في سعينا لكتابة الشعر يبادرنا السؤال لمن نكتب وإذا ما كان الذي نكتبه نتوجه به إلى قارئ معين؟ وفي التساؤل هذا نجد أنفسنا في دائرة تساؤلات أخرى تتراوح بين وظيفة هذا العمل وقدرته أن يؤدي وظيفته هذه. وهذا التساؤل يتراوح بين حدي موت النص، أي عدم قدرته على إنجاز وظيفته وبين موت كاتبه. وبين هذين الموتين يبادرنا ظن بأنه ربما يكون قد مات القارئ الذي نصنعه ونقيم معه الصلة ونتوجه إليه حينما نكتب. وهذا التفكير في موت هؤلاء هو معضلة تواجهها الثقافة في قدرتها على إنتاج تصورات وتمثيلات معرفية وأدوات مخاطبة وتواصل بين كاتب الشعر ونصه وقارئه. ولكن ما هو بالضبط هذا الشيء الذي مات؟ ما هو هذا الموت؟ الكاتب مات، القارئ مات، القصة ماتت والشعر مات. ما هو هذا الموت السوسيولوجي للمنتج والمتلقي والنتاج والنمط على حد سواء؟
ماتت السبل إلى الفكرة والتصور والمكان والطريق إليها وبها. ماتت الأدوات التي من خلالها نحيا لنربط أنفسنا بتصورنا عن ذاتنا. مات الحلم بخصائصه التي كنا نعرفها
أحسب أن ما مات هو طرقنا التي نسلكها إلى ميراثنا في هذه الثقافة. جسور العبور إلى ورثتنا فيها، ما نعرفه وما كنا متعودين عليه وآمالنا فيه ورهاننا عليه. ماتت السبل إلى الفكرة والتصور والمكان والطريق إليها وبها. ماتت الأدوات التي من خلالها نحيا لنربط أنفسنا بتصورنا عن ذاتنا. مات الحلم بخصائصه التي كنا نعرفها. غير أنه ما زال هناك كائن ومازالت هناك سلطة ومازال هناك ماض ومازال هناك مستقبل. مازال هناك "واقع" نحاول أن نتصل به، وفي هذه الهوة المعتمة تقيم لغتنا.
أحسب أن الشاعر بسام حجار كان قد سبقنا إلى هذه النقطة في مستهل "سوف تحيا من بعدي" وفي "مديح الخيانة" وفيهما يرى أن ما ورثه كان لغة مكان فقد قدرته على إقناع أهله بالانتماء اليه. وهذا إرث ثقيل يجثم فوق سعي أجيال الثقافة تلك، تدفعها إلى القناعة بوجوب تحرير الوجدان ومطابقته مع اللغة في معركة تحريرها وتدعيمها "بإرادة الشعر". أي جعل الشعر إرادة فوق كل شيء وقبل كل شيء ليكون ويصير شعرًا. فالانتماء إلى تلك الإرادة هو ما يمكّن الشعر أن يصبح أداة لصناعة المعنى عوضًا عن السقوط في صحراء الكنايات والتشابيه الوافرة التي انتجتها حداثتنا المشرقية والعربية، ولكن دون حياة ووظيفة لها. وبهذا حاول بسام حجار أن يخرج آنذاك مما يقول فيه: رطانة أحدثتها الثورات في اللغة وفي تصورات الشعر عن مواضيعه، إلى تقشف في العبارات وكتابة في العزلات والعتمة هربا من "ثراء لغوي مذهل لأرض معلقة وقفر" فأقام على العتبة وفي المفترقات. وفي إقامته هذه، أسس للموت وشيده قبل أن يموت هو جسديًا. أسس صور النهايات السوسيولوجية عبر اللغة.
وأحسب أن ثقافتنا الآن في مكان متقدم في هذا الموت. فما بقي منا هو كائنات فقدت أدواتها التعبيرية عن تصورها عن ذاتها في الإطار المعرفي الذي كانت تعرفه وتقيم فيه، كبنية اجتماعية وسياسية تعبر من خلالها عن وجودها وتطلعاتها. اللبنانيون خاصة، شيدوا مشهدًا ثقافيًا غنيًا فوق فقاعة تاريخية انفجرت نهائيًا وهي الآن تتلاشى في التاريخ رويدًا رويدًا. وفي إقامتهم في هذا الموت المتمدد منذ حين لطالما حاولوا بناء جيب في معدته. وفي هذه المغالبة في اعتراضهم الثقافي وتمثيلهم التجديد في اللغة والشعر والرواية كانوا يعتلون رأس الرمح في اتصالهم بالأنساق الحداثية العالمية، فكان انتسابهم لهذه الأنساق حجتهم في أنهم يغيرون الواقع عبر اتصالهم هذا. وكان هذا الاتصال على قدر متواز مع ارتهان السياسة للمحاور والأيديولوجيات على اشكالها. وكانت اللغة آنذاك أداة تكييف، أكان التكييف انتسابًا للسياسة أو مجابهة لعسفها وفشلها في تمتين بنية تحميهم عند كل انهيار. وفي هذه المعاندة مع الموت ورفضه كان الشعر وإرادته محاولة قول خارج سطوة الموت، إنما في حضرته المتمددة. وفي هذا كان الظن ان إرادة الشعر هي مفتاح النور للخروج من الموت.
غير أن ما شيده هؤلاء كان فتنة تنكبت بناء روح غاوية امتصت حواسهم وحواس من حولهم في سلم يصعد بحرية في أفق الاحتمال. احتمال أن يكونوا غيرهم في ما سيصيرون إليه. فكانوا تارة قاطرة الثقافة العربية، يحركوها باعتراضهم على رطانتها بسحبها إلى انعتاق من سطوة خطاباتها المتنوعة وجرها إلى حداثة غربية. وطورا أقاموا في قلبها، يهتفون بصوت انطباعي رومانسي مغال في مزايدته على عروبيتها واشتراكيتها. وفي هذا المقام أو ذاك كانوا يمثلون قدرهم في الروايات المتناحرة في متن الأساطير المتهالكة وأيديولوجياتها ومشاريعها. بعد موت هذا كله وتناثر المكان أمامهم، لم يبق لهم إلا الإقامة في حضرة موت مصادرهم كلها. فتسيد التقني جعل من تلك المصادر مجاميع أنصاب تساعد في حياكة النوستالجيا وصناعة حنين إلى الخسارة وإلى الأدلة في الانتساب اليها. وهذا الموقع في الخسارة ليس فريدًا أو وحيدًا، بل هو موت متصل بموت كوني آخر أصاب مناهج تفكير وتأويل بدأت طلائعه تظهر في انحسار الفلسفة والعلوم الإنسانية والفينومونولوجيا أمام تمدد الرياضيات والعقل البرمجي وعلوم الأعصاب التي سيطرت منذ حين على أدوات التعبير ومصادر الإحالات وأولويات تمظهر الذات وأشيائها.
على الشعر أن يخرج من الأرشيف ويستقل عن النوستالجيا، أو بمعنى أدق أن يتخذ الشعر من النوستالجيا أرشيفًا، أي يتخذها أداة تأريخية لمعرفة التاريخ دون توقع استعادته
غير أن ما لم يفعله هؤلاء في الموت هذا، هو الاستدارة إلى الاستحالات في تمظهرها عند كل مفترق وفي كل مشروع أُخذوا إليه صاغرين أم انتسبوا إليه طواعية. وفي هذا الموت المتمدد يجد الشعر نفسه يراوح في هذا البطن المنتفخ، تتقاذفه مراوحة تفتيش عن صوت يناديه أو ضوء يأتي إليه كوعد بالإمكانية في تصور مستل من كينونة أفلت. وهذا محرك يدور على وقود النوستالجيا التي في حالتنا هذه لا تفضي إلا إلى تصور عن عودة ما. أي الى إعادة صناعة الاحتمال وتجاهل الاستحالة.
أحسب أنه على الشعر هنا أن يخرج من الأرشيف ويستقل عن النوستالجيا، أو بمعنى أدق أن يتخذ الشعر من النوستالجيا أرشيفًا، أي يتخذها أداة تأريخية لمعرفة التاريخ دون توقع استعادته.