمة كجان آرب، وبيريه. إنما صدى العشرينات الذي انتشر كالنار، تحول اليوم إلى صدى ضعيف لاهث.
كما أنّ هذه المرحلة شهدت موت بطاركة شعر العشرينيات كرومان رولان وفاليري وجيد وكلوديل.
وإذا كانت السريالية كمدرسة قد ولت، واستمرت على شكل أو آخر من ضمن أثرها المباشر أو غير المباشر، فإنه بعد 1945، انقضى زمن المدارس والحركات الشعرية. صار كل شاعر هو مدرسة نفسه. صارت التجربة الفردية هي أساس التجربة الشعرية، وهذا ما أعطى تنوعًا وخصبًا وحرية للشعر. لكن، وفي غياب أصوات شعرية كبيرة، من جيل بداية القرن، طلعت أصوات لا تقل أهمية عن تلك ولو كانت قد بدأت تقدم عطاءاتها في الفترة السابقة للحرب أي في الثلاثينيات، منها: رينه شار، وهنري ميشو، وسان جون برس، وسوبرفيال، فرانسي بونج، وبيار جان جوف، وبيار ايمانويل، وجاك بريفير. رغم اشتهار هؤلاء الشعراء يجب الإلتفات إلى العزلة التي بدأ يعانيها الشعر، وبالتالي عزلة هؤلاء الشعراء أيًا كانوا، إلى حد كبير-باستثناء بريفير- من دون جماهير، من دون قاعدة ولو نسبية من القراء. كان الشعر قارة واسعة وصار جزيرة.
بيار جان جوف.. قصيدة اليأس والهواجس
يرتبط شعر بيار جان جوف بتيارات شعرية وروحية معاصرة، كالإجماعية Unanimisme والفرويدية والمسيحية والتاوية، من دون أن يرتهن بأحدها دون الآخر. فكأنه يقترب من كل منها على انفراد، أو في عزلة، أنه شعر اليأس في النهاية. اليأس اليومي، المتجدد باستمرار.
ولعل اعتبار جوف أن الفن عمل مستقل بذاته، أي مستقل عن القارىء، واعتماده اللعبة الشعرية المكثفة، والمتنوعة والخصبة في كثافتها، جعلت شعره، بعيدًا عن متناول الجمهور العريض. وسمت شعره بغموض الجوانيات الذي ينعكس على بنية اللغة وتركيبها الداخلي.
يرتبط شعر بيار جان جوف بتيارات شعرية وروحية معاصرة، كالاجماعية والفرويدية والمسيحية والتاوية، من دون أن يرتهن بأحدها دون الآخر
إنه شاعر الهواجس السرية بامتياز، يستعير من فرويد رموزه الجنسية، وبدل أن ينقلها في مادتها الفرودية المشكلة، المصنفة، تراه يفجرها، في كل اتجاه، ويربطها بالمعنى المسيحي. العالم السفلي بكل وحوشه، ومسوخه عنده "الأعلى"، إنه صراع الأبيض والأسود، الشيطان والملاك الذي ميز تجربة بودلير، في قلق صوفي وروحي لا قرار له.
رينيه شار.. كثافة الصورة واللغة المرصوصة
من كبار الشعراء الفرنسيين المعاصرين، ومن أكثرهم تجددًا وتجاوزا لنفسه، وللغته. عاش المرحلة السريالية وعبر عنها في "المطرقة بلا معلم". كما عاش تجربة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي وعبر عنها، ولو جاء شعره في هذه المرحلة، تطغى عليه الشهادة أكثر مما تطغى عليه الهموم الفنية الكبيرة. لكن بعد انتهاء الحرب، وانتهاء الاحتلال، انعزل شار عن العالم الأدبي "وتنسك" في الريف بعيدًا عن المدينة وعن جلبتها وضوضائها وتفاصيلها.
أعماله "القصيدة المسحوقة" (1947)، و"الصباحيات" (1950) "إلى دعة متشنجة" (1951)، و"الكلمة أرخبيلًا" (1962)، "المطر الطريدي" (1968)، تؤكد أهمية نتاج يتطور في العمق، من دون أن يخون طموحاته الأولى، الساعية إلى مصالحه مع العالم بجماله وطيبته.
أول مصالحة أدركها شار هي مصالحة الشعر والكتابة. معه يصبح الشعر عملًا مكتوبًا.
لغة شار الشعرية تحاول مركزة الطاقة التي تهدرها التشاكيل السائدة والشعر السردي. والصورة في معظم الأحيان، هي التي تقبض هذه الطاقة، وتحررها في آن معًا.
وقد يكون تكثيف الصورة، ورص اللغة، من دون فقدانها شفافيتها وماويتها، ما يجعل شعره صعبًا بالنسبة إلى الجمهور. ولعل ابتعاده عن الغنائية السائدة، من خلال تجديدها، يضيف حساسية داخلية جديدة. فهي ليست الغنائية العاطفية والفردية قدر ما هي غنائية تقترح على الانسان حياة فضلى في محيطه الإنساني والاجتماعي والروحي.
هنري ميشو.. الشعر بعيدًا عن الغاية الفنية
عاصر السريالية في بداية كتابته، من دون أن ينتمي إليها ولا إلى أي مدرسة أخرى، هنري ميشو ضد أي نموذج ماض وضد أي تجمع وأي تيار جماعي، أو تقليد أدبي..
الشعر بالنسبة إليه يتجاوز كل هم جمالي، وكل هدف فني: الشعر وسيلة خلاص للروح، وليست غاية فنية.
مشروع الخلاص هذا كان بالنسبة إليه بحثا عن "الجوهر" الذي يعتقد أنه، منذ طفولته،"موجود في مكان" وعليه أن يعثر عليه.
وعملية البحث هذه، تحسها منهجية عنده لعوالم متنوعة: بلاد بعيدة وسرية في الأرض، بلاد أخرى أبعد وأكثر توغلا، بلاد الروح، يسعى إليها بالمخدرات والأحلام، بحيث يصبح العمل نوعا من المذكرات والتسجيلات لمجمل هذه العوالم.
"إكوادور" (1929) و "بربري في آسيا" (1930) يمزجان وصف أمريكا الجنوبية والهند والصين واليابان وبالقصائد. بعد هذه الرحلات، يتضاءل الشاعر إلى نفسه في سفر في داخله. وبموضوعية الجغرافي والاتني، يخلق ميشو عالمًا غرائبيًا مذهلًا في "سفر في كراباني الكبيرة" (1936)، "في بلاد السحر" (1941) "هنا، بوديما" (1946)، ويصور القبائل والأقوام المقلقة في "ميدوزيم" (1948) أو الظواهر المتهددة في "الحياة في الثنايا" (1949). هذا العالم الناهض في وجه العالم الحقيقي، لا يشكل غالبًا مكانًا للسعادة وللحرية الخلاقة كسند الانسان، ولا يسعى إلى إبدال رعب الواقع بالحلم الهني، وإنما، يسعى إلى الكشف عنه من موقع إدانته. إن هذا الصراع مع العالم، هو "صراع مع اللغة".
وكما أن هذا الصراع غير موحد الاتجاه، أو المنحى فمن الطبيعي أن تكون اللغة من ضمن هذا التنوع. ولهذا، ومن خلال عدم الاستقرار في "لغة" ما، أحدث ميشو مزجًا بين النثر والشعر، أو بالأحرى اختلاطًا في مفاهيم الكتابة الشعرية. لقد عدد الكتابة الشعرية حتى أدرك النثر في غير قصيدة وفي غير شخصية وفي غير عمل. فهو تارة، يكتب لغة نثرية مباشرة لا تحمل شيئًا من الشعر، وأخرى ينساق في هلوسة سريالية، وأخرى في شطحة صوفية، وأخرى في استغراق غنائي، وأخرى يقع في القصة، وأخرى في الخرافة.
هذا هو ميشو، مختبر تجارب للمغامرة الكتابية في أقصى احتمالاتها وإمكانياتها. لكن ما نسأله هنا: ألا تغامر هذه المغامرة بالشعر؟ اتساعه هذا، وإن من ضمن رؤيا شعرية، ألا يوقعه في التبعثر، وفي الثرثرة، وفي الكلام الذي لا معنى له؟ مشكلة ميشو، في أنه يكتب تجربة وينتقل إلى أخرى، قاطعًا عليها كل إمكانية امتداد ونمو. إنه جامع الأساليب وجامع الكلام، لكنه ليس دائمًا جامع الشعر.