أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول تايوان جملة من ردود الفعل الغاضبة في الولايات المتحدة، وسلطت الضوء على جملة من نقاط الخلاف حول العديد من القضايا بين الولايات المتحدة والدولة الأوروبية الحليفة.
عقب تصريحات ماكرون حول الصين وتايوان، انطلقت موجة واسعة من ردود الفعل المعارضة، وبالأخص في الولايات المتحدة
بداية هذا التوتر، جاءت مع زيارة ماكرون إلى الصين، حيث وصل الرئيس الفرنسي إلى بكين محملًا بقناعة أن الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على التأثير الفوري والجذري على الموقف الروسي من الحرب في أوكرانيا، بحكم علاقتها القوية مع موسكو.
وتركزت مهمة ماكرون على استبعاد لغة التشدد التي ينتهجها الغرب تجاه الصين، مستخدمًا لغة الحوار الهادئة، على عكس رفيقته في الرحلة رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي انتقدت الصين قبل أسبوع من الزيارة، وهذا ما انعكس على استقبالها البارد، مقابل استقال "أكثر حميمية" للرئيس الفرنسي، بحسب وصف الصحف الغربية.
تضمنت لغة ماكرون، الإقرار بكون بكين هي لاعب أساسي في العالم، وقوة لا يمكن تجاهلها، وفق قناعاته التي عبر عنها، محاولًا استقطاب بكين تجاه الغرب، بدلًا من دفعها باتجاه روسيا. ورغم ما سبق، إلّا أن ماكرون أخفق في إقناع الرئيس الصيني بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، بشكلٍ علني. ولم تخالف نتائج زيارة ماكرون للصين تقديرات الدول الغربية لها، التي لم تعول على الزيارة، وشككت في إمكانية "ثني الصين عن التقارب مع روسيا".
إلى جانب التشكيك في جدوى الزيارة، انتقدت عدة صحف غربية، ترتيبات الزيارة، خاصةً مع التقليل من أهمية حضور الموضة الأوروبية، حيث تم استبعاد فون دير لاين من الحضور في العديد من المحطات المهمة خلال الزيارة، مقابل احتفاء صيني بالرئيس الفرنسي ماكرون. وحصل حفل استقبال ماكرون في بكين، على أصداء واسعة في وسائل الإعلام الغربية. وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن "زيارة ماكرون تقوّض الجهود الأمريكية الرامية لاحتواء نفوذ النظام الاستبدادي بقيادة الرئيس الصيني شي جين بينغ".
بدورها، انتقدت صحيفة "تلغراف" البريطانية الزيارة، التي أظهرت "مدى انبطاح الرئيس الفرنسي أمام زعيم الصين القوي شي جين بينغ". وأشار محرر الشؤون العسكرية في الصحيفة، إلى أنه إذا "أراد الغرب أن يصمد أمام تحدي الأجيال الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية، فإنه يحتاج إلى إظهار القوة والعزم، وليس ذلك المشهد المخزي لماكرون وفون دير لاين في زيارتهما إلى بكين، على أمل أن يتمكنا من حشد دعم شي لإنهاء الحرب في أوكرانيا وتطوير علاقة أكثر إيجابية مع الغرب"، على حدِّ تعبيره.
تفجير الموقف
خلال رحلة العودة، أجرى الرئيس الفرنسي لقاءً صحفيًا، مع صحيفة "Les Echos" الاقتصادية الفرنسية و"Politico" الأمريكية، في الطائرة التي عادت به إلى باريس.
وخلال المقابلة تطرق إلى التصعيد الصيني في تايوان، قائلًا: إن "أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا نحن الأوروبيين يجب أن نكون أتباعًا في مسألة تايوان، وأن نتكيّف مع الإيقاع الأمريكي ورد الفعل الصيني المبالغ فيه".
وأصاف "لماذا علينا اتباع الإيقاع الذي يختاره غيرنا؟ في مرحلة ما، علينا أن نطرح على أنفسنا سؤال ’أين تكمن مصلحتنا؟’، علمًا أننا لا نريد الدخول في منطق القطب مقابل القطب". ودعا ماكرون أوروبا إلى "الاستيقاظ"، مضيفًا "أولويتنا ألا نتكيّف مع أجندة الآخرين في مختلف مناطق العالم".
وحذر ماكرون من خطورة الموقف الأوروبي الحالي، قائلًا: "سنصبح تابعين في حين أن لدينا القدرة على أن نكون القطب الثالث إذا كان لدينا بضع سنوات لتأسيسه". وتابع "يكمن التناقض في إرساء عناصر لاستقلال استراتيجي أوروبي حقيقي، وفي الوقت عينه اتباع السياسة الأمريكية".
ردود فعل
وأثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضجةً وغضبًا واسعًا في الدولة الغربية. فقد نشر السناتور في مجلس الشيوخ الأمريكي ماركو روبيو مقطعًا مصورًا على تويتر، قال فيه: "نحتاج أن نعرف ما إذا كان إيمانويل ماكرون يتحدث نيابةً عن أوروبا؟".
من جهته، قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مقابلة مع قناة فوكس نيوز، إن "ماكرون يتذلل للصين". وأضاف "فرنسا ذاهبة إلى الصين الآن". بينما قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي، قبل رحلته إلى واشنطن، إن "التحالف مع الولايات المتحدة هو الأساس المطلق لأمننا الذي يقوم على ركيزتين، التعاون الاقتصادي ومجال الدفاع".
أما خبير الشؤون الخارجية في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني المعارض نوربرت روتغن، فقد أشار إلى أن "ماكرون يعزل نفسه في أوروبا ويضعف الاتحاد الأوروبي ويناقض ما قالته رئيسة المفوضية الأوروبية في بكين".
في المقابل، قال جيريمي شابيرو، مدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن "الجدل الذي أثارته مقابلة ماكرون مع Les Echos لا يعني أن ماكرون كان مخطئًا.
وأضاف "أعتقد أن الغالبية العظمى من الزعماء الأوروبيين يتفقون على الرغبة في الحفاظ على بعض الاستقلالية عن الولايات المتحدة حيال العلاقة الأوروبية مع الصين، لكن في الواقع فإن تايوان مشكلتهم الحقيقية".
بدورها، أكّدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك خلال زيارة إلى بكين، يوم الخميس، أنّ الأوروبيين موحّدون في سياستهم تجاه الصين. وقالت بيربوك خلال مؤتمر صحافي في تيانجين في مستهلّ زيارتها الأولى إلى الصين، إنّ "موقفنا ليس موقفًا مشتركًا فحسب، لأنّه حين نتقاسم سوقًا مشتركةً لا يمكن أن تكون لدينا مواقف مختلفة تجاه أكبر شريك تجاري للاتّحاد الأوروبي".
فرنسا ترد
ومع تزايد حملة الانتقادات لتصريحات ماكرون، أصدرت الرئاسة الفرنسية بيانًا توضيحيًا حول تصريحات الرئيس الفرنسي عقب زيارته إلى الصين. وأكدت باريس أنها ليست على مسافة واحدة من واشنطن وبكين.
أضاف البيان: "الولايات المتحدة تظل حليفًا تتقاسم معه فرنسا قيمًا مشتركة، لكن العمل مع الصين ضروري لخفض التوترات العالمية". وأشار البيان إلى أن "الحفاظ على استقرار النظام العالمي يتطلب تجنب احتمال تورط الصين في الحرب بأوكرانيا، وأن العمل على قيام تعددية أقطاب فاعلة دوليًا هو أفضل طريقة للتعامل مع الصين وتجنب تفتت العالم".
التأكيد على التصريحات
وشدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء، خلال زيارة إلى هولندا، على أنّ التحالف مع الولايات المتّحدة لا يعني "التبعية لها"، مؤكدًا تمسّكه بتصريحاته حول تايوان.
وقال الرئيس الفرنسي في مؤتمر صحفي بعد اجتماع مع رئيس الوزراء الهولندي مارك روته في أمستردام، إن "تكون حليفًا لا يعني أن تكون تابعًا، ولا يعني أنه لم يعد من حقك أن يكون لك تفكيرك الخاص". وأضاف "ولا يعني أننا سنتبع أشخاصًا هم الأكثر تشددًا في بلد هو حليفنا"، في إشارة واضحة للحزب الجمهوري الأمريكي الذي يهاجم قادته الصين بشدّة.
وشدد ماكرون على أن "موقف فرنسا وأوروبا هو نفسه بالنسبة لتايوان"، وأضاف "نحن مع الوضع القائم، هذه السياسة ثابتة ولم تتغيّر".
رئيس المجلس الأوروبي يوافق ماكرون
وفي تعليقه، على تصريحات الرئيس الفرنسي حول ضرورة إيجاد قطب ثالث فيما يخص الأزمة في تايوان، سجل رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، موقفًا لافتًا يتماشى مع موقف الرئيس الفرنسي، قائلًا: إن "الزعماء الأوروبيين أصبحوا أكثر ميلًا إلى مسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتحقيق الموقف الاستراتيجي المستقل بعيدًا عن الولايات المتحدة".
شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء، خلال زيارة إلى هولندا، على أنّ التحالف مع الولايات المتّحدة لا يعني "التبعية لها"، مؤكدًا تمسّكه بتصريحاته حول تايوان
وأشار ميشيل إلى أن "الموقف السياسي الفرنسي لم يكن معزولًا بين زعماء الاتحاد الأوروبي". متابعًا القول: "بينما كان ماكرون يتحدث بصفته الرئيس الفرنسي، فإن وجهات نظره تعكس تحولًا متزايدًا بين قادة الاتحاد الأوروبي". وموقف ميشيل جاء خلال لقاء أجراه أمس الأربعاء مع برنامج "La faute à l’Europe" على قناة "France Info" الفرنسية.