في خضم الحرب الأهلية في ليبيا وتصاعد وتيرتها على الأرض وفي ظلّ تواصل جمود العملية السياسية لحلّ الأزمة، طفى على السطح فجأة ملف قد يزيد من الشرخ بين الليبيين يتعلق بالدعوة لتغيير علم البلاد ونشيدها الوطني. حيث وافق مجلس نواب الشعب الليبي مؤخرًا على مناقشة هذا المقترح الذي تقدّم به بعض النواب.
تمثل الدعوة لتغيير علم ليبيا ونشيدها الوطني ضربة رمزية موجعة في الوقت الحالي لكل محاولات رأب الصدع في النسيج المجتمعي الليبي
تعيش ليبيا، منذ قرابة ثلاث سنوات، انقسامًا مؤسساتيًا في ظلّ وجود 3 حكومات حاليًا، وقيادتين عسكريتين تدّعي كل منهما أنها تمثل الجيش الليبي، بل وشمل الانقسام المؤسسات العمومية على غرار البنك المركزي، غير أنه ظلّت عوامل مشتركة بين كل الفرقاء الليبيين أهمّها علم البلاد ونشيدها الوطني. ولذلك تمثل الدعوة لتغييرهما ضربة رمزية موجعة في الوقت الحالي لكل محاولات رأب الصدع في النسيج المجتمعي الليبي قبل إنهاء الخصومة بين القوى السياسية في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: 3 مؤشرات تقرع طبول المعركة الكبرى في ليبيا
وقد بدأ استعمال العلم الحالي بعيد اندلاع الثورة سنة 2011 وهو علم المملكة الليبية منذ الاستقلال سنة 1951 حتى انقلاب القذافي سنة 1969، الذي استبدله الرئيس المخلوع أكثر من مرّة حتى اعتمد العلم الأخضر منذ 1977 الذي يعكس أفكاره التي أوردها في كتابه الأخضر، وهو العلم الذي تم استبداله منذ صيف 2011 بعلم الاستقلال. وهو الذي تبنّاه مشروع الدستور المعتمد في نيسان/أبريل 2016، والذي يُنتظر الاستفتاء عليه.
أما بخصوص النشيد الوطني الحالي "يا بلادي"، فقد سبق وتمّ اعتماده للمرّة الأولى سنة 1955 قبل أن يستبدله لاحقًا القذافي بعيد انقلابه، ليستعيده الليبيون مجدّدًا كنشيد للثورة منذ أول أيامها سنة 2011. وهو نشيد ألفّه الشاعر التونسي البشير العريبي ولحنه الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب. واعتمد كذلك مشروع الدستور الحالي.
ليظلّ السؤال، لماذا يريد بعض أعضاء في مجلس النواب تغيير علم البلاد بما يزيد تأجيج الانقسام؟
يقول هؤلاء النواب إن "العلم والنشيد هما عائقان أمام تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة ويجب تغييرهما لتحقيق المصالحة"، وهذا التبرير يكشف علنًا للمرة الأولى وجود تحفّظ على علم البلاد ونشيدها من طرف ممثلين لمؤسسة سيادية في البلاد. وهذا التحفظ في الواقع هو تبنّي لموقف أنصار نظام القذافي الذين يعتبرون رموز البلاد بعد 2011 تمثل "نكبة فبراير" بتوصيفهم. حيث ما زالت تُرفع الأعلام الخضراء من بعض المليشيات العسكرية في المناطق التي ما زالت تدين بالولاء للنظام السابق.
يعزّز مقترح تغيير العلم الليبي من قراءة البعض لطبيعة الصراع في البلاد بأنه في الحقيقة صراع بين "نظام القذافي و"الثورة الليبية"
اقرأ/ي أيضًا: استقالة الكوني..تجديد لإعدام اتفاق الصخيرات
ويعزّز هذا المقترح المفاجئ من قراءة بعض القوى السياسية لطبيعة الصراع في البلاد بأنه في الحقيقة صراع بين "الفاتح" في إشارة لنظام القذافي و"فبراير" في إشارة للثورة، ذلك أن تكييف هذا التغيير المقترح كشرط لتحقيق المصالحة، يحمل ضمنًا عدم اعتراف بالثورة قبل ست سنوات. كما يعكس المقترح، من جانب آخر، تزايد نفوذ أنصار النظام السابق في البلاد حيث استغلّهم المشير حفتر كورقة لصالحه في معركته السياسية بل والعسكرية، ويكفي مثلا أن محمد بن نائل قائد كتائب القذافي في المنطقة الجنوبية إبان حرب التحرير، عاد لموقعه منذ أشهر كقائد عسكري ضمن قوات حفتر.
من زاوية أخرى، لا يبدو مقترح التغيير مستساغًا من الزاوية القانونية، ذلك أن مشروع الدستور الذي ينتظر الليبيون التصويت عليه، قد نظم هذه المسألة بصفة حصرية واعتمد العلم والنشيد الحاليين باتفاق بين أعضاء لجنة الستين التي تمثل مختلف القوى السياسية والاجتماعية في البلاد.
للآن، لقي هذا المقترح، ورغم اتجاه رئيس البرلمان عقيلة صالح لتعميمه على كل النواب بهدف مناقشته، رفضًا من عديد القوى السياسية بما فيها الممثلة في البرلمان على غرار كتلة "الميثاق" التي وصفت في بيان رسمي المقترح أنه "خلط للأوراق وزعزعة للرأي العام كون العلم والنشيد من الثوابت ولا يمكن المساس بها".
ولكن هذا المقترح يمثل بالنهاية تصعيدًا خطيرًا في الصراع الليبي لعمقه الرمزي، وطرحه في الوقت الحاضر، بغض النظر عن مدى تبنّيه، يساهم في إرباك الوضع في البلاد ويشير لعمق أزمتها، لتظلّ الخشية دائمة أن يكون المقترح مؤشرًا لنزعات انفصالية لتقسيم الدولة بما قد يكون بالون اختبار للرأي العام خاصة في المنطقة الشرقية. ولعلّه وإن كانت دوافع النزعات الانفصالية مازالت بيّنة في المشهد الليبي، فإن شبح الانقسام ما زال يرفضه الضمير الجمعي العام في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: