اتخذ الشعر العربي الحديث، شعر الحداثة خاصة، بمجمله طابعًا بلاغيًا، وذلك عبر / أو من خلال التأكيد الشديد اللهجة على أن الشعر هو اللغة ذاتها، وأنه لا فصل، بأي شكل كان، بين الشعر وبين لغته، فكانت الاستجابة القصوى لهذا التأكيد تتمثل في العبور نحو البلاغة. فتعقدت الجملة الشعرية، وازدادت المسافة بين المفردات إلى درجة يصعب ردمها، وتحكمت إيديولوجية اللغة، أو اللغة كإيديولوجية، بمفاصل القصيدة، الأمر الذي أدى إلى أن القصيدة الحديثة راحت تحلّق عاليًا عاليًا في السماوات، وبدا أنه لا توجد أرض يقف عليها الشعراء ويعيشون فوقها، بل إنهم كائنات أثيرية لا يخاطبون أحدًا، أو إنهم إذا ما ادّعوا أنهم يخاطبون أحدًا، فإنه، بالتأكيد، لا يسمعهم، لشدة وجودهم في السماء، ولشدة وجوده على الأرض!
بدت القصيدة الحديثة عبارة عن بحيرة لغوية تتصارع فيها الدوال والمدلولات صراعًا لا هوادة فيه
بدت القصيدة الحديثة عبارة عن بحيرة لغوية تتصارع فيها الدوال والمدلولات صراعًا لا هوادة فيه، وبدا الدال فيها هاربًا من أي مدلول قد يدل عليه، إذ يتوجب على القصيدة الحديثة، وفق منظّريها، ألا تركن، إلا بعد لأي، لمعنى! وربما، حتى بعد لأي، لا تركن!
اقرأ/ي أيضًا: نهاية الشعر العربي
إضافة إلى هذا الغلوّ بالبلاغة، وهذا العلوّ عن القارئ، وعن الأرض، وعن الحياة المرئية، اهتمت القصيدة الحديثة بالأبطال، بالإنسان القادر، بالقوي، بالمحارب... إلى آخر ما هنالك. فيما بدا البسطاء والمغلوبون والمهمشون... مجرد يافطات يرفعها الشعراء بين الحين والآخر على سبيل الظهور بمظهر المنتمي لا أكثر، فلا الشعراء وضعوهم في متن قصيدتهم، ولا أولئك نظروا إليهم في أية مرة نظرة جدية، أو أخذوهم على محمل الجد حتى لو عرفوا أسماءهم أو أسماء بعضهم، فبقوا متروكين للريح. كان التعبير الأكثر صراحة في هذا نظرة الشعراء إلى أنفسهم على أنهم الراؤون، الأنبياء، الخالقون.
وبوصفهم شعراء من هذا العيار "الضخم" كانوا أن أتوا بموضوعات لا تقل ضخامة: التغيير، التحرير، التحرر، البعث من الرماد، مواجهة العالم والطبيعة... وقد أدّوا هذه الموضوعات –الدعوات بيقينية لا يخالجها أدنى شك! ولم لا؟ أليسوا الخالقين؟
كان لا بد أن يتغير هذا الوضع الشعري المتعالي، ساعد على ذلك تغيّر المرحلة التاريخية التي ظهر فيها الشعر الحديث، وبخاصة شعر الحداثة الذي أسس لكل تلك الصيغ المستحكمة وتأسس فيها. إذ تبين أن تلك الأفكار التي تبنتها الحداثة وهي أفكار التحرر والتحرير والمواجهة وبناء المجتمع والدولة... إلى آخره، لم تكن أكثر من أوهام دفعت ثمنها الشعوب العربية وشعوب المنطقة الكثير من جانب، وشعارات تسلّقها السياسيون للوصول إلى السلطة والتأبيد فيها من جانب آخر، فظهر شعر جديد على تضاد مع القصيدة الحديثة على أكثر من وجه.
غالباً، اتخذ هذا الشعر الجديد شكل قصيدة النثر التي تخطّت أولًا الوزن الشعري، وهو هنا التفعيلة، الذي اتخذته القصيدة الحديثة في مسار انقلابها على الشعر التقليدي. وقد نظّر أصحاب هذا الاتجاه لأنواع أخرى من الموسيقى خاصة بقصيدة النثر، بدعوى أن التفعيلة، كما البحور، نوع من الموسيقى الخارجية، فيما موسيقى قصيدة النثر داخلية. فيما أرى، شخصيًا، أن الموسيقى نوع يهتم به علم الموسيقى لا الشعر، وهكذا...
ونظر –الشعر الجديد- إلى البلاغة، غالبًا أيضًا، نظرة مستريبة نافيًا أن تكون حاملًا للشعر، فلجأ إلى لغة غير معقدة، بسيطة، هي لغة الناس في حياتهم اليومية كما زعم.
وانقلب، إلى درجات كبيرة، على تلك الأفكار والصيغ التي لاكها الشعر الحديث طويلًا. فنظر ليس إلى البطل والمحارب وشديد البأس، بل إلى الإنسان "الصغير" وفق تعبير رايش، وإلى الأشياء في وجودها اليومي والعابر والبسيط.
هذه المسائل تعتبر وفق وجهة نظر الكثيرين إيجابية، لصالح الشعر ولصالح الحياة اليومية للبشر، لكن المشكلة ظهرت بعمق وبشدة عندما كتب العديد من أولئك الشعراء الذين ظهروا ،عربيًا، ابتداءً من سبعينيات القرن العشرين بلغة الناس ذاتها التي يتحدثون فيها، بلغة التداول اليومي، فلم يعد ثمة فرق بين لغة الشعر ولغة الحديث اليومي سوى أن لغة الشعر فصيحة! بالأحرى لم يعد ثمة فرق بين الشعر والنثر، وبدا أن تقطيع القصيدة إلى أسطر غير قادر على تحويل ذلك الكلام الذي يُكتب على أنه شعرٌ إلى شعرٍ فعلًا!
بدا أن تقطيع القصيدة إلى أسطر غير قادر على تحويل ذلك الكلام الذي يُكتب على أنه شعرٌ إلى شعرٍ فعلًا!
عندما ظهر ذلك الشعر أطلق عليه بعض أصحابه وبعض النقاد مصطلح: "الشعر الشفوي" قاصدين بذلك أن الشاعر يكتب مثلما يتكلم، وهذه شفوية فعلًا، إنما من نوع آخر.
اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة
من المعروف أن الشعر الشفوي، ذلك الذي ظهر في عصور ما قبل الكتابة، كان يعتمد عدة تقنيات أهمها، بل على رأسها: الصيغة، وكانت تقاس براعة الشاعر في طريقة استخدامه لها، وقدرته على إيصال/ أو خلق معنى عبر استخدام هذه الصيغ "الملقاة على قارعة الطريق"! لكن حتى في تلك العصور لم يكن الشعراء يصوغون قصائدهم كما يتكلمون، وإن كان ذلك الشعر قريبًا من الناس، حسيًا، إذ إن الكلمة هي ذاتها الشيء، أي أن الدال هو ذاته ما يدل عليه، إلا أن الصيغ هي ما أسسه الشعراء جيلًا بعد جيل، ولم تكن هذه الصيغ هي ذاتها التي يتحدث بها الناس، صحيح أن نمط التفكير الشفوي يقوم أيضًا على الصيغ، إلا أنها، شعريًا، تُنقل من مكان إلى آخر في القصيدة، وبالتالي يمكن أن يتم منحها معنى ليس هو نفسه في كل مرة! فلم تقدم لنا مرويات الناس في العصر الجاهلي، مثلًا، أنهم كانوا يقولون خلال أحاديثهم: "يعلو بها حَدَبَ الإكام"! أو "أغتدي والطير في وكناتها"... الأمر الذي يعني أن الشفوية هي لغة الناس لكن على نحو شعري، أما أن تكون هي ذاتها لغة الناس في الحديث اليومي فذلك ينزع عنها صفة الشعرية، لتكون كلاماً، مجرد كلام!
لقد قال دارسو هوميروس إن لغة ملحمتيه ليست هي اليونانية التي تكلم بها الناس في عصره، بل هي لغة خاصة أسّسها الشعراء واستخدموها جيلًا إثر جيل، وقال دارسو الشعر الجاهلي إن لغته هي لغة أدبية خاصة، هي من ضمن لهجات العرب التي كانوا يتحدثون بها، إلا أنها مختلفة عنها جميعًا بوصفها لغة أدبية خاصة استخدمها الشعراء في قصائدهم.
اقرأ/ي أيضًا: